المسألة الأولى: تعريف الرخصة لغة واصطلاحاً:
ذكر في معجم مقاييس اللغة(1) بأن الراء والخاء والصاد أصل يدل على لين وخلاف شدة فالرخصة في الأمر خلاف التشديد فيه، ورخص له في الأمر: أذن له فيه بعد النهي، والاسم الرُّخصة.
ومن ذلك: رخُص السعر إذا سهل وتيسر، أو رخصه الله فهو رخيص ورخص الشارع لنا في كذا ترخيصاً وأرخص إرخاصاً: إذا يسره وسهله، وفي الحديث: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته"(2).
وأما الرُّخَصَه – بفتح الخاء: فو الشخص الآخذ بالرخصة.
فالرُّخْصَةُ – في الجملة – تدل على سهولة ويسر ومسامحة وطراوة.
ومن هذا المعنى اللغوي أخذت الرخصة اصطلاحاً عند الأصوليين، لأنها تدل على كل معنى في الدين جنح فيه إلى التيسير والتسهيل والبعد عن العنت والتشديد(3).
والرخصة تطلق في اصطلاح علماء الأصول مقابل العزيمة فهما اسمان متقابلان متلازمان مفهوماً وعملاً.
ولاختلاف الأصوليين في تعريف العزيمة اختلفوا أيضاً في تعريف الرخصة على أقوال متعددة(4) وهي وإن اختلفت في ألفاظها وعباراتها إلا أنها تتفق تقريباً في معناها والمقصود منها والناظر فيها يتبين لها ما يلي:
أولاً: أنه لا بد للأخذ بالرخصة من دليل يدل عليها.
ثانياً: ولا بد من وجود العذر في المكلف حتى يستطيع به أن يعدل عن الحكم الأصلي الذي هو العزيمة إلى حكم الرخصة.
ثالثاً: أن أحكام الرخصة ليست هي الأحكام الأصلية بل هي أحكام وضعها الشارع للتخفيف عن المكلفين ولرفع الحرج والضيق عنهم وقد نص كثير من الأصوليين في تعريفاتهم على ذلك(5).
ولعل من أجمع التعاريف ما ذكره البيضاوي بقوله: "الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر"(6)، فقد توفرت فيه الأمور الثلاثة السابقة إضافة إلى كونه جامعاً مانعاً سالماً مما ورد على غيره من اعتراضات.
شرح التعريف وبيان محترزاته:
قوله: (حكم): جنس.
وقوله: (الثابت): فيه إشارة إلى ما سبق ذكره أولاً من أن الترخص لا بد له من دليل وإلا لزم ترك العمل بالدليل السالم عن المعارض، فنبه عليه بقوله: (الثابت)، لأنه لو لم يكن لدليل لم يكن ثابتاً بل الثابت غيره.
وقوله: (على خلاف الدليل): احترز به عما أباحه الله تعالى من الأكل والشرب وغيرهما فلا يسمى رخصة، إذ لم يثبت على المنع منه دليل، وأطلق المصنف الدليل ليشمل ما إذا كان الترخيص بجواز الفعل على خلاف الدليل المقتضي للتحريم كأكل الميتة وما إذا كان بجواز الترك، إما على جواز الفعل المقتضي للوجوب كجواز الفطر في السفر، وإما على خلاف الدليل المقتضي للندب، كترك الجماعة بعذر المطر والمرض ونحوهما فإنه رخصة بلا نزاع.
وقوله: (العذر): يعني المشقة، والحاجة، واحترز به عن شيئين:
الأول: الحكم الثابت بدليل راجح، على دليل آخر معارض له.
الثاني: التكاليف كلها فإنها أحكام ثابتة على خلاف الدليل ومع ذلك ليست برخصة لأنها لم تثبت لأجل المشقة، وإنما قلنا: إنها على خلاف الدليل لأن الأصل عدم التكاليف، والأصل من الأدلة الشرعية(7).
وبهذا يتبين وضوح هذا التعريف واشتماله على التخفيفات والرخص في الأحوال والظروف الطارئة من مرض وسفر وإكراه وضرورة وغير ذلك من الأعذار، ولو لم تكن شاقة(8).
والسياحة سفر كما تقدم، فكانت من الأعذار المبيحة للترخص.
المسألة الثانية: شروط الترخص في سفر السياحة:
لا يترخص السائح برخص السفر إلا إذا تحققت فيه الشروط التالية:
الشرط الأول: القصد، فلا بد أن يعزم في الابتداء على قطع مسافة السفر لمقصد معلوم وهو محل اتفاق بين الفقهاء(9)، فمن شخص عن بلده ولا نية له في السفر فهو مقيم لا رخصة له، وذلك كالهائم على وجهه لا يدري أين يتوجه ومن خرج لرد ضالة إلا إذا بلغ مكاناً يكون رجوعه منه إلى بلده سفراً عرفاً، فحينئذ يشرع له الترخص، ومن علق سفره بلحاق قافلة بضاحية البلد إن حصل له ذلك وإلا فلا ولم يغلب على ظنه حصول مراده فهو باق على حكم الإقامة لعدم النية وكذلك التائه عن الطريق وهو في غير سفر وكذا الصياد يتبع الطريد والسائح في الأرض لا يقصد مكاناً معيناً فلا رخصة له لعدم القصد(10)، والأصل في هذا الحديث "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"، ونظير هذا في الوقت الحاضر ما يعرف "بحجز الانتظار"(11) في وسائل المواصلات الحديثة من سفن وطائرات وقطارات وحافلات.
فإذا كان المطار أو صالة الانتظار للسفر خارج العمران أو في بلدة لا يعتبر الذهاب إليها سفراً، فليس له الترخص، لأن الأصل بقاء الإقامة فلا ينتقل عن ذلك إلا بيقين أو غلبة ظن(12).
واستثنى العلماء مما تقدم: من علم في ابتداء سفره أنه لن يدرك مطلوبه قبل المسافة المحددة للترخص فله أن يترخص لعزمه ابتداء على قطع المسافة، أما من لم يعلم ذلك فلا يترخص ولو طال سفره وتجاوز مسافة الترخص(13).
قال في الإقناع: "وإن شك في قصر المسافة أو لم يعلم قدر سفره كمن خرج في طلب آبق أو ضال ناوياً أن يعود به أين وجده لم يقصره حتى يجاوز المسافة"(14).
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: "عن جواز الفطر والقصر للبدوي الذي ضاعت إبله وسافر يبحث عنها لا يقصد مكاناً معيناً ولا يعلم هل يستمر سفره إلى مسافة القصر أو يجدها دونه؟"
فأجاب: "من كان بهذه الصفة المسؤول عنها فلا يستبيح رخصا لسفر حال ما يخرج من بلده حتى يجاوز المسافة فإذا جاوزها ابتدأ استباحة رخص السفر"(15).
