تمثل حالات عدم قدرة على الإنجاب زهاء 88 في المئة من حرمان بعض الأسر من زينة الحياة الدنيا. هذا يعني أن عقم الرجل هو السبب لحالة من كل ثماني حالات حرمان
(12 في المئة من الحالات). نتناول هنا أسباب ما يسمى «عقم» ، أو «عقرها».
في سبع حالات من ثمانٍ، مثلما ذكرنا، ينجم حرمان زوجين من نعمة أن يرزقوا بأولاد عن عدم قدرة الزوجة على الإنجاب، مقابل حالة واحدة من ثمان مردُّها عقم الرجل. لكن معظم المتخصصين باتوا يرفضون الحديث عن «عقم» و«عقر» و«عجز»، وما إلى ذلك من مصطلحات يعدّونها «سلبية». والسبب: تطور التقنيات الطبية في العقود الأخيرة إلى درجة بات فيها في الإمكان تلافي حالات قصور كثيرة، كانت تعدُّ في الماضي مستعصية ونهائية، من دون أي أمل في أي حل. ولسنا هنا في صد الحديث عن تلك التقنيات والحلول الجديدة، إنما نتطرق إلى أسباب قلة خصوبة بعض النساء (ونقول «قلة خصوبة» تفادياً لمفردات على شاكلة «عقم» و«عقر»).
تعريف
ويستحسن، قبل كل شيء، تعريف «عدم القدرة على الإنجاب»، أو «قلة الخصوبة» من المنظور الطبي: بحسب معظم الهيئات والمؤسات الطبية، لاسيما في أوروبا، تعد بأنها بلغت مرحلة عدم القدرة على الإنجاب، في حال ممارسة العلاقة الحميمة مع الزوج لمدة عامين بأكملهما من دون حصول حمل. لكن «منظمة الصحة العالمية» في تعريفها الرسمي، تتحدث عن عام واحد فقط من علاقة زوجية حميمة من دون حصول حمل. وفي الأحوال كلها، لا داعي بتاتاً للقل واليأس إن مضت بضعة شهور، وحتى عام وربما عامان، على الزواج من دون أن تحل بشرى الحمل. فالاهتمام بالأمر لا يصبح ضرورياً حقاً سوى بعد مضي سنتين من المحاولات غير المجدية. في هذه الحالة، ينبغي فعلاً الجوء إلى الطب المتخصص.
1 السن: عمر عامل بالغ الأهمية في درجة خصوبتها، التي تنخفض تدريجياً، مع التقدم في السن، طبعاً حتى تنتهي مع انقطاع الطمث. هكذا، بحسب دراسات إحصائية أجريت في بلدان عديدة، وُجد أن خصوبة تبلغ أوجها في عمر 25، حيث تساوي 25 في المئة في تلك الفترة. بعبارة أخرى: ثمة احتمال واحد من بين أربعة احتمالات، أو 25 في المئة، أن تحصل حالة إخصاب عندها أثناء كل دورة، في حال ممارسة العلاقة الحميمة بين الزوجين بشكل منتظم. وتنخفض تلك النسبة إلى 12 في المئة في سن 30، وإلى 6 في المئة فقط في سن 40. وذلك كله، بطبيعة الحال، مع افتراض أن الزوج ليس في فئة من يعانون عقماً ما، من جانبه.
وهذا توكيد لما ورد أعلاه من أن القلق غير مبرَّر إلا بعد مضي ما لا يقل عن عام، وربما عامين اثنين، من عدم الإنجاب. فحتى في الظروف المثلى، أي في حالة امرأة في سن 25، في كامل عافيتها، ومع عدم وجود أي قصور عند زوجها، فهي لا تمتلك سوى احتمال واحد من بين أربعة لأن يحصل عندها الإخصاب في دورة معينة. هذا يعني أن الحمل يمكن أن يحلَّ منذ المرة الأولى، بما أن الاحتمال وارد بنسبة 1 من 4. لكن ذلك يعني أيضاً أن ثمة ثلاثة احتمالات من أربعة بعدم حصول الإخصاب. هكذا، يحاول الزوجان في الدورة المقبلة، التي قد تكون نتيجتها مثل سابقتها، وهكذا دواليك. فكيف إذا كانت الزوجة في سن 30 أو أكثر؟ بطبيعة الحال، تقل الاحتمالات، وربما يستدعي الأمر من الزوجين تكرار المحاولة مراراً، بالتالي الانتظار شهوراً، وربما سنوات، قبل أن يحصل الإخصاب.
