حث الإسلام على مكارم الأخلاق ورغب فيها، ومن تلك الآداب إكرام الكبير وصاحب العلم وحامل القرآن، حيث ورد الترغيب في ذلك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين أعظم قدوة في ذلك؛ إذ ضربوا في هذا الباب أروع الأمثلة، فما أحوج المسلمين إلى الأدب مع أكابرهم وعلمائهم!
حب النبي صلى الله عليه وسلم لجليبيب رضي الله عنه
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراًًً ونذيراًَ بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، اللهم! صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. أما بعد: فعن أبي برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مغزىً له فأفاء الله عليه، فقال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم. فلاناً وفلاناً وفلاناً. ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم. فلاناً وفلاناً وفلاناً. ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا. قال: لكني أفقد جليبيباً فاطلبوه. فطلب في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه، فقال: قتل سبعة ثم قتلوه! هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه. قال: فوضعه على ساعديه -ليس له سرير إلا ساعدا النبي صلى عليه وسلم- قال: فحُفر له ووُضع في قبره. ولم يذكر غسلاً) رواه مسلم في فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والحديث يرويه أبو برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنه يقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مغزىً له)، يعني: كان في سفر غزو. ويفهم من ذلك أنه كان في هذا السفر ومعه جليبيب رضي الله تعالى عنه. (فأفاء الله عليه، فقال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم. فلاناًً وفلاناً وفلاناً. ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم. فلاناً وفلاناًَ وفلاناً. ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا. قال: لكني أفقد جليبيباً، فاطلبوه). وجليبيب اسم لهذا الصحابي الجليل، وجليبيب تصغير جلباب، وقوله: (فطلب في القتلى)، أي: بحث عنه في القتلى: (فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه) أي: سبعة من المشركين قتلهم وحده رضي الله تعالى عنه، ثم بعد ذلك كأنه كان فيهم بقية روح فاجتمعوا عليه حتى قتلوه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (قتل سبعه ثم قتلوه! هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه) والمقصود بهذا التعبير المبالغة في اتحاد طريق النبي صلى الله عليه وسلم وطريق جليبيب رضي الله تعالى عنه، واتفاقهما في طاعة الله تعالى في مقابلة قوله في الجهة الأخرى في بعض المعاصي والذنوب: من فعل كذا فليس مني كما في قوله -مثلاً-: (فمن رغب عن سنتي فليس مني) أما هنا فمبالغة في بيان شدة انتمائه إلى منهج النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (هذا مني وأنا منه) وكأنه قطعة من جسده أو بضعة من لحمه، قال: (فوضعه على ساعديه) نال جليبيب هذا الشرف، أن حمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه الشريفتين: (ليس له -أي: ليس لـجليبيب – سرير إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فحُفر له ووُضع في قبره)، وفي رواية: (ثم وضعه في قبره ولم يذكر غسلاً) لأن الشهيد لا يغسل ولا يصلى عليه…….
خطبة النبي صلى الله عليه وسلم لجليبيب امرأة من الأنصار
وعن ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال: (خطب النبي صلى عليه وسلم على جليبيب امرأة من الأنصار) وهذا الخبر مما يطلعنا على بعض من سيرة جليبيب وشدة محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له، فرغم أن جليبيباً كان في وجهه دمامة إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحبه؛ لأن الله ورسوله لا ينظران إلى الصور والأشكال، وإنما إلى القلوب والأعمال، فمن ثم كان له هذه المكانة الخاصة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه خطب على جليبيب امرأة من الأنصار: (فلما حدث في ذلك أباها قال: حتى أستأمر أمها. فقال النبي صلى عليه وسلم: فنعم إذاً. فانطلق الرجل إلى امرأته فذكر ذلك لها، فقالت: لا هاالله! إذاً ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيباً ؟) (لا هاالله!) تعني: هذا يميني فكلمة (لا) هي لنفي كلام الرجل الذي أبلغهم هذا أو زوجها، و(هاالله) الهاء بالمد والقصر، بمعنى واو القسم، ولفظ الجلالة مجرور بها، و(إذاً) جواب القسم: (إذاً ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيباً؟) وإنما قالت المرأة ذلك لأن جليبيباً رضي الله عنه كان في وجهه دمامة. تقول: (إذاً ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيباً؟! وقد منعناها من فلان وفلان! قال: والجارية في سترها تستمع) أي أن الجارية كانت في الخدر أو في الستر تستمع لهذا الحوار من وراء الستر، قال: (فانطلق الرجل يريد أن يخبر النبي صلى عليه وسلم بذلك، فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟! إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه) جعلتهم يفيقون من هذا المسلك الذي يسلكونه لرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] وفي رواية أنها قالت: (ادفعوني إليه؛ فإنه لن يضيعني) أي: ما دام هذا هو اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم فينبغي أن نسمع له ونطيع: (فكأنها جلت عن أبويها) يعني: فكأنها كشفت وأوضحت أمراً خفي عليهما، حتى كأنهما أفاقا من هذه الغشاوة التي جعلتهما يكادان يقعان في معارضة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالفعل أجابا في الوقت، وقالا لها: (صدقت. فذهب أبوها إلى النبي صلى عليه وسلم، فقال: إن كنت قد رضيته فقد رضينا. قال: فإني قد رضيته، فزوجها، ثم فزع أهل المدينة) يعني: حصل بعد ذلك أن أخافهم العدو (فركب جليبيب) يعني: كان جليبيب في أول من خرج في مواجهة هؤلاء المشركين: (فركب جليبيب، فوجدوه قد قتل وحوله ناس من المشركين قد قتلهم). قال أنس : (فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت في المدينة) يعني أن هذه المرأة التي تزوجها جليبيب رغم أنها كانت ثيباً بعد الزواج لكن مع ذلك كانت من أنفق بيت في المدينة، وكلمة أنفق هنا مأخوذة من النَّفاق -بفتح النون- وهو ضد الكفاف، ويقصد بالنفاق الرواج، كما جاء في الحديث: (إن الحلف ينفق ثم يمحق) أي أن التاجر حينما يحلف على بضاعته فإن هذا يروجها وينفقها، لكنه يمحق البركة بعد ذلك. فالمقصود أنها كانت أعظم امرأة أيم في بيوت المدينة، بحيث كان يتسابق إليها الخطاب بعد قتل جليبيب، وذلك ببركة كونها رضيت بنكاح جليبيب الذي كان ينفر منه الناس، وببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها. وهذا الحديث الأخير صحيح على شرط الصحيحين، رواه أحمد و أبو يعلى مختصراً، ويشهد له حديث أبي برزة السابق عند مسلم . وفي رواية قال ثابت : (فما كان في الأنصار أيم أنفق منها). وحدث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثابتاً فقال: هل تعلم ما دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (اللهم! صب عليها الخير صباً، ولا تجعل عيشها كداً كداً) قال: (فما كان في الأنصار أيم أنفق منها) والأيم: المرأة التي ليس لها زوج بكراً كانت أم ثيباً. والشاهد من الحديث الوارد في شأن جليبيب رضي الله تعالى عنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه) ففي هذا إشارة -كما ذكرنا- إلى اتحاد طريقهما، وأنهما كانا كأنهما جسد واحد، فقوله: (هذا مني) أي: كأنه قطعة مني أو بضعة مني (وأنا منه) مبالغة في بيان اتحاد الطريق والسبيل، ولهذا التعبير عن اتحاد الطريق بهذه العبارة نظائر، منها: ما روى أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم في المدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم) متفق عليه. ……