الشرط
الثاني: مفارقة محل الإقامة (عمران بلدته)
فللسائح إذا سافر أن يترخص بعد الخروج من بلده ومفارقة جميع عمرانها وذلك باتفاق الفقهاء(16).
لكن العلماء اختلفوا في اشتراط المفارقة للترخص وجواز الفطر والقصر قبل ذلك وذلك على أقوال:
القول الأول: اشتراط المفارقة فليس لمن نوى السفر أن يترخص حتى يخرج من بيوت بلده ويفارق عمرانها، ويجعلها وراء ظهره.
وهذا قول الجمهور من الأئمة الأربعة والأوزاعي وإسحاق وغيرهم، واختاره الشيخ محمد بن إبراهيم وأفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة(17).
القول الثاني: لا يشترط ذلك فللمسافر أن يترخص ولو كان في بلده إذا عقد العزم وتأهب للسفر وهو رواية عن أحمد ونقله ابن حجر عن بعض الكوفيين وحكي عن عطاء وغيره واختاره ابن القيم(18).
القول الثالث: أنه إذا خرج مسافراً لا يقصر يومه ذلك إلى الليل أو عكسه. وهو مروي عن مجاهد(19).
القول الرابع: أنه إذا جاوز حيطان داره فله القصر وهو مروي عن عطاء(20).
سبب الخلاف:
معارضة مفهوم الاسم وهو السفر لدليل الفعل فإنه يعد مسافراً إذا نوى السفر وشرع فيه لكن هذا معارض بدليل الفعل منه صلى الله عليه وسلم فقد كان لا يقصر إلا إذا فارق بيته بثلاثة أميال، فمن قال بالأول أجاز القصر بمجرد نيته والشروع فيه ومن قال بالآخر اشترط المفارقة للقصر(21).
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 – قوله سبحانه: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ.. الآية) (النساء: من الآية101).
وجه الدلالة: أن الله سبحانه علق القصر على الضرب في الأرض ولا يعد ولا يكون ضارباً في الأرض حتى يخرج عن بلده ويفارقه فالمقيم لا يسمى ضارباً(22).
2 – قوله سبحانه: (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) ولا يقال لمن كان داخل البلد إنه على سفر أو مسافر حتى يفارق البلد(23).
3 – حديث أنس رضي الله عنه "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً وبذي الحليفة ركعتين" فكان صلى الله عليه وسلم يترخص بالقصر إذا خرج من المدينة وارتحل وهذا ظاهر(24).
4 – وخرج علي رضي الله عنه فقصر وهو يرى البيوت فلما رجع قيل له هذه الكوفة فقال: "لا حتى ندخلها"، وفي لفظ" خرجنا مع علي بن أبي طالب فقصرنا الصلاة ونحن نرى البيوت ثم رجعنا فقصرنا الصلاة ونحن نرى البيوت"(25).
5 – وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهم "أنه كان يقصر الصلاة حين يخرج من بيوت المدينة ويقصر إذا رجع حتى يدخل بيوتها"(26).
6 – وقال عبيد بن جبر: "كنت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في شهر رمضان فدفع ثم قرب غذاؤه فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة ثم قال: اقترب، قلت: ألست ترى البيوت؟ قال: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل"(27).
7 – ومن المعقول: أنه لا يطلق على الشخص مسافر إلا إذا باشر السفر وفعله ولا يكون ذلك إلا بخروجه من البلد ومفارقته الدور(28).
8 – ولأنه لما وجب عليه الإتمام إذا دخل بنيان بلده عند قدومه من سفره إجماعاً وجب أن لا يجوز له القصر في ابتداء خروجه قبل مفارقة بنيان بلده(29).
9 – ولأن النية (القصد) شرط كما تقدم ولا بد من اقترانه بالفعل وهو الخروج والمفارقة وإلا فلا عبرة بمجرد النية دون ذلك لأن مجرد قصد الشيء من غير اقتران بالفعل يسمى عزماً ولا يسمى نية وفعل السفر لا يتحقق إلا بعد الخروج من المصر فما لم يخرج لا يتحقق قران النية بالفعل فلا يصير مسافراً(30).
واستدل أصحاب القول الثاني بحديث أبي بصرة السابق ذكره، وبما روي عن أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً وقد رُحِّلت له راحلته ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل، فقيل له: سنة؟ قال: سنة(31).
"ولأنه لما صار مقيماً بمجرد النية من غير فعل صار مسافراً بمجرد النية"(32).
المناقشة والترجيح:
ويمكن مناقشة ما استدل به أصحاب القول الثاني بأن استدلال الجمهور به أظهر من استدلالهم كما هو واضح من سياق النص فأبو بصرة لم يأكل حتى دفع وشرع وباشر السفر فهذا دليل للجمهور عليهم وقوله: "لم يجاوز البيوت" معناه – والله أعلم – لم يبعد منها، بدليل قول عبيد له: "ألست ترى البيوت"(33).
وأما الدليل الثاني فالحديث في سنده عبد الله بن جعفر والد علي بن المديني وهو ضعيف(34)، وعلى فرض صحته فإن منزله رضي الله عنه كان في ظاهر البلد وكان عليه – في زمانهم – مشقة في الوقوف والنزول أثناء الطريق لتناول الأكل والطعام وهم حديثوا عهد بمسير وسفر فرأى أنهم يتزودون بالطعام قبل ركوبهم حتى يواصلوا المسير إلى الليل أو إلى آخر النهار دون انقطاع أو توقف، بخلاف ما عليه الحال في هذا الزمن فلا مشقة في التوقف للأكل بعد المسير(35).
وأما القياس على صيرورته مقيماً بمجرد النية فهذا قياس مع الفارق حيث إن الأصل في الإنسان هو الإقامة فيصير مقيماً بمجرد النية أما المسافر فيحتاج مع النية إلى المباشرة فافترقا(36).
وأما القولان الأخيران فقد قال ابن المنذر عن رأي مجاهد: "لم يوافقه عليه أحد"(37).
وقالا لنووي: "فهذان المذهبان – أي الثالث والرابع – فاسدان فمذهب مجاهد مناف للأحاديث الصحيحة في قصر النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة وحين خرج من المدينة ومذهب عطاء موافقيه منابذ لاسم السفر"(38).