2 اضطرابات الإباضة: الإباضة (بمعنى خروج البويضة من المبيض، ما يسمى ovulation في اللغات الأجنبية) مرحلة جوهرية في عملية الإخصاب. وتحصل الإباضة عادة في منتصف كل دورة. كما يشير الأطباء إلى أن احتمالات الإخصاب تكون في أوجها في الفترة المتدة قبل 4 أيام من الإباضة وبعد يومين اثنين منها. هكذا، في حال اضطراب تلك العملية الحيوية الدورية، لسبب ما، فإن الإخصاب يصبح مستحيلاً. إذ قد يحصل، من وقت إلى آخر، أن تتأخر الإباضة، أو تتقدم عن الموعد، أو لا تحصل بتاتاً في دورة ما. لكن ذلك لا يعني أنها لن تحصل أيضاً في الدورة المقبلة. فتلك الاضطرابات، في معظم الحالات، مؤقتة، وتخص دورات معينة دون غيرها، بمعنى آخر: ما ينطبق على دورة لا ينطبق بالضرورة على الدورة التالية، أقله في ما يتعلق بالإباضة.
3 الاضطرابات الهورمونية: في الحديث عن الخصوبة والحمل، وما يترتب عليهما من تغيرات جسدية، تعدُّ المنظومة الهورمونية عند دقيقة للغاية، وحساسة للغاية. لذا، من شأن أي اختلال في «الماكينة» الهورمونية تعقيد الأمور، وإعطاب الآلية برمتها. وهذه الاضطرابات قد تنجم، مثلاً، عن تناول أدوية معينة. لكنها قد تأتي أيضاً من عوامل بيئية، يتصدر التلوث قائمتها. فنمط الحياة المعاصر، الملوث والقائم على زراعة وتغذية بعديتين عن الطبيعة، يعرِّض الجميع، بمن فيهم النساء، إلى تناول مواد وسموم كثيرة، أو تنشقها، من دون وعي. وبذلك، ينعكس مفعولها سلباً على عمل الغد، ويعرقل التكوين السليم للتشكيلا الهورمونية المعقدة الامتناهية. وهذه تلعب دوراً أساسياً في عمليات الإباضة والإخصاب والحمل، ولاحقاً في نمو الجنين نمواً سليماً.
4 انسداد قناتي «فالوپ»: يمكن أن يتعرض المجريان المسميان « قناتي فالوپ»، أو «البوقين»، إلى الانسداد، أو الإصابة بخدش أو جرح، جراء علاج ما، أو عملية تعقيم، وأحياناً بسبب عملية جراحية، تجرى عادة إثر ما يسمى «الحمل خارج الرحم». لكن، قد ينجم الانسداد عن أسباب أخرى. بل، يمكن أن تكون القناتان غير موجودتين أصلاً، بسبب قصور طبيعي، منذ الولادة. والقناتان تربطان كلاً من المبيضين بالرحم، وتشكلان مكان الإخصاب. هكذا، تلعبان دوراً حاسماً في إطلاق عملية الحمل برمتها. واشتقت تسمية القناتين (Gabriele Fallopia 1572 – 1523) من اسم مكتشفهما، العالم الإيطالي غابريال فالوپيا. ويلاحظ أن أغشيتهما الداخلية «مهدَّبة»، أي ذات «أهداب» داخلية ضئيلة. والسبب: تضطلع تلك الأهداب بدور أساسي في «دفع» البرعم، أو النطفة المخصبة الأولى، نحو الرحم، لكي تستقر فيه، وتنمو نمواً عنقودياً، ما يشكل الجنين. كما تلعب القناتان دوراً هورمونياً مهماً، يعتمد بدوره على أنشطة المبيضين الهورمونية. وتحد وظيفتهما الهورمونية وتيرة نمو الجنين. في أي حال، فإن انسدادهما، أو تعرضهما لإصابة ما، يعرقل الإخصاب، بالتالي الحمل، ويعدُّ من الأسباب المهمة لعدم القدرة على الإنجاب.