إشارة الحديث إلى ميزان الولاء والبراء
إن ذلك التعبير الذي يعطينا ميزان المولاة أو ميزان الحب في الله يعطينا أيضاً من الجهة الأخرى ميزان البغض في الله، وميزان البراءة ممن حاد الله ورسوله، وهو التعبير المشهور (من فعل كذا فليس منا)، أو (ليس منا من فعل كذا) فهكذا نصب الشارع علامات يعرف بهذه العلامات كون المعصية كبيرة من كبائر الذنوب، ومن هذه العلامات التعبير عن هذا الفعل بأن صاحبه ليس منا، أي: ليس من أهل سنتنا، وليس على طريقتنا الإسلامية. وذلك أن الله تعالى قال للمؤمنين: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وليس المراد بهذا التعبير الإخراج الحقيقي من الدين، وإنما المراد الزجر عن هذه المعاصي، كما في قوله: (ليس منا من تشبه بغيرنا) وقوله: (لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى)، وقوله: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا)، وذلك لأن سنة غيرنا منسوخة بشرعنا، وفي الجهة المقابلة يقول عليه الصلاة والسلام: (من تشبه بقوم فهو منهم)، أي: يصير منهم وليس منا. ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) ويقول: (ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه من النساء بالرجال)، ويقول أيضاً عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من تَطير أو تُطير له، أو تَكهن أو تُكهن له، أو تَسحر أو تُسحر له) ويقول أيضاً: (ليس منا من حلف بالأمانة) لأن الحلف بالأمانة حلف بغير الله، ويقول: (ومن خبب على امرئ زوجته أو مملوكه فليس منا) (خبب) يعني: أفسد. ومنها قوله: (ليس منا سلق ومن حلق ومن خرق) (من سلق) أي: رفع صوته عند المصيبة بالبكاء (ومن حلق) أي: حلق شعره جزعاً على المصيبة (ومن خرق) أي: خرق ثوبه جزعاً على الميت. ومنها -أيضاً- قوله صلى عليه وسلم: (ليس منا من غش)، وقوله: (من غشنا فليس منا). ومنها: قوله: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)، (دعا بدعوى الجاهلية) كما تفعل المرأة النائحة حينما تقول: واكهفاه. واجبلاه. إلى غير ذلك من عبارات الجزع عند نزول المصيبة، أو أن المقصود بدعوى الجاهلية أنه كان من عادتهم في الجاهلية أن الرجل إذا غلب في الخصام نادى بأعلى صوته: يا آل فلان. يا لبني فلان. فيبادرون لنصرته ظالماً كان أو مظلوماً؛ لأنه استغاث بهم، فيفزعون إليه ماداموا من قبيلته ومن عنصره. وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية) والمقصود بالعصبية هنا معاونة الظالم، فالشخص العصبي هو الذي يغضب لعصبيته، ويحامي عنها بقبيلته أو عائلته أو غير ذلك مما ينتمي إليه، فالرسول عليه السلام يبغض إلينا هذا الداء الوبيل، داء الحزبية الجاهلية، وداء العصبية ومناصرة الشخص بمجرد أنه من حزبك أو قبيلتك أو عائلتك، لا لكونه على حق أو غير ذلك، وهذا الفعل القبيح قد شاع وذاع، خاصة بين بعض الجماعات الإسلامية، والذي يعتبر جرم الجماعات الإسلامية هو الحزبية البغيضة الجاهلية؛ حيث إنها تجعل الإنسان لا يحترم هذه القواعد في الولاء والبراء، وإنما يوالي في الحزب، ويعادي في الحزب، وليس مولاة في الله ومعاداة في الله عز وجل. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: بين بهذا الحديث أن تعصب الرجل لطائفة مطلقاً فعل أهل الجاهلية محذور مذموم، بخلاف منع الظالم وإعانة المظلوم من غير عدوان، فإنه حسن، بل واجب. فلا منافاة بين هذا وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) وبين قوله: في نفس الحديث: (أن تحجزه عن الظلم، فذاك نصرك إياه). ومن هذه الأحاديث أيضاً قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه)، كما لاحظنا في حديث جليبيب رضي الله تعالى عنه كيف أن هذه الجارية حينما استجابت وتأدبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفعها هذا الأدب، بحيث كانت رغم قتل زوجها رضي الله عنه أنفق أيم في المدينة كلها، وحظيت بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الخير كله، فهذه إحدى ثمرات التزام الأدب مع الشرع المطهر ومع صاحب الشرع، وانظر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلي شأن الأدب، إلى حد أنه كان يستعمل هذا التعبير الذي فيه بيان تنافي طريقه مع طريق من يسيء الأدب، وأن من يسيء الأدب ليس من المسلمين، وليس على طريقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا قال: (ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه). ……
مكانة الأدب في الإسلام
ومن هذا الحديث ندلف إلى موضوعنا، وهو الحديث عن حقوق المسلم، وصيانة عرضه، والتحذير من الغيبة ومن إطلاق اللسان في أعراض المسلمين بغير حق، ونحن لا نستوفي حقوق المسلم على المسلم، وإنما نقتصر -فقط- على التنبيه فيما يشيع التقصير فيه بين الناس في مثل هذا الزمان، فهذا الحديث الشريف يبين لنا كيف عظَّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأدب، حتى إنه عبر عمن لا يراعي الأدب، سواء أكان أدب الكبير مع الصغير في الرفق أم أدب الصغير مع الكبير بالاحترام والتوقير، أم أدب طالب العلم مع شيخه في أن يراعي حق هذا الشيخ عليه، فكل من لم يراع هذه الآداب فإنه متوعد بهذا التعبير الشديد الهول، وهو قوله: (ليس منا). وقد اهتم السلف الصالح رحمهم الله تعالى بباب الأدب اهتماماً عظيماً، ليس بمجرد التصديق، وإنما أيضاً بسلوكهم وواقعهم، كما سنذكر إن شاء الله تعالى. فالأدب اهتم به علماء المسلمين، حتى إنهم أفردوا فيه كتباً، ولا تكاد تجد كتاباً من الكتب الجوامع في السنة إلا وتجد كتاب الأدب جزءاً أساسياً من أبوابه ومن أغراضه ومقاصده، فهناك (كتاب الأدب) في صحيح البخاري ، ومع ذلك الإمام البخاري أفرغ الأدب بكتاب آخر، وهو كتاب (الأدب المفرد)، وكذلك مَحضَّ بعض المصنفين بعض مصنفاتهم فقط للأدب، كما فعل السفاريني في كتابه المرسوم بـ (غذاء الألباب شرح منظومة الآداب) أو بـ(شرح منظومة الآداب)، وكما فعل الإمام ابن مفلح رحمه الله تعالى الذي كان يقول له شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية : إنك لست ابن مفلح، وإنما أنت مفلح. وهو صاحب كتاب (الآداب الشرعية) بخلاف ما صنف من الكتب في الآداب واقتصر مؤلفه على جزء في باب واحد من أبواب الأدب، وذلك مجرد عبور على أبواب الأدب الغالبة المنتشرة في مصنفات علماء المسلمين، وبهذا نجد خطورة مجال الأدب وخطورة هذا الحقل من حقول الأخلاق الإسلامية، ونجد هناك كلاماً في الأدب على النية وآداب النية، والأدب مع الله سبحانه وتعالى، والأدب مع القرآن الكريم، والأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأدب مع الملائكة، والأدب مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والأدب مع النفس بالتوبة والمراقبة والمحاسبة والمجاهدة، والأدب مع الخلق باختلاف أنواع هؤلاء الخلق، والأدب مع الوالدين، والأدب مع الأولاد، والأدب مع الإخوة، والأدب فيما بين الزوجين، والأدب مع الأقارب، والأدب مع الجيران، والأدب مع أخيك المسلم، حتى الأدب مع الكافر أفردوه بالكلام، وذكروا الآداب الشرعية التي ينبغي أن يلتزمها المسلم مع الكافر، بل تكلموا حتى في الأدب مع الحيوان ومع البهائم. وفي الكلام على حقوق الأخوة والأدب مع الإخوان في الله ذكروا آداب المجالس، وآداب الأكل والشرب، وآداب الضيافة، وآداب الاستئذان، وآداب السفر، وآداب اللباس، وخصال الفطرة، وآداب النوم، وآداب المسجد، وآداب حلق العلم، والأدب مع المشايخ، والأدب مع حاملي القرآن، والأدب مع كبير السن، وغير ذلك. وربما يتصور بعض الناس أن الآداب فقط هي أشياء من باب المروءة أو أشياء مستحبة ونوافل، وهذا ليس بصحيح، بل من الآداب ما هو فرض متحتم وواجب أكيد على كل مسلم، كما سنبين إن شاء الله تعالى. ……
احتفاء السلف بوظيفة الأدب
وقد بلغ من احتفاء السلف بوظيفة التأديب أن الأدب كان وظيفة من الوظائف التي يُرصد لها إنسانٌ خبيرٌ بها، فكما يتعلم الإنسان العلم وكما يحفظ القرآن كذلك كان يُجعل له مؤدب يؤدبه، حتى إن الإمام ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى كان يلقب (مؤدب أولاد الخلفاء) فكان هناك وظيفة شخص اسمه (المؤدب) يتولى تهذيب الطفل من صغره ومنذ نعومة أظفاره، ويربيه على مكارم الأخلاق وعلى تعظيم الدين، وغير ذلك من هذه الآداب الشرعية. ومما يعكس خطورة موضوع الأدب والتربية أهميته بالنسبة للأولاد؛ لأن الأدب أعظم ما ينفع إذا بدأ منذ صغرهم ومنذ نعومة أظفارهم، وقد جاء أن بعض الخلفاء كان قد سجن بعض خصومه، فلما أفرج عنهم وأطلقهم من السجن قال: ما أشد ما مر عليكم في هذا الحبس؟ قالوا: ما فاتنا من تأديب أولادنا. ولم يقولوا: ما فاتنا من حرياتنا أو من كذا أو كذا. وإنما قالوا: ما فاتنا من تأديب أولادنا. والكلام في باب الأدب كلام يطول جداً، لكننا سنجتزئ -كما أشرنا من قبل- أهم المهم من عيون هذا الموضوع. ……
نماذج من أدب الصحابة رضي الله عنهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم
إذا رجعنا إلى سلوك الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأدبهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنرى من ذلك نماذج عظيمة وكبيرة، حتى إن الكافر الذي أوفده المشركون في صلح الحديبية حينما رجع كان من أشد ما أثر فيه أدب الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إنه قال لإخوانه من المشركين: لقد وفدت على قيصر وعلى كسرى فما وجدت أحداً يعظم أحداً مثلما يعظم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- محمداً، ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، ولا توضأ وضوءاً إلا تقاتلوا عليه يعني أنهم كانوا يتبركون بوضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال رويم بن أحمد البغدادي لابنه: يا بني! اجعل عملك ملحاًًَ وأدبك دقيقاً. قال له هذا مع أن المعروف أن نسبة الملح تكون قليلة حتى يصلح الطعام، فقوله له: اجعل عملك ملحاً يعني: قليلاً. لكن اجعل أدبك هو الدقيق، قال: اجعل عملك ملحاً، وأدبك دقيقاً. يأمره بالاستكثار من الأدب، حتى تكون نسبة الأدب في سلوكه من حيث الكثرة كنسبة الدقيق إلى الملح الذي يوضع فيه، وكثير من الأدب مع قليل من العمل الصالح خير من كثير من العمل مع قلة الأدب. وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: إذا وصف لي رجل له علم الأولين والآخرين لا أتأسف على فوت لقائه، وإذا سمعت رجلاً له أدب النفس أتمنى لقاءه، وأتأسف على فوته. وقيل للعباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه: أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: (هو أكبر مني، وأنا أسن منه) حاله كما قال الشاعر: أدب كمثل الماء لو أفرغته يوماً لسال كما يسيل الماء وقيل لـأبي وائل : أيكما أكبر أنت أم الربيع بن خثيم ؟ قال: أنا أكبر منه سناً وهو أكبر مني عقلاً. ودخل عروة بن مسعود الثقفي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية، فجعل يحدثه ويشير بيده إليه حتى تمس لحيته، والمغيرة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده السيف، فكان عروة بن مسعود يسيء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنه كان يشير إليه بيده، حتى يلمس لحية الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان المغيرة رضي الله تعالى عنه واقفاً على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده السيف، فكلما أهوى أو أشار بيده إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام يضرب يده بالسيف ويقول له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو: اقبض يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا ترجع إليك. يهدده أن يقطع يده إذا امتدت ثانية إلى لحية رسول الله صلى الله وعليه وسلم وهو يكلمه، فقبض عروة يده. ويكفي في ذم سوء الأدب أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم في الأعراب الجفاة الذين نادوا رسول الله صلى الله عليه من وراء الحجرات -وسورة الحجرات تسمى سورة الآداب؛ لما اشتملت عليه من الآداب الشرعية- فوصف الله سبحانه وتعالى هؤلاء الذين لم يراعوا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4] فنفى عنهم العقل لعدم مراعاتهم الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أعلى الصفحة
اهتمام السلف بباب الأدب