وبهذا يترجح قول الجمهور لقوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة وضعف أدلة القول الثاني ومخالفة القول الثالث والرابع للأحاديث الصحيحة الصريحة والعرف المستقيم، ولا سيما ما يتعلق بإفطاره قبل مفارقة العمران لأن صيامه صحيح باتفاق وإفطاره مختلف فيه فالأحوط الانتظار حتى تتحقق المفارقة، ثم إن الفطر ليس هو الأفضل للمسافر مطلقاً وإنما الأفضل له فعل الأيسر في حقه ونظراً لتعدد وسائل النقل واختلاف طرق المفارقة في هذا العصر فإنه يحسن بيان المفارقة المعتبرة لكل من:
أ – أهل المدن والقرى:
تكون المفارقة في حقهم بمجاوزة جميع العمران من جهة مقصدهم حتى لا يبقى بيت متصل ولا منفصل مما هو معد للسكن واشترط الحنفية مفارقة ما كان من توابع محل الإقامة كربض المصر وهو ما حول المدينة من بيوت ومساكن والقرى المتصلة بالربض على الصحيح وأما الفناء المنفصل عن البلد المعد لمصالحه كمدافن الموتى وغيرها فلا يشترط مجاوزتها(39).
والخراب المتخلل للعمران معدود من البلد، أما المساكن الخربة في أطراف البلد فإن كانت خالية من السكان وليس ثمة عمران من ورائها فلا تشترط مجاوزتها لأنها أشبهت الصحراء(40).
لكن الشافعية اشترطوا مجاوزتها إذا كانت قائمة الحيطان ولم يحوط على العامر لإمكان السكنى فيها
كما اشترطوا مجاوزة سور البلد ولو تعدد وتخلله مزارع وخراب لأن ما كان داخله فهو معدود من البلد ولو كان غير مكتمل أو بعضه منهدم والخندق في البلدة التي لا سور لها كالسور في هذا(41)، وأما الحنابلة فلا يشترط عندهم مجاوزة السور وإنما بيوت قريته العامرة سواء كانت داخل السور أو خارجه فيقصر إذا فارقها بما يقع عليه اسم المفارقة بنوع البعد عرفاً، ولا يشترط مفارقة الخراب عندهم ولو كانت حيطانه قائمة ما لم يله عامر(42).
وأما البساتين والمزارع المتصلة بالبلد فإنها لا تخلو:
1 – أن تكون غير معدة للسكن فلا يشترط مجاوزتها.
2 – أن تكون معدة للسكن ولو في بعض العام ففي اشتراط مجاوزتها خلاف على قولين:
الأول: عدم اشتراط ذلك، وهو قول الحنفية والشافعية.
الثاني: اشتراط ذلك، وهو مذهب المالكية والصحيح عند الحنابلة وقال به بعض الشافعية، ونظره النووي مع استظهاره عدم الاشتراط وقال المالكية لا يشترط مجاوزتها إلا إذا سافر من ناحيتها أو من غير ناحيتها وكان محاذياً لها وخالف بعضهم في الثانية فقال لا يشترط المجاوزة فيها، لأن غايتها أن تكون كجزء من البلد(43).
وعلل أصحاب القول الأول، بأنها ليست من البلد فلا تصير منه بإقامة بعض الناس فيها جزءاً من العام.
وعلل أصحاب القول الثاني بأنها صارت جزءاً من البلد بذلك(44).
والأقرب أن مكان ابتداء السفر هو الأرض الفضاء التي لا عمران فيها ومفارقة العمران مسألة عرفية فلا يدخل في ذلك الضياع والمزارع ولو كان الناس يقيمون فيها بعض الفصول، ومثل ذلك المعارض والمستودعات ومحطات الوقود وإن كانت مزدهرة فلا يشترط مجاوزتها.
لكن إذا كان عادة أهل البلد سكن مزارعهم بصفة دائمة كبعض أهل الأرياف فلا بد حينئذ من مجاوزتها لأنها ملحقة بالبلد ما دامت متصلة به والسكن فيها دائمة.
وإذا كان الراجح في المفارقة تقييدها بالعرف فإن من خرج من البلد يريد المطار فهو مسافر من حين خروجه وله الترخص إلا إذا كان من سكان المطار فلا لأنه لم يفارق بنيان بلده عرفاً.
وقد شاع عند بعض الناس في هذا الزمن الترخص في المطارات والموانئ ظناً منهم بأن من وصلها فقد شرع في السفر – إذا كان حجزه مؤكداً – وهذا العمل محل نظر فقد ضبط الفقهاء المفارقة المبيحة للترخص – كما تقدم – بمجاوزة عمران البلد مما يشمله اسم واحد وإن كان من مصالح البلد وتوابع الإقامة(45).
كما قال ابن عابدين "يشترط مفارقة ما كان من توابع موضع الإقامة كربض المصر وهو ما حول المدينة من بيوت ومساكن فإنه في حكم المصر… وأما الفناء وهو المكان المعد لمصالح البلد كمريض الدواب ودفن الموتى وإلقاء التراب، فإن اتصل بالمصر اعتبر مجاوزته وإن انفصل بمزرعة فلا"(46).
وعلى هذا يقال:
إن كان المطار والميناء خارج البلد منفصلاً عنه بحيث يعد الذهاب إليه خروجاً عن البلد وتحصل به مفارقة العمران فيجوز الترخص حينئذ.
أما إذا كان المطار أو الميناء متصلاً بالبلد وجزءاً منه ولا يعد الذهاب إليه خروجاً ومجاوزة ومفارقة للعمران عرفاً فلا يسوغ الترخص حينئذ والأمر مبناه على العرف كما تقدم.
ب – المسافر بحراً:
إذا كانت البلدة ساحلية وأراد المسافر الخروج في سفره بسفينة فيعتبر في مفارقته مجاوزة هذه السفينة وجريها ما لم يكن ذلك محاذياً للبلد فلا بد حينئذ من مجاوزة العمران.
وإذا لم تكن السفينة راسية على الساحل واحتيج إلى زورق ينقل إليها فيجوز الترخص بمجرد مغادرة الزورق إليها بشرط أن تكون المغادرة إليها هي الأخيرة أما ما دام يذهب ويعود فلا يجوز حينئذ لمن به ولا لمن بالسفينة أن يترخص(47).
ج – المسافر جواً:
اعتبر العلماء فيمن صعد جبلاً أن يفارق المكان المحاذي لرؤوس الحيطان واعتبر العلماء فيمن هبط جبلاً أن يفارق المكان المحاذي لأساس الحيطان لأنه لما اعتبر مفارقة البيوت إذا كانت محاذية اعتبر هنا مفارقة سمتها.