5 وجود أورام غير خبيثة: من أحد أسباب إعاقة الإخصاب والحمل، يشار أيضاً إلى وجود ورم ليفي، أو سليلة مخاطية (تسمى أيضاً «مزجَّل»)، وهي أورام في الأغشية المخاطية للرحم والمهبل. وتلك كلها أورام غير خبيثة، أي غير سرطانية. وهناك أيضاً سبب ماثل آخر، يتمثل في وجود «أكياس» في المبيضين. على أي حال، فإن تلك الأورام، على الرغم من كونها غير خبيثة، تنطوي على تداعيات خبيثة: إذ تعوق تكوُّن الجنين، وفي حالة تكونه على الرغم من كل شيء، فإنها تعوق استقراره، ما يؤدي إلى حالات إسقاط كثيرة.
6 التهاب بطانة الرحم: ينجم عن داء التهاب بطانة الرحم (بالإنجليزية endometriosis، وبالفرنسية endométriose) انتقال مقاطع من الأغشية المخاطية الداخلية التي تغلف بطانة الرحم، إلى خارج الرحم. ويؤدي ذلك إلى آلام شديدة في منطقة العجان (الواقعة بين المثانة والمخرج). كما يفضي إلى اضطرابات الدورة الشهرية، التي تكون أيضاً، في حال الالتهاب، مصحوبة بأوجاع غير معتادة. والأهم: يعدُّ التهاب بطانة الرحم أول سبب لحالات «عقم» ، إذ يكون مسؤولاً عن 30 في المئة من حالات العقر المستعصية.
7 الإفراز المفرط لهورمون «پرولاكتين»: ال«پرولاكتين» هورمون تنصبُّ وظيفته على حفز عمل الغد الثدية (أو البنية)، لكي تعمل على تكوين حليب الأم. لكن، لاحظ الأطباء أن زيادة إفراز هذا الهورمون غالباً ما تؤدي إلى خفض القدرة على الإنجاب.
8 دواء «ديستيلبين»: على الرغم من ندرة الحالة، لاحظ المتخصصون، هنا أيضاً، أن تناول دواء «ديستيلبين» (« Distilbene»)، أو أياً كانت تسميته، طالما يضم مركب «ديثيليستيبيسترول» («diethylstilbestrol»)، قد يؤدي، في بعض الحالات، إلى خفض القدرة على الإنجاب لدى امرأة تناولت أمُّها ذلك الدواء أثناء حملها بها. فهذا استُنبط عام 1938 لمعالجة النساء الواتي كن يعانين حالات إسقاط جنين متكررة، على أساس أنه يعين على تجنب الإسقاط. لكن، بعد الانتباه إلى مخاطره، تمَّ منعه تدريجياً للحوامل كافة، بدءاً من 1971 (أولاً في الولايات المتحدة، ثم تبعتها دول أخرى لغاية 1983). هكذا، بين 1939 و1984، ولد عدد كبير من نسوة أصبحن مرشحات للأموة بدورهن، لغاية العام 2022، مثلاً، أو حتى بعده. وعند تلك الفئة من النساء، لا يندر أن تكون القدرة على الإنجاب متدنية. لكن الدواء نفسه لايزال يوصف للرجال المصابين بسرطان البروستاتا. في هذا الباب، ثبت فاعليته، وعدم وجود مضاعفات خطيرة.