السلف الصالح رحمهم الله تعالى كانوا يولون باب الأدب اهتماماً عظيماً، كما روي عنهم أنهم كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم، ولم يكونوا يقتصرون على تحصيل العلم النظري، وإنما أيضاً كانوا يمحضون نياتهم ويوجهونها نحو الاقتداء بالهدي وبالسمت الحسن. ولذلك يقول إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته وإلى صلاته وإلى حاله، ثم يأخذون عنه. وقال ابن سيرين: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) فلابد أن يدقق الإنسان أولاً قبل أن يتلقى العلم، وأن ينظر في سمت وحال من يتلقى منه العلم. وذلك هو ما فعله الإمام مالك رحمه الله تعالى، حيث يقول: رأيت أيوب السختياني بمكة حجتين فما كتبت عنه، ورأيته في الثالثة قاعداً في فناء زمزم، فكان إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم عنده يبكي حتى أرحمه، فلما رأيت ذلك كتبت عنه. أي أنه كان رقيق القلب شديد التعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنه كان يسمع كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبكي، وليس بكاءً عادياً، وإنما كان يتمادى في البكاء، حتى إن من يجالسونه كانوا يرحمونه ويشفقون عليه لشدة تأثره وشوقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فإذاً ما كانوا يقتصرون على تلقي العلوم النظرية حتى يضموا إلى ذلك أدب النفس، ومن ثم يقول الفراء الحنبلي : أدب النفس ثم أدب الدرس. وقال بعضهم لابنه: يا بني! لأن تتعلم باباً من الأدب أحب من أن تتعلم سبعين باباً من أبواب العلم. وقال مخلد بن الحسين لـابن المبارك : نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث. وذكر البرهان البقاعي أنه سأله بعض العجم أن يقرأ عليه فأذن له، فجلس متربعاً، فامتنع من إقرائه وقال له: أنت أحوج إلى الأدب منك إلى العلم الذي جئت تطلبه. أي: لأنه جلس أمامه متربعاً، ولم يجلس جلسة المتعلم التي وردت في حديث جبريل عليه السلام. وعن الأمام أبي حازم الأعرج رحمه الله تعالى قال: لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين فقيهاً أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا. يعني: أقل ما نتعارف عليه من الأخلاق التواسي فيما بيننا. أي: يعطي بعضهم بعضاً مما رزقه الله. يقول: وما رأيت في مجلسه متماريين ولا متنازعين في حديث لا ينفعنا. وفي الحقيقة هذا ليس في المقام الأول مدحاً لهؤلاء الطلبة، لكنه مدح لنهج شيخهم الذي رباهم على ذلك، ولذلك صدر الكلام بقوله: لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين فقيهاً أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، وما رأيت في مجلسه متماريين -ما كانوا يعرفون الجدل والمراء- ولا متنازعين في حديث لا ينفعنا. وقال خالد بن نزار : سمعت مالكاً يقول لفتى من قريش: تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم. والأدب خير وسيلة لاستدرار علم الشيخ، فقد قال ابن جريج : لم أستخرج الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به. فمن هنا لا نستبعد ونستغرب ما قاله بعض الشعراء: ليس اليتيم الذي قد مات والده إن اليتيم يتيم العلم والأدب فكأن العلم والأدب هما الأب والأم، وإذا فقدهما صار يتيماً.
أعلى الصفحة
أدب سحرة فرعون مع موسى عليه السلام
ذكر الله تعالى أدب السحرة مع موسى عليه السلام حينما قالوا: يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ [الأعراف:115] فذكر الزمخشري أنهم تأدبوا مع موسى عليه السلام، ثم ذكر أن هذا الأدب مع موسى نفعهم بأن هداهم الله سبحانه وتعالى إلى الإيمان. وقد قص القرآن الكريم علينا كيف أن العجماوات نفسها راعت الأدب مع نبي الله سليمان حينما قالت نملة: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18] وهذا من حسن الظن والأدب مع مقام سليمان عليه السلام، حيث قالت: إن سليمان وأصحابه لا يتعمدون قتل النمل، لكنهم سيقتلونكم دون أن يشعروا بذلك. وفي هذا تأدب مع نبي الله ومع أصحابه أيضاً. ……
أدب ابن أم مكتوم مع النبي صلى الله عليه وسلم
ومن مواضع الإشارة إلى هذه الآداب في القرآن الكريم قول الله سبحانه تعالى: وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى [عبس:8-10] فقوله: (وأما من جاءك) فيه أن العلم يؤتى، ثم قال: (يسعى) ولم يقل: من جاءك يمشي. إنما قال: (يسعى) لشدة حرصه على التعلم. وقوله: (وهو يخشى) أي: يخشى الله سبحانه وتعالى. ……
الآداب المستقاة من قصة موسى مع الخضر عليهما السلام
ومن المواضع التي يستفاد منها كثير من الأدب في القرآن الكريم -وما أكثر الآداب في القرآن الكريم- قصة موسى والخضر عليها السلام، حينما قال موسى للخضر عليه السلام: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66] فهذه الآيات في هذا الموضع في القرآن الكريم تبين لنا أن موسى عليه السلام راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر، فمادمت تريد أن تتعلم وأن تستفيد فلابد من مراعاة هذه الآداب: أحد هذه الآداب أنه جعل نفسه تبعاً له، فقال له: (هل أتبعك) بخلاف من يذهب إلى الشيخ وإذا به يناطحه رأساً برأس وكلمة بكلمة، ويجلس متربصاًً كي يقذف سهام الاعتراض والتجاوز على شيخه، لكن انظر كيف أن نبي الله موسى كليم الله يرحل هذه الرحلة الشاقة التي يقول في شأنها: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62]، وذلك في سبيل طلب العلم، ففي في سبيل طلب العلم رحل موسى هذه المسافة الكبيرة. فلما لقي الخضر عليه السلام قال له: (هل أتبعك)، فموسى جعل نفسه تبعاً لمن يريد أن يتعلم منه. ومن هذه الآداب أيضاًَ أنه استأذن في إثبات هذه التبعية، ولم يقل له: أنا تابع لك. وإنما تلطف واستأذن فقال: (هل أتبعك) يعني: هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك؟ وبلا شك أن هذه مبالغة عظيمة في التواضع من موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وأيضاً قال: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ [الكهف:66] فهذا يتضمن الإقرار على نفسه بالجهل، وإقراراً لأستاذه بالعلم، فهناك عالم وهناك متعلم مفتقر إلى هذا العلم ولذلك قال موسى عليه السلام: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66] فأثبت أنه طالب علم مفتقر إلى ما عنده من العلم، ثم قال: تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66] و(من) هنا للتبعيض، يعني: من بعض ما علمك الله سبحانه وتعالى. فهذا أيضاً -بلا شك- مشعر بالتواضع، وكأنه يقول له: لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً في العلم لك، بل أطلب منك أن تعطيني جزءاً من أجزاء علمك، كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزءاً من ماله. وأيضاً قال موسى عليه السلام: أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ [الكهف:66] إشارة إلى الاعتراف بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي علمه ذلك العلم، وفي ذلك نسبة الفضل إلى صاحبه والمفيض به وهو الله عز وجل، وقوله: رُشْدًا [الكهف:66] هذا طلب منه للإرشاد والهداية، والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل للإنسان لحصلت له الغواية والضلال. وقوله: أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ [الكهف:66] طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به، ولم يقل: أن تعلمن مما تعلمت. أو: تعلمن مما عندك من العلم. وإنما أشار إشارة عظيمة جداًَ هنا فقال: أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ [الكهف:66] وفي هذا إشارة في غاية التهذيب والأدب والتواضع، أي أنه كما علمك الله فعلمني