ويلحق المسافر بالطائرة بذلك فتكون المفارقة في حقه بمجرد مجاوزة الطائرة المكان المحاذي لسمت البنيان، وفي الهبوط لا يزال مسافراً حتى تحاذي الطائرة سمت البينان.
ولا يشترط للمفارقة هنا الخروج عن المجال الجوي للبلد كما قد يتوهمه البعض(48).
وهذا إذا كان المطار داخل البلد أما إذا كان منفصلاً عن البلد بحيث يعتبر الذهاب له سفراً فالمفارقة حينئذ حصلت بالخروج من البلد للمطار كما تقدم.
د – المقيم بالصحراء والخيام:
فإذا كان مقيماً في الصحراء فيشترط لترخصه مفارقته للبقعة التي فيها رحله وتنسب إليه، فإن سكن وادياً وسار في عرضه فلا بد من مجاوزة عرضه إذا كان هذا العرض معتاداً فإن أفرطت سعته لم يشترط إلا مجاوزة القدر الذي يعد موضع نزوله أو موضع الحلة التي هو منها، كما لو سافر في طول الوادي فيكفيه ذلك القدر.
وإذا كان مقيماً في خيام فيشترط لترخصه مفارقته لها جميعاً مجتمعة كانت أو متفرقة إذا كانت حلة واحدة وهي بمنزلة أبينة البلد كما صرح بذلك المالكية والشافعية والحنابلة ويشترط مع مجاوزتها مرافقها كمطرح الرماد وملعب الصبيان ومراحل الإبل، لأنها من موضع إقامتهم(49).
الشرط الثالث: مسافة السفر:
فلا بد للأخذ برخص السفر من أن تكون المراد قطعها مسافة سفر حتى إن أهل اللغة عرفوا السفر بأنه "قطع المسافة"(50)، وقد اختلف الفقهاء في تحديدها، فمنهم من حدها بطول معين أو بزمن معين ومنهم من لم يقدر مسافة للسفر وحدها بالعرف لإطلاق النصوص والأقوال في ذلك كثيرة أوصلها بعضهم إلى عشرين قولاً(51).
سبب الخلاف: معارضة المعنى المعقول للفظ المنقول.
ومرد ذلك إلى إطلاق السفر في القرآن دون تحديده بمسافة معينة، وكذلك اختلاف المسافات والمدد التي قصر فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فمن نظر إلى إطلاق النصوص، اعتبر كل من جاز إطلاق اسم مسافر عليه قد قطع مسافة السفر وجاز له الترخص، والقائلون بهذا اختلفوا في الحد الأدنى لما يعد سفراً.
ومن نظر إلى المعنى المعقول من اللفظ، قال: إن تأثير السفر في القصر هو المشقة الموجودة فيه فكل ما وجد فيه هذا المعنى فهو سفر يترخص فيه ثم اختلف هؤلاء في تحديد المسافة التي تحصل بها هذه المشقة التي يترخص بها(52).
والأقوال في ذلك كما يلي:
القول الأول: ليس للسفر مسافة محددة ويجوز الترخص في طويل السفر وقصير وهو قول الظاهرة وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وابن قدامة المقدسي وكثير من المعاصرين ومنهم الشيخ محمد بن إبراهيم وابن عثيمين(53).
القول الثاني: مسافة السفر المبيحة للترخص: أربعة برد، وهو ما يساوي ثمانية وأربعين ميلاً أو ستة عشر فرسخاً(54)، وهو قول ابن عمر وابن عباس والحسن وإسحاق وغيرهم وهو قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة واختاره الشيخ ابن باز(55).
القول الثالث: مسافة السفر المبيحة للترخص: مسيرة ثلاثة أيام بلياليها بسير الإبل ومشي الأقدام وهو قول عثمان بن عفان وابن مسعود والثوري وابن سيرين وغيرهم، وهذا مذهب الحنفية، ولا يعتبر عندهم – على الصحيح – بالفراسخ.
وقال أبو يوسف: يومان وأكثر الثالث، وهي رواية الحسن عن أبي حنيفة(56).
القول الرابع: أقل مسافة للترخص ثلاثة أميال ونسب هذا للظاهرية(57).
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 – قوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً) (النساء:101)، فالآية مطلقة والتقدير تقييد لمطلق الكتاب ولا يجوز ذلك إلا بدليل، وظاهر الآية يدل على إباحة القصر لكل من ضرب في الأرض دون تقييد بمسافة معينة، وقد سقط شرط الخوف بخبر يعلى بن أمية فبقي ظاهر الآية متناولاً كل ضرب في الأرض(58).
2 – عن عائشة رضي الله عنها قالت: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في الحضر"(59).
3 – عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "فرض الله الصلاة على لسان نبيك صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة"(60).
4 – عن عمر رضي الله عنه قال: "صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد"(61).
5 – عن جبير بن نفير قال: "خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلاً فصلى ركعتين، فقلت له فقال: رأيت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين فقلت له، فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل"(62).
وجه الدلالة: أنه لم يخص الله سبحانه ولا رسوله ولا المسلمون سفراً من سفر فليس لأحد أن يخصه إلا بنص أو إجماع متيقن(63).
كما قال شيخ الإسلام: "السفر مطلق في الكتاب والسنة فليس يخصان بسفر دون سفر، لا بقصر ولا بفطر، ولم يحد النبي صلى الله عليه وسلم مسافة القصر بحد زماني ولا مكاني والواجب أن يطلق ما أطلقه صاحب الشرع ويقيد ما قيده"(64).
فهذه الأدلة وغيرها مما ورد في إباحة الترخص بالسفر مطلقة في كل سفر، والتحديد بمسافة معينة أو مدة أو زمن معين تقييد لمطلق الكتاب والسنة ولا يجوز ذلك إلا بدليل، كما لا يجوز التفريق بين متماثلين إلا بدليل.
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1 – ما نق عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أنهما كانا يقصران ويفطران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخاً(65).
2 – وأخرجه مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنه ركب إلى ريم فقصر الصلاة في مسيره ذلك قال مالك: وذلك نحو من أربعة برد(66).
3 – وأخرج مالك عنه أن أباه ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيره ذلك قال مالك: وبين ذات النصب والمدينة أربعة برد(67).
3 – وعن عطاء قال: سئل ابن عباس: "أقصر في الصلاة إلى عرفة؟ قال: لا ولكن إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف"(68).
واستدل أصحاب القول الثالث بما يلي:
1 – حديث ابن عمر مرفوعاً: "لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم"، فجعل السفر ثلاثة أيام ولم يجعل الأقل من ذلك سفراً يوجب عليها اصطحاب المحرم فكذلك الصلاة وسائر الرخص لا تكون فيما دون ذلك، فإنه لو لم تكن مدة السير مقدرة بالثلاث لما كان للتخصيص بها معنى(69).
2 – وعن شريح بن هانئ قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله، فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه فقال: "جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوماً وليلة للمقيم"(70).
وجه الدلالة: قالوا: "فقد عمت الرخصة الجنس ومن ضرورته عموم التقدير(71) فالألف واللام للجنس فكل مسافر يمسح ثلاثة أيام فلو كان السفر أقل من ذلك لكان من المسافرين من لا يمكنه مسح ثلاثة أيام ولا يعد هذا مسافراً شرعاً(72).
3 – أن الثلاثة أقل الكثير وأكثر القليل ولا يجوز له القصر في قليل السفر فوجب أن يكون أقل الكثير (الثلاث) حداً له(73).
واستدل أصحاب القول الرابع:
بما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ (شعبة الشاك) صلى ركعتين"(74).
فدل على أن ذلك هو أقل مسافة يترخص فيها، حيث لم يصح أقل من ذلك(75).
المناقشة والترجيح:
نوقشت أدلة القول الأول بما يلي:
1 – اعترض الأحناف على الاحتجاج بالآية لأن الضرب في الأرض لغة عبارة عن السير فيها مسافراً لا مطلق السير والكلام هنا هل يصيرا لضارب في الأرض مسافراً بسير مطلق من غير اعتبار المدة؟ والنزاع في تقديره، والآية ساكتة عن ذلك فلا حجة فيها، وقد ورد الحديث بالتقدير فوجب العمل به، لأنه لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم وقد أوتي بيان القرآن أنه قصر الصلاة في أقل من مرحلتين(76).
وأجيب عن ذلك:
بما ذكره ابن حزم في قوله: "السفر هو البروز عن محل الإقامة وكذلك الضرب في الأرض، هذا الذي لا يقول أحد من أهل اللغة – التي بها خواطبنا وبها نزل القرآن – سواه، فلا يجوز أن يخرج عن هذا الحكم إلا ما صح النص بإخراجه(77)، وقال تعالى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة: من الآية185) فلم يخص الله سفراً من سفر.
ونوقشت أدلة القول الثاني بما يلي:
1 – أن الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم كثيرة ومتعارضة في تحديد مسافة السفر وما ذكروه من أقوال الصحابة معارضة بمثلها فلا حجة فيها مع الاختلاف فالذي يظهر أنهم رضي الله عنهم لم يجعلوا السفر قطع مسافة محدودة أو زمان محدود يشترك فيه جميع الناس، بل كانوا يجيبون بحسب حال السائل، فمن رأوه مسافراً أثبتوا له حكم السفر ومن لا فلا، ولذا اختلف كلامهم في مقدار الزمان والمكان(78).
ولا يوجد ما يترجح به الاعتماد على رأي ابن عباس وابن عمر في تحديد المسافة بأربعة برد دون بقية ما ثبت عنهما وعن غيرهما من النصوص المعارضة، لأن النقل عن ابن عمر مختلف.
قال ابن حجر رحمه الله: "وقد اختلف عن ابن عمر في تحديد ذلك اختلافاً غير ما ذكر فروى "أن ابن عمر كان أدنى ما يقصر الصلاة فيه مال له بخيبر" وبين المدينة وخيبر ستة وتسعون ميلاً، وروى.. أنه قال: "يقصر من المدينة إلى السويداء"، وبينهما اثنان وسبعون ميلاً، وروى.. "أنه سافر إلى ريم فقصر الصلاة".. وهي على ثلاثين ميلاً من المدينة وروى [عنه أنه قال] (لو خرجت ميلاً لقصرت الصلاة)، إسناد كل منها صحيح وهذه أقوال متغايرة جداً، فالله أعلم"(79).
وعلى هذا فلا متعلق لهم ولا حجة لهم فيما ذكروه من التحديد بناء على ما رواه ابن عمر لأنه خالفه في روايات أخرى صحيحة، كما أنه معارض بما روي عن الصحابة رضي الله عنهم كما في حديث أنس وشرحبيل.
قال ابن قدامة: "لا أرى لما صار إليه الأئمة حجة، لأن أقوال الصحابة متعارضة مختلفة ولا حجة فيها مع الاختلاف، وقد روى عن ابن عمر وابن عباس خلاف ما احتج به أصحابنا ثم لو لم يوجد ذلك لم يكن في قولهم حجة مع قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، وإذا لم تثبت أقوالهم امتنع المصير إلى التقدير الذي ذكروه لوجهين: أحدهما: أنه مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي رويناها، ولظاهر القرآن، لأن ظاهره إباحة القصر لمن ضرب في الأرض لقوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ… الآية) (النساء: من الآية101)، وقد سقط شرط الخوف بالخبر المذكور عن يعلى بن أمية فبقي ظاهر الآية متناولاً كل ضرب في الأرض"(80).
2 – أن التقدير بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد لا سيما أنه ليس له أصل يرد إليه ولا نظير يقاس عليه(81).
3 – وأما حديث ابن عباس المرفوع ففي سنده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبير وهو متروك ومجمع على شدة ضعفه ونسبه النووي إلى الكذب وقال الأزدي لا تحل الرواية عنه وإسماعيل بن عياش وهو ضعيف أيضاً فلا حجة فيه(82)، وقال شيخ الإسلام في الجواب عنه: "وهذا ما يعلم أهلا لمعرفة بالحديث أنه كذب على النبي صلى الله عليه وسلم ولكن هو من كلام ابن عباس أفترى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما حد مسافة القصر لأهل مكة دون أهل المدينة التي هي دار السنة والهجرة والنصرة، ودون سائر المسلمين؟"(83).
4 – وأما التعليل بكون هذه المسافة تجمع مشقة السفر فهو معارض بالأدلة المنقولة في إثبات القصر في أقل من هذه المسافة(84).
ونوقشت أدلة القول الثالث بما يلي:
1 – أنه لا دلالة في حديث ابن عمر على تحديد مسافة السفر للروايات الأخرى السابق ذكرها بمنعها من السفر بلا محرم مسيرة يوم وليلة ويومين وبريداً وثلاثة أيام وتقدم توجه ذلك(85).