مما علمك الله. يعني: عاملني بجنس ما عاملك الله به، فبما أن الله أفاض عليك بهذا العلم فقابل أنت هذه النعمة بالشكر بأن تفيض علي أيضاًًَ مما علمك الله. ولعل هذا هو حكمة قوله: مِمَّا عُلِّمْتَ [الكهف:66] وعدم قوله: مما عندك من العلم. أو: مما تعلمت. وفيه إشعار بأنه يكون إنعامك علي عند هذا التعليم شبيهاً بإنعام الله تعالى عليك في هذا التعليم، ولهذا شاع في العبارة المشهورة على ألسنة الناس: أنا عبد من تعلمت منه حرفاً. أو: من علمني حرفاً صرت له عبداً. وطبعاً ليس معناها العبودية التي هي عبودية من دون الله، لكن المقصود العبد الرقيق، يعني أنه يملكني كالعبد أو الرقيق. كما أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلاً لذلك الغير، فإنا إذا قلنا: (لا إله إلا الله) فاليهود الذين كانوا قبلنا كانوا يذكرون هذه الكلمة، فلا تكون متبعين لهم في ذكر هذه الكلمة؛ لأنا لا نقول هذه الكلمة لأجل أنهم قالوها، وإنما نقولها لقيام الدليل على أنه يجب ذكرها، أما إذا أتينا بهذه الصلوات الخمس على موافقة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا إنما أتينا بها لأجل أنه صلى الله عليه وسلم أتى بها، ولا جرم حينئذ أننا يصدق علينا الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا مختصون بتبعيتنا له، قال عز وجل: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158] وقال سبحانه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، وفي هذا أمر لنا بالاتباع. فقول موسى عليه السلام: (هل أتبعك) يدل على أنه سيأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد كون ذلك الأستاذ آتياً بها، وهذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم وترك المنازعة والاعتراض فيما لا يصادم الشرع مصادمة صريحة. كذلك قوله: (أتبعك) يدل على طلب متابعته مطلقاً في جميع الأمور غير مقيد بشيء دون شيء. وأيضاً ثبت بالأخبار أن الخضر عرف أولاً أنه من بني إسرائيل؛ لأن موسى لما أتى إلى الخضر عليه السلام قال له: من أنت؟ قال: موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ فالخضر عرف أن الذي يحادثه هو من بني إسرائيل، وأنه موسى صاحب التوراة، وهو الرجل الذي كلمه الله عز وجل من غير واسطة، وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع، وذلك يدل على كونه عليه السلام آتياً في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة، وهذا هو اللائق به؛ لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر، فكان طلبه لها أشد، وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد؛ لأنه يعرف قيمة العلم. وفي ذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: أدبني الدهر فأراني نقص عقلي كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي وكذلك في قوله: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ [الكهف:66] أثبت كونه تبعاًً له أولاً، ثم طلب ثانياً منه أن يعلمه. وكذلك قال موسى عليه السلام: (هل أتبعك على أن تعلمن)، فلم يطلب على تلك المتابعة شيئاً غير التعليم، كأنه قال: لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه، ولا غرض لي إلا طلب العلم. وهذا هو محصل ما ذكره الفخر الرازي في هذا الباب، حيث ذكر الآداب المستقاة من قصة موسى مع الخضر عليهما السلام…….
احترازات السلف في باب الأدب في مقام التعليم
السلف رحمهم الله تعالى كانوا يهتمون بهذا الباب أيما اهتمام، بل كانوا يحترزون احترازاً شديداً حتى في أبسط العبارات، فقد كان طالب العلم -وهذا محكي عن بعض المتأخرين- إذا جلس في مجلس الشيخ وقرأ عليه، فإذا كان في نص الكتاب الذي يقرؤه: (اعلم أن الموضوع الفلاني حكمه كذا وكذا)، إذا أتى إلى هذه العبارة في الكتاب الذي يقرأ فيه لم يخاطب شيخه بكلمة (اعلم)، بل يحولها إلى قوله: (ليعلم)؛ تنزهاً من أن يكون هو في مقام التعليم لشيخه، فبدل أن يقرأها (اعلم رحمك الله أن العلماء قالوا كذا وكذا أو اختلفوا في كذا)، يقول: (ليعلم)، ويبدل الكلمة تنزهاً من أن يخاطب شيخه بهذا التعبير. ……
الأدب من الكبير
في الحقيقة باب الآداب باب واسع، ويستغرق أوقاتاً كثيرة جداً، ونحن ننبه على بعض الآداب التي يشيع التهاون والاستهانة بها، وحينما نناقش هذه القضايا نرجو أن يكون كل منا يطلع عليها لغرض التطبيق والامتثال لآداب الشرع الشريف، ومعالجة ما يشيع بيننا من التقصير في هذه الجانب. فندلف إلى أدب من هذه الآداب، وهو أدب مراعاة حق كبير السن، فمن يكبرك في السن فعليك أن تراعي حقه، فقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نعطي كل ذي حق حقه، بل أمر الله عز وجل بذلك في قوله: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [الأعراف:85] وصحيح أنها واردة في حوار شعيب مع قومه في بخس المال، لكن قد يكون معنى قوله: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [الأعراف:85]، يعني: كل ما يستحقونه، ومنها الحقوق الأدبية بالاحترام والتوقير، وليس أدل على ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا) أي: ليس من المسلمين، ولا أخلاقه أخلاق المسلمين، ولا أدبه أدب المسلمين؛ لأن المسلمين خير أمة أخرجت للناس. فيجب أن نعرف هذه الحقوق، وأن نعطي الأكابر حقوقهم كاملة غير منقوصة، وأن نبذلها لهم عن طيب خاطر، وأن نخفض الصوت بحضرتهم، وأن نحرص على الانتفاع بخبرتهم، والالتقاط من جواهر علومهم، وإفساح المجال لهم، وتهيئة الموضع اللائق بشيبتهم، ووضع جواهر علومهم في صدورنا كما توضع الدرر الكبار في العقد المنضود، فإذا أراد إنسان أن ينظم عقداً فإنه يضع الحبات الكبرى في صدره وفي مركزه، فالصدر للصدر. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا) يدل على ذلك؛ فإنه إذا أمرنا بحسن الخلق مع الصغير فأولى ثم أولى أن تَحسُن أخلاقنا مع الكبير، وإذا أمرنا بالرفق مع الجاهل فيكف بالعالم؟ وإذا أمرنا الله عز وجل بحسن الخلق مع الكافر فكيف بالمسلم؟ وذلك أن الله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، وهذه تعم اليهودي والنصراني، وقضية الولاء والبراء قضية أخرى من الثوابت التي لا تنازل فيها، لكن لا يعني أنك تعتز بدينك أن تكون سيئ الخلق ولو مع الكافر ولو مع البهائم، فأنت مطالب بمراعاة هذه الآداب، بل إن الله سبحانه وتعالى لما أرسل موسى وأخاه هارون عليهما السلام إلى فرعون أمرهما بالقول اللين، وموسى عليه السلام هو كليم الله الذي كتب له التوراة بيده، وخصه بتلك الخصائص، وليس هذا فحسب، بل ضم إليه أخاه هارون وزيراً، فهما رسولان كريمان أرسلا إلى أشقى خلق الله في زمانه وهو فرعون، ومع ذلك قال الله سبحانه وتعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، فأمرهما بأن يقولا له قولاً ليناً. إذاً لين القول والموعظة الحسنة والحكمة والأدب في الحوار لا يعني أنك تتنازل عن دينك، وسوء الخلق والتجاوز في التعبيرات لا يعني أنك قوي في الحق، إنما الفتوة أن تجمع بين الثبات على الحق مع حسن الخلق وفي نفس الوقت؛ لأنه ليس المقصود التشفي من هذا الإنسان الهالك، وإنما المقصود هدايته واجتذابه إلى الحق، وهذا ما التزمه موسى، بقوله: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى [النازعات:18]، فانظر إلى التلطف في عبارة موسى مع فرعون وهو من هو؟ ففي قوله: (هل لك إلى أن تزكى) تلطف، ولم يقل: هل لك إلى أن أزكيك، لكن قال: (هل لك إلى أن تزكى)، وكأنه هو الذي يزكي نفسه، ولم يقل له: هل لك إلى أن أزكيك، أو تعال أعلمك أو أزكيك، بل قال: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات:8-19]. فإذا كان هذا مع الكافر فكيف به مع المسلم؟! وإذا كان مع الصغير فكيف به مع الكبير؟! وإذا كان مع الجاهل فكيف به مع العالم؟! ……