قال الماوردي: "فقد روي مسافة يوم وروي مسافة يومين، فلما اختلفت فيه الروايات لم يجز الاستدلال به"(86) ولا تلازم بين مسافة السفر ووجوب المحرم(87)، وقال ابن حزم: "ويلزم من تعلق من الحنفيين بحديث: "لا تسافر المرأة" أن لا يرى القصر والفطر في سفر معصية، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يبح لها – بلا خلاف – سفر المعصية أصلاً، وإنما أباح لها – بلا شك – أسفار الطاعات، وهذا مما أوهموا فيه من الأخبار أنهم أخذوا به وهم مخالفون له"(88).
2 – أن ابن عمر راوي هذا الحديث صح عنه القصر فيما هو دون ذلك فلو كان يراه لبيان أقل مسافة القصر لما خالفه، فتمسكهم بهذا الحديث يتعارض مع قاعدتهم في أن العبرة بما رأى الصحابي لا بما روي فلو كانا لحديث عنده لبيان أقل مسافة القصر لما خالفه(89).
3 – ليس في حديث شريح أنه لا بد أن يسافر ثلاثة أيام بل غاية ما يفهم منه أن للمسافر أن يمسح على الخف مدة ثلاثة أيام، فجاء لبيان أكثر مدة المسح ولا يقتضي أن ذلك أقل السفر كما أذن للمقيم أن يمسح يوماً وليلة، وهو لا يقتضي أن ذلك أقل الإقامة.
فلا حجة في الحديث على ما ذكروه فإنه يقدر على مسح الثلاث في مسافة يوم وليلة إذا ما سارها في ثلاث فالحاصل أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد تحديد ما يقع عليه السفر، وإنما أطلقه على ثلاثة أيام، ويومين، ويوم، وليلة، وبريد. فدل على أن الجميع يسمى سفراً(90).
وأما تعليلهم بأن الثلاث أقل الكثير فيجاب عنه من وجهين:
الأول: أن الثلاث في الشرع معتبرة بحكم مادونها لا بحكم ما زاد عليها كشرط الخيار فاقتضى أن يعتبر بها في السفر ما دونها.
الثاني: أن اعتبار الثلاث فيما يتعلق بالزمان والاعتبار في السفر بالسير لا بالزمان فلا وجه لاعتباره في الثلاث(91).
ونوقشت أدلة القول الرابع:
بأن المراد بالحديث المسافة التي يبتدأ منها القصر لا غايته(92).
ولا يخفى بعد هذا الحمل فإن البيهقي ذكر في روايته عن يحيى بن يزيد أنه قال: "سألت أنساً عن قصر الصلاة وكنت أخرج إلى الكوفة – يعني من البصرة – فأصلي ركعتين حتى أرجع فقال أنس…" الحديث(93).
فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر لا عن الموضع الذي يبدأ القصر منه فالصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة بل بمجاوزة البلد التي يخرج منها(94).
واعترض على الحديث بأنه مشكوك فيه(95) وبين مسلم في صحيحه بأن الشك من الراوي شعبة.
وقال ابن حجر عنه: "وهذا أصح شيء ورد في بيان ذلك وأصرحه"(96).
وهذا الحديث وإن كان فيه تحديد لمسافة القصر لكنه حكاية لفعله صلى الله عليه وسلم ولا ينفي لزوم القصر فيما دونه لوجود سببه من السفر، فليس فيا لحديث تحديد الترخيص بهذه المسافة والشارع علق صحة القصر بوجود سببه وهو السفر أخذاً من مجموع الأدلة ولا فرق بين قليله وكثيره فدلالة الحديث على التحديد للمسافة لو سلم من الاعتراضات غير قطعية(97)، فتعين العمل بالقول الذي تنتظم فيه الأدلة والأقوال بتنوع الأزمان وهو التحديد بالعرف ودلالة الحديث عليه أولى من دلالته على التحديد لأنه صلى الله عليه وسلم علق القصر على مطلق السفر ولو كان ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ فصار دليلاً لنا لا علينا.
وبهذا يترجح القول الأول لقوة أدلتهم وسلامتها مما ورد عليها من المناقشة، وضعف أدلة المخالف والجواب عنها ولكونها غير صريحة في تحديد المسافة ولإطلاق النصوص في الكتاب والسنة ولا مقيد لها، ولعمومها ولا مخصص لها وما ورد من التقييد فهو متعارض لا تقوم به حجة، ولأن التقدير بابه التوقيف وما ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه هو العرف كما قال شيخ الإسلام: "كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف، فما كان سفراً في عرف الناس فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم" وقال: "السفر لم يحده الشارع وليس له حد في اللغة فرجع فيه إلى ما يعرفه الناس ويعتادونه، فقد يكون مسافراً في مسافة بريد، وقد يقطع أكثر من ذلك ولا يكون مسافراً، فلا بد أن يكون له ما يعد به في العرف سفراً مثل أن يتزود له ويبرز للصحراء… وبالجملة فالمسافر لم يكن مسافراً لقطعه مسافة محدودة ولا لقطعه أياماً محدودة، بل كان مسافراً لجنس العمل الذي هو السفر"(98).
وجميع ما استدل به المحددون لا ينهض استدلالاً، إما لضعفه أو لكونه غير صريح في مورد النزاع، فقد أطلق الكتاب والسنة السفر ولم يرد ما يخص سفراً من سفر فليس المسافر مسافراً لقطعه مسافة محدودة أو زمناً معيناً وإنما كان كذلك لجنس عمله الذي هو سفر مما يعرفه الناس بعاداتهم باختلاف أزمانهم وأحوالهم(99).
ولا شك أن في هذا ما يدل على مرونة الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان فأعراف الناس تتغير بتغير الأزمان والأحوال والأماكن كما أنه يتفق مع سهولة الشريعة ويسرها وتخفيفها على العباد كما قال سبحانه: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78)، وقال: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185).
والظاهر من كلام الفقهاء أنهم قدروا المسافة بما يتلاءم مع زمنهم وعرفهم كما يؤيد ذلك ما نقل عنهم من أن المسافر لو قطع مسافة السفر المحددة في زمن أقل لاستعماله وسيلة أسرع فإنه يترخص لأنه مسافر في عرفهم ما دام قطع تلك المسافة التي تعد لديهم سفراً ومن أقوالهم في ذلك: "من كان يقطع المسافة بسفره قصر ولو كان يقطعها في لحظة بطيران ونحوه"(100).
الشرط الرابع: مدة السفر:
والمراد بها الحد الفاصل بين السفر والإقامة، أي المدة التي يترتب على تجاوزها تحول المسافر إلى مقيمين أو حد الإقامة التي تنتهي بها أحكام السفر(101)، وهي محل خلاف بين الفقهاء، قال في بداية المجتهد: "وأما اختلافهم في الزمان الذي يجوز للمسافر إذا أقام فيه في بلد أني قصر فاختلاف كثير حكى فيه أبو عمر نحواً من أحد عشر قولاً"(102).
ويرجع سبب الخلاف في ذلك:
1 – أن هذا الحد أمر سكت عنه الشرع، والقياس على التحديد ضعيف عند الجميع، فنظروا إلى الأحوال التي نقلت عنه صلى الله عليه وسلم والمدد التي جعل لها حكم السفر، وهي مختلفة.
2 – دلالة حديث إقامة المهاجر على التحديد بأربعة أيام.
3 – اعتبار حد الرخصة هو المدة التي قصر فيها صلى الله عليه وسلم نازلاً مع علمنا بوقت ارتحاله وكان ذلك في نزوله مكة للحج مدة أربعة أيام.
4 – اعتبار الآثار الواردة في ذلك في حكم الرفع.
5 – الأخذ بالعرف لعدم وجود ضابط شرعي أو لغوي.
6 – سبب الرخصة هل هو تقييد النبي صلى الله عليه وسلم نزوله بنهاية وقت أو عمل أو عزمه على الرحيل أو عدم نية الاستيطان؟(103)
تحرير محل النزاع: اتفقوا على أن من نوى الإقامة المطلقة فإنه مستوطن لا رخصة له لانقطاع السفر، كما اتفقوا على أن من أقام لغرض معين غير مقيد بزمن بأن أقام لحاجة ينتظر قضاءها، ويقول: أخرج اليوم، أخرج غداً فإنه يقصر أبداً ولو أقام سنين، واختلفوا في من نوى الإقامة لغرض معين مقيدة بزمن فما هي المدة التي إذا نوى المسافر الإقامة فيها لزمه الإتمام؟
الأقوال في المسألة:
القول الأول: أن المرجع في ذلك هو العرف ولا يصح التحديد بزمن معين لكن من كانت إقامته غير مقصودة بل دعت إليها الظروف التي سافر من أجلها أو كانت على غير إرادته كحبس سلطان، أو حصار عدو فإنه يقصر ولو ظن أنها تزيد على أربعة أيام لأنه لم يخرج بهذه الإقامة عن حد السفر، أما من عزم على الإقامة أو استوطن فإنه يتم صلاته لانقطاع سفره بذلك.
وهذا رأي ابن القيم الجوزية ونصره بعض المعاصرين(105).
والناس بناء على هذا القول ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
مسافر ومستوطن ومقيم عازم على الإقامة أما غير العازم عليها فو في حكم المسافر وإن زاد عن أربعة أيام(106).
القول الثاني: أن المسافر يقصر أبداً ما دام في سفر ولو بلغت المدة التي يقصر فيها سنوات، فليس للإقامة حد معين تنقطع به أحكام السفر، والمعتبر في ذلك هو العرف، فالناس قسمان: مسافر أو مقيم مستوطن وهو الذي ينوي المقام في المكان وهما متقابلان فللأول أحكام السفر وللآخر أحكام الإقامة وجعل قسم ثالث وهو المقيم غير المستوطن لا دليل عليه بل هو مخالف للشرع وهذا رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والعلامة عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب واختاره من المعاصرين الشيخ محمد بن عثيمين(107).
القول الثالث: أقل مدة الإقامة أربعة أيام، وبها فأكثر ينقطع السفر والترخص له، وهو قول مالك والشافعي وأحمد في رواية، وقال به كثير من المعاصرين.
وفي كيفية احتساب الأربعة خلاف بينهم:
فعند المالكية والشافعية: لا يحتسب يومي الدخول والخروج.
وعند الحنابلة: يحتسب ذلك.
وعلى هذا لو دخل يوم السبت وقت الزوال بنية الخروج يوم الأربعاء وقت الزوال صار مقيماً عند الحنابلة غير مقيم عند المالكية والشافعية(108).
القول الرابع: إذا نوى الإقامة في بلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة انقطع سفره وهو قول أحمد في الرواية المشهورة عنه(109).
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول والثاني على تحديد المدة بالعرف وإجازة الترخص في كل ما عده الناس سفراً بما يلي:
1 – قوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً) (النساء:101).
وجه الدلالة:
أن الضرب في الأرض هو السفر، وقد يكون للتجارة وقد يكون لغيرها كما قال تعالى: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (المزمل: من الآية20).
فأباح القصر للضاربين في الأرض وهو عام مطلق لا مخصص ولا مقيد له بزمن معين مع تفاوت الناس في ذلك، فيبقى على عمومه في كل ما سمي سفراً عرفاً، إذ لو كان الترخص مخصوصاً فزمن معين للسفر لبين في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة(110).
2 – ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من القصر في مدد طويلة متفاوتة مما يدل على جواز الترخص في كل سفر عرفاً ومن ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة(111)، فدلت على أن حقيقة السفر لا تتعلق بمدة معينة.
3 – ما ورد من الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في القصر مدداً طويلة متفاوتة مما يدل على جواز الترخص في كل سفر وأنه لا تحديد لذلك بزمن معين ومن تلك الآثار: عن ابن عمر أنه قيل له: "ما صلاة المسافر؟ قال: ركعتين ركعتين إلا صلاة المغرب ثلاثاً، فقيل: أرأيت إن كنا بذي المجاز؟ قال وما ذو المجاز؟ فقيل: مكان نجتمع فيه ونبيع فيه نمكث عشرين ليلة أو خمس عشرة ليلة قال: يا أيها الرجل كنت بأذربيجان لا أدري أقال أربعة أشهر أو شهرين فرأيتهم يصلونها ركعتين ركعتين"(112).
وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهم قال: "ارتج علينا الثلج ونحن بأذربيجان ستة أشهر ونحن في غزاة وكنا نصلي ركعتين ركعتين"(113).
وقال رجل لابن عباس: "إني أقيم بالمدينة حولاً لا أشد على سير قال: صل ركعتين"(114).
وقال آخر لابن عباس: "إنا نطيل القيام بالغزة بخراسان فكيف ترى فقال: صل ركعتين وإن أقمت عشر سنين"(115).
(وأقام أنس بن مالك رضي الله عنه بالشام سنتين يصلي صلاة المسافر) وقال: "أقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة"(116).
قال ابن القيم: "فهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما ترى وهو الصواب"(117).
ونقل عن التابعين مثل ذلك أيضاً(118).