مكانة إكرام ذي الشيبة المسلم
عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط) رواه أبو داود . قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله) يعني: من تبجيل الله وتعظيم الله، ومن العلامات التي تبين أن هذا الإنسان يعظم الله سبحانه وتعالى الآتي: أولاً: (إكرام ذي الشيبة المسلم) أي: الذي شاب رأسه ولحيته في التوحيد وفي العبادة وفي الصيام وفي طاعة الله سبحانه وتعالى وفي ذكره عز وجل. فهذا لا شك أنه تتضاعف حرمته بسبب هذا النور الذي جعله الله في شعره، وهو نور المسلم كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه الشيبة توجب له حقاً زائداً على من هو دونه، فإن من تعظيم الله أن تعظم من شاب رأسه ولحيته في التوحيد. ثانياً: (وحامل القرآن)، أي: ومن علامات تعظيم الله سبحانه وتعالى تعظيم الشخص الذي شرفه الله سبحانه وتعالى بحمل القرآن، بشرط أن لا يكون غالياً فيه ولا جافياً عنه، والغلو فيه هو المبالغة في التجويد، أو الغلو فيه بالإسراع في بالقراءة، بحيث يمنعه الإسراع عن تدبر معانيه، أو الغلو فيه مجاوزة الحد فيه من حيث لفظه أو من حيث معناه بتأويل باطل، ولهذا قال: (غير الغالي فيه ولا الجافي عنه) والجفاء في القرآن: أن يتركه بعد علمه، وأن ينساه بعد حفظه، وأن يتباعد عن العمل به وإتقان معانيه، فهذا شرط حامل القرآن. ثالثاً: (وإكرام ذي السلطان المقسط) يعني العادل، سواء أكان حاكماً أم دون ذلك من ذوي السلطان، فما دام عادلاً مقسطاً فإن إكرامه من إجلال الله سبحانه وتعالى، ومن ثم نجد علماء المسلمين في متون العقيدة ينصون على هذا، وهو أن خلفاء المسلمين الحاكمين بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والمقيمين العدل بين الناس هؤلاء يتعبد بتعظيمهم، بل تعظيمهم من علامة تعظيم الله عز وجل. ……
أهمية تقديم الكبير وإجلاله
جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجموعة من الشباب فأقاموا عنده، فلما قاربوا الانصراف قال لهم: (وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم) رواه البخاري . فكبر السن أحد الأسباب التي تعطي حق الأولوية في الإمامة بعد أسباب أخرى، فإن قيل: لماذا هذه المجموعة خصت بقول النبي عليه الصلاة السلام: (ثم ليؤمكم أكبركم)؟ فالجواب: جاء في أول الحديث أنهم قالوا: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون) أي أنهم كانوا شباباً متقاربين في السن، وأتوا في وقت واحد، وتعلموا نفس العلم، فبالتالي يغلب عليهم أنهم حفظوا نفس الحفظ، فمعنى ذلك أنهم كانوا مستوين في قراءة القرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله سلم ..) وهؤلاء الشباب كانت هجرتهم في وقت واحد، وكانوا شباباً متقاربين في السن، فمن ثمَّ قال لهم في هذا الحديث: (وليؤمكم أكبركم). ولما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة نفر وشرع أصغرهم في الكلام قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر الكبر) والكبر: جمع أكبر، يعني: احترم الكبار. فعندما يكون هناك صغار وكبار فعلى الصغار أن يتركوا الكبار أولاً يتكلمون. ومثل هذه الآداب لا ينبغي لنا أن ندع أبناءنا يتلقونها جزافاً، وبصورة غير مقصودة، بل لابد من أنك تفرد مجالس مع أبنائك بأن تلقنهم تلقيناً هذه الآداب، وتلح على ذلك، وتحاسب أحدهم إذا قصر، بحيث تترسخ هذه الآداب في نفسه منذ صغره، وتسهل عليه عند كبره، ومن ثمَّ لم يدع الرسول عليه السلام هذا الموقف يمضي دون أن يلقن الطفل هذا الأدب الشرعي المهم، فلابد من أن تلقنهم ذلك وتوجهه توجيهاً مباشراً. فلما شرع أصغرهم في الكلام قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر الكبر) يعني: قدم للكلام من هو أكبر سناً منك. فهذا أحد حقوق كبير السن أنه لا يتقدم بالكلام بين يديه. وجاء في بعض الروايات: (الكبر الكبر) بالنصب على الإغراء.
أعلى الصفحة
أدب ابن عمر رضي الله عنهما مع الأكابر
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، لا تحت ورقها. فوقع في نفسي أنها النخلة، فكرهت أن أتكلم وثمَّ أبو بكر و عمر رضي الله عنهما، فلما لم يتكلما قال النبي صلى عليه وسلم: هي النخلة. فلما خرجت مع أبي قلت: يا أبت! وقع في نفسي أنها النخلة. قال: ما منعك أن تقولها؟ لو كنت قلتها كان أحب إلي من كذا وكذا. قال: ما منعني إلا أني لم أرك ولا أبا بكر تكلمتما فكرهت). متفق عليه. فانظر إلى أدب عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، يقول النبي عليه السلام في هذا المجلس: (أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم)، وقد ضرب الرسول عليه السلام للمسلم أمثلة كثيرة، كما في قوله: (مثل المؤمن مثل النحلة، إذا أكلت أكلت طيباً، وإذا وضعت وضعت طيباً، وإذا وقعت على عود نخر لم تكسره) يعني: حتى لو أن المسلم ينصح فاسقاً أو فاجراً فإنه -أيضاً- يكون متأدباً في النصيحة ولا يجرح. ولذلك قال: (وإذا وقعت على عود نخر لم تكسره) بل تفيد الناس. والشاهد أن هذا الحديث -أيضاً- فيه ضرب مثل آخر للمؤمن، وهو أن المسلم مثله مثل النخلة؛ لأن المسلم يدين بالسلام أو بالسلامة لا غير، ولا يأتي منه إلا كل سليم وكل سلامة وعافية وخير. وفي الحديث: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، فالمسلم هو من سلم الناس من أذيته، ولا يأتي إلا بالخير. والشجرة التي مثلها مثل المسلم: تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم:25]، أي: تعطي ثمرها كل حين بإذن ربها. وقوله: (لا تحت ورقها) يعني: لا تسقط ورقها. يقول ابن عمر : (فوقع في نفسي أنها النخلة) أي: عرف أن جواب هذا السؤال هو أنها النخلة، قال: (فكرهت أن أتكلم وثمَّ -أي: هناك- أبو بكر و عمر رضي الله تعالى عنها، فلما لم يتكلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هي النخلة). فلما خرجت مع أبي قلت: يا أبت! وقع في نفسي أنها النخلة، قال: ما منعك أن تقولها؟ لو كنت قلتها كان أحب إلي من كذا وكذا). ثم انظر كيف أن ابن عمر أعطى أباه المبرر أو المسوغ لعدم كلامه، وهو مراعاة احترام من هو أكبر منه سناً في المجلس، فقال: (ما منعني إلا أني لم أرك ولا أبا بكر تكلمتما فكرهت).
أعلى الصفحة
أهمية إجلال وتقديم صاحب العلم، وذكر نماذج من هدي السلف في ذلك
يقول الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى: إذا رأيت الشاب يتكلم عند المشايخ وإن كان قد بلغ من العلم مبلغاً فآيس من خيره؛ فإنه قليل الحياء. فقوله: (إذا رأيت الشاب يتكلم عند المشايخ) يعني المشايخ العلماء الذين هم أكبر منه في العلم وفي السن، ثم مع ذلك تراه يتكلم بين يديهم، فإذا سأل الشيخ سؤالاً يبادر هو إلى الجواب، ولا يراعي هذا الضابط، أو لا يراعي هذا الأدب، يقول: إذا رأيت الشاب يتكلم عند المشايخ وإن كان قد بلغ من العلم مبلغاً فآيس من خيره؛ فإنه قليل الحياء. أي: لا تضع فيه أملاً بأنه يأتي منه خير؛ لأن هذا قليل الحياء، ولو كان عنده حياء لاستحيا أن يتكلم في حضور من هم أكبر منه. وقال خلف : جاءني أحمد بن حنبل يسمع حديث أبي عوانة، فاجتهدت أن أرفعه. والإمام أحمد هو إمام أهل السنة والجماعة، فاجتهد خلف في أن يجلس الإمام أحمد على مكان مرتفع، فالإمام أحمد أبى إلا أن يجلس جلسة المتعلم منخفضاً عند المحدث خلف. يقول: فاجتهدت أن أرفعه بأن ألح عليه أن يرتفع في المجلس فأبى، وقال: لا أجلس إلا بين يديك، أُمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه. وكان القاضي أحمد بن إبراهيم بن حماد المالكي مع كونه كبير القضاة إلا أنه كان يتردد إلى الإمام أبي جعفر الطحاوي الحنفي يسمع من تصانيفه، واتفق مجيء شخص لاستفتاء الطحاوي عن مسألة والقاضي عنده، أي أن الرجل جاء يسأل الإمام الطحاوي في مجلسه وكان كبير القضاة موجوداً في هذا المجلس، فلما سأل الرجل الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى عن هذه المسألة قال الطحاوي : مذهب القاضي -أيده الله- كذا وكذا. ولم يقل: مذهبي. وإنما حكى مذهب القاضي الجالس في المجلس، فقال له السائل: ما جئت إلى القاضي، إنما جئت إليك! فقال: يا هذا! هو كما قلت. فأعاد السائل، فقال له القاضي: أفته -أيدك الله- برأيك. فقال له الطحاوي : إذاً حيث أذن القاضي أيده الله أفتي ثم أفتاه. وقال أبو زكريا العنبري : شهدت جنازة حسين القباني سنة تسع وثمانين ومائتين، فصلى عليه أبو عبد الله -يعني محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي شيخ أهل الحديث في عصره -فلما انصرف قدمت دابته، فأخذ أبو عمرو الخفاف بلجامه، و ابن خزيمة إمام الأئمة بركابه، وجعل الجارودي و إبراهيم بن أبي طالب يسويان عليه ثيابه، فمضى ولم يكلم واحداً منهم. وهذا موقف عابر، لكن إذا تأملت وحللت هذا الموقف تجد شدة احترام هؤلاء لأكابرهم ولعلمائهم، فمجرد أن صلى الإمام البوشنجي رحمه الله تعالى على الجنازة فلما انصرف قدموا له الدابة التي يركبها، وكان الذي احتف به يخدمه هم أئمة المسلمين في ذلك العصر وفي ذلك البلد، فهذا أبو عمرو أخذ بلجامه، والإمام ابن خزيمة الملقب بإمام الأئمة رحمه الله تعالى أخذ بركابه، و الجارودي و إبراهيم بن أبي طالب جعلا يسويان عليه ثيابه، فمضى ولم يكلم أحداً منهم رحمهم الله تعالى أجمعين. وعن حكيم بن قيس بن عاصم أن أباه أوصى عند موته بنيه، فقال: اتقوا الله! وتوجوا أكبركم؛ فإن القوم إذا توجوا أكبرهم خلفوا أباهم، وإذا توجوا أصغرهم أزرى بهم ذلك في أكفائهم. فقوله: (اتقوا الله وتوجوا أكابركم) يعني: راعوا حق الكبير وقدموا الكبير. (فإن القوم إذا توجوا أكبرهم) يعني: جعلوه سيدهم (خلفوا أباهم) يعني: قاموا مقام أبيهم في حسن الفعال. (وإذا توجوا أصغرهم أزرى بهم ذلك في أكفائهم) فالأكفاء سوف ينظرون إليهم بازدراء، فعدم احترامك للكبير يجعل من يراك من بعيد ينظر إليك بازدراء؛ لأن في هذا نسبة لك إلى سوء الأدب. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (البركة مع أكابركم، البركة مع أكابركم). وعن عبد الله بن مغول قال: كنت أمشي مع طلحة بن مطرف ، فصرنا إلى مضيق -أي: إلى مكان ضيق لا يتسع إلا لمرور شخص واحد فقط- فتقدمني -يعني أنه كان يعرف أنه أكبر منه في السن فسارع هو إلى التقدم- ثم قال لي: لو كنت أعلم أنك أكبر مني بيوم ما تقدمتك. وعن الفضل بن موسى قال: انتهيت أنا و عبد الله بن المبارك إلى قنطرة، فقلت له: تقدم. وقال لي: تقدم. فحاسبته فإذا أنا أكبر منه بسنتين. يعني أنهما -حتى يحسما الخلاف- ظلا يحسبان عمر كل منهما. قال: فحاسبته فإذا أنا أكبر منه بسنتين. فيفهم من ذلك أن الذي تقدم هو الأكبر. وعن يعقوب بن سفيان قال: بلغني أن الحسن و علياً ابني صالح كانا توأمين، خرج الحسن قبل علي. يعني أنهما توأمان ولدا في وقت، ومعلوم أنه لا يخرج التوأمان في وقت واحد، وإنما يكون هناك فرق بينهما قد يكون دقائق أو أكثر أو أقل، ومع ذلك يقول هنا: بلغني أن الحسن و علياً ابني صالح كانا توأمين، خرج الحسن قبل علي -أي أنه أكبر منه بدقائق- فلم ير قط الحسن مع علي في مجلس إلا جلس علي دونه، ولم يكن يتكلم مع الحسن إذا اجتمعا في مجلس. مراعاة لهذا الفارق البسيط في السن بينهما، وهو عبارة عن لحظات؛ لأنهما توأمان، فالله المستعان. ويقول يحيى بن معين الإمام الجليل رحمه الله تعالى: إذا حدثت في بلدة فيها مثل أبي مسهر فيجب على لحيتي أن تحلق. يعني: إذا حدثت في بلدة فيها مثل أبي مسهر فهذا سوء أدب، وبالتالي ينبغي أن أعزر وأعاقب بحلق لحيتي. وهو لا يحصل منه ذلك، وإنما هذا مجرد ضرب مثل، وإلا فبعض الأمراء الذين لم يكن عندهم فقه كانوا إذا أرادوا تأديب الرجل والتشهير به حلقوا له لحيته، فهذه العقوبة كانت من التعزير، ولذلك العلماء نصوا في كتب الفقه على أنه لا يجوز التعزير بحلق اللحية؛ لأنها معصية، والتعزير لا يكون بالمعاصي، لكن الشاهد من هذا الموقف مراعاة الأدب مع من هو أجل وأكبر. وعن الحسن بن علي الخلال قال: كنا عند معتمر بن سليمان يحدثنا إذ أقبل ابن المبارك ، فقطع معتمر حديثه، فقيل له: حدثنا. فقال: إنا لا نتكلم عند كبرائنا. وانتهى أبو منصور و إبراهيم إلى زقاق، فقال له إبراهيم: تقدم. فأبى أن يتقدم، فتقدم إبراهيم ، ثم قال: لو كنت أعلم أنك أكبر مني بيوم ما تقدمت. وهذا غير القصة التي ذكرناها قبل. وعن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى قال: إذا تكلم الحدث -يعني: صغير السن- في الحلقة عندنا أيسنا من خيره، وقلنا: هذا لا يفلح؛ لأنه سيء الخلق قليل الحياء. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد رحمهما الله تعالى: رأيت أبي إذا جاء الشيخ والحدث من قريش أو غيرهم من الأشراف لم يخرج من باب المسجد حتى يخرجهم، فيكونوا هم يتقدمونه، ثم يخرج من بعدهم. وقال المروزي : رأيته جاء إليه مولى ابن المبارك ، فألقى إليه مخدة وأكرمه. يعني: عظم الإمام وأحمد مولى ابن المبارك وخادمه أو عبده تعظيماً لـابن المبارك نفسه. يقول: رأيته -يعني الإمام أحمد – جاء إليه مولى ابن المبارك فألقى إليه مخدة وأكرمه، وكان إذا دخل عليه من يكرم عليه يأخذ المخدة من تحته فيلقيها له. وقال المروزي : كان أبو عبد الله -يعني الإمام أحمد رحمه الله- من أشد الناس إعظاماً لإخوانه ومن هم أسن منه، لقد جاءه أبو همام راكباً على حمار، فأخذ له أبو عبد الله بالركاب، ورأيته فعل هذا بمن هو أسن منه من الشيوخ. وكان بكر بن عبد الله المزني يقول: إذا رأيت من هو أكبر منك فعظمه، وقل: إنه سبقني إلى الإسلام والعمل الصالح، وإذا رأيت من هو أصغر منك فعظمه وقل في نفسك: إني قد سبقته إلى الذنوب. ……
إجلال حامل القرآن وتقديمه
وأيضاً من هذه الحقوق حق حامل القرآن، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبرنا في الحديث الصحيح أن خيرنا هم أهل القرآن، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، فهذا بيان لطبقة عليا من طلبة العلم، وأن أشرف طلبة العلم وخير العلماء والمتعلمين من كان تعلمه وتعليمه في القرآن الكريم؛ لأن خير الكلام كلام الله، فكذا خير الناس بعد النبيين من اشتغل بكلام الله عز وجل مريداً بذلك وجه الله سبحانه وتعالى، فلأهل القرآن شرف عظيم بهذه الشهادة على لسان رسول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). وقد خص الشرع الشريف أهل القرآن بكثير من الفضائل، فإنهم يتقدمون بحسب اهتمامهم بالقرآن الكريم، وبحسب حظهم من حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم حينما استعرض قوماً وكان بصدد تأمير أمير عليهم فسألهم عما يحفظ كل منهم، فلما رأى أحدهم قد قرأ سورة البقرة قال له: (أنت أميرهم)، فأمَّره لحفظه سور البقرة. وقال عليه الصلاة السلام: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله). رواه مسلم . وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان القراء أصحاب مجلس عمر رضي الله عنه ومشاورته كهولاً كانوا أو شباباً) رواه البخاري. أي: كان القراء -حفاظ القرآن- هم الذين يقدمهم عمر ، بغض النظر عن سنهم، سواء أكانوا كهولاًُ أم شباباً ما داموا حافظين للقرآن، فكان يشكل منهم مجلس مشورته ومصاحبته. وعن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن لله أهلين. قيل: من هم يا رسول الله؟! قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته). وكان صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد، ثم يقول: (أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟) أي: يجمع بينهما في الدفن، ويقدم أحدهما قبل الآخر، وهذا التقديم يتم على أساس حفظه للقرآن الكريم، فكان يقول: (أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟ فإن أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد) رواه البخاري . وبهذا نكون قد مررنا على بعض الحقوق العامة الشاملة التي تتعلق بحق المسلم عموماً، وفيما يتعلق بحفظ غيبته وعدم انتهاك حرمته بالغيبة، فضلاً عن البهتان، وكذلك مراعاة الأدب مع كبير السن، وكذلك الأدب مع حامل القرآن الكريم، والقاعدة أن الحرمة تتضاعف بتعدد جهات الانتهاك، أي أن بعض المعاصي إذا حصلت في المخالفة من جهة واحدة فهذا ذنب، ويتعاظم هذا الذنب وهذا الوزر إذا تعددت جهات الانتهاك. فمثلاً: لو أن إنسان له جار، فله حق الجوار وله حق المسلم، ولو كان قريباً فله حق زائد وهو حق الرحم، فأذية مثل هذا الجار لا يكون وزرها مثل أذية الشخص الأجنبي أو الجار الكافر، وهكذا، فكل ما مضى من كلام كان تمهيداًً وتوطئة لأعظم الناس حقاً في المسلمين، وهم أهل العلم وأهل البصيرة في الدين، فهم يشتركون مع كل من مضى في هذه الحقوق: حق الإسلام، وحق كبر السن، وحق حمل القرآن الكريم، ثم بعد ذلك حق العلم الذي شرفهم الله سبحانه تعالى به، فإن هذه الحقوق جميعاً -وخاصة حق العلم- تفرض علينا التزامات تجاههم، وحينما نتكلم عن أهل العلم فنحن لا نقصد زمناً معيناً أو مكاناً معيناً، وإنما نقصد جميع أهل العلم ابتداء من الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى عصرنا الذي نعيشه، فللعلماء حرمة وحقوق وآداب ينبغي أن نلتزمها معهم. والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين…….