فدل هذا كله على أن الترخص متعلق بمطلق السفر وأن التمييز بين المسافر والمقيم بنية أيام معدودة يقيمها لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا عمل صاحب فقد أقام صلى الله عليه وسلم زيادة على أربعة أيام وهو يقصر بمكة وتبوك وأصحابه يقتدون به ولم يقل لهم شيئاً، ولم يبين لهم أنه لم يعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام أو غيرها، ولم يقل: لا تقصروا فوق كذا وكذا، وهو يعلم أنه مشرع يقتدى به ويؤخذ عنه فبيان مثل هذا من أهم المهمات لو كان تشريعاً ثم اقتدى الصحابة رضوان الله عليهم به من بعده ولم يقولوا لمن صلى معهم شيئاً من ذلك(119).
التفريق بين القول الأول والثاني:
شيخ الإسلام ابن تيمية يوافق تلميذه في هذا حتى إن كثيراً من أهل العلم جعل مذهبه عين مذهب تلميذه وهذا غير صحيح فإن بينهما فرقاً(120).
فابن القيم جعل الناس على ثلاثة أقسام كما تقدم وجعل المقيم العازم على الإقامة مستوطناً تجري عليه أحكام المقيم وأما المقيم غير العازم على الإقامة فجعله في حكم المسافر وإن طالبت إقامته واعتبر هذا هو مدلول إقامة النبي صلى الله عليه وسلم أثناء سفره فإقامته بمكة عام الفتح وبتبوك غير مقصودة ولا مرادة بل اقتضتها مصلحة الجهاد والفتح، ولذا فهي في حكما لسفر أما من عزم على الإقامة أو استوطن فإنه يتم لانقطاع سفره بذلك، وكذا يرى ابن القيم أن هذا هو مدلول ما روى عن الصحابة رضي الله عنهم، وقد صرح بذلك فقال في توجيهه إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة: وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرج عن حكم السفر سواء طالبت أو قصرت إذا كان غير مستوطن، ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع(121).
وسيتضح ذلك عند مناقشته للمخالفين بحول الله تعالى.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية فيرى الناس قسمان لا ثالث لهما مسافر ومستوطن مقيم فقال رحمه الله: "فالناس رجلان: مقيم ومسافر، ولهذا كانت أحكام الناس في الكتاب والسنة أحد هذين الحكمين: إما حكم مقيم وإما حكم مسافر وقد قال تعالى: (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ) (النحل: من الآية80)، فجعل للناس يوم ظعن ويوم إقامة والله تعالى أوجب الصوم وقال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة: من الآية184)، فمن ليس مريضاً ولا على سفر فهو الصحيح المقيم ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة" فمن لم يوضع عنه الصوم وشطر الصلاة فهو المقيم"(122).
وقال أيضاً: "فقد تضمنت هذه الأقوال – يعني من جعل للمقام حداً من الأيام – تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: إلى مسافر، وإلى مقيم مستوطن وهو الذي ينوي المقام في المكان، وهذا هو الذي تنعقد به الجمعة، وتجب عليه. وهذا يجب عليه إتمام الصلاة بلا نزاع فإنه المقيم المقابل للمسافر، والثالث: مقيم غير مستوطن أوجبوا عليه إتمام الصلاة والصيام وأوجبوا عليه الجمعة، وقالوا: لا تنعقد به الجمعة، وقالوا إنما تنعقد الجمعة بمستوطن.
وهذا التقسيم تقسيم لا دليل عليه من جهة الشرع، ولا دليل على أنها تجب على من لا تنعقد به، بل من وجبت عليه انعقدت به وهذا إنما قالوه لما أثبتوا مقيماً عليه الإتمام والصيام ووجدوه غير مستوطن، فلم يمكن أن يقولوا تنعقد به الجمعة فإن الجمعة إنما تنعقد بالمستوطن لكن إيجاب الجمعة على هذا، وإيجاب الصيام والإتمام على هذا هو الذي يقال: إنه لا دليل عليه بل هو مخالف للشرع"(123).
وعلى هذا فهما يتفقان في أن المسافر عرفاً له أن يترخص برخص السفر دون تحديد لمدة معينة وأن المستوطن تجري عليه أحكام الإقامة وأن المقيم غير العازم على الإقامة يعد مسافراً عرفاً وله الترخص وغن طالت إقامته لما تقدم من الأدلة.
لكن الخلاف بينهما يكمن في المقيم العازم على الإقامة أو المقيم غير المستوطن فابن تيمية يمنع تقسيم المسافر إلى قسمين: مسافر له أحكام السفر، ومسافر له أحكام المقيمين غير المستوطنين(124)، وسيأتي مناقشة ذلك بإذن الله تعالى.
واستدل أصحاب القول الثالث بما يلي:
1 – إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بالأبطح عام حجة الوداع، فإنه قدم مكة في الرابع من ذي الحجة وكان انتقاله إلى منى ضحى اليوم الثامن من ذي الحجة فظهر بهذا أنه صلى الله عليه وسلم أقام بالأبطح خمسة أيام متوالية منها ثلاثة تامة ويومان ناقصان هما يوما الدخول والخروج، لأنه صلى الله عليه وسلم صلى الفجر بذي طوى ثم دخل مكة فطاف بالبيت ثم نزل الأبطح فلم يصل به في هذا اليوم إلا أربع صلوات أولها الظهر ولم يصل به في يوم الرحيل إلا الفجر فكان مجموع الصلوات في مقامه هذا عشرين صلاة.
فهذه إقامة مقصودة قبل فعلها ومحددة البداية والنهاية – بخلاف غزوتي الفتح وتبوك – فكانت أطول إقامة فعلها صلى الله عليه وسلم فعليها مدار الحكم في تحديد المدة فمن كانت إقامته كإقامة النبي صلى الله عليه وسلم ترخص أما من قصد إقامة أربعة أيام تامة أو أكثر فيجب عليه الإتمام، لأن مشروعية القصر مستيقنة لمن نوى المكث دون هذه المدة وما زاد عليها فمشكوك في مشروعيته فيرجع فيما زاد إلى أصل الإتمام عند نزول الأمصار وترك النقلة(125).
2 – قوله صلى الله عليه وسلم: "يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً"، وفي لفظ: "ثلاث للمهاجر بعد الصدر"(126).
قال ابن حجر: "يستنبط من ذلك أن إقامة ثلاثة أيام لا تخرج صاحبها عن حكم المسافر"(127).
فقد كره صلى الله عليه وسلم للمهاجرين الذين أخرجوا من مكة بغير حق فتغربوا في سبيل الله أن يقيموا بها، ثم أباح لهم ذلك ثلاثاً بعد تمام النسك فدل على أن الثلاثة تدل على بقاء حكم السفر بخلاف الأربعة فهي في حكم الإقامة(128).
3 – أن عمر رضي الله عنه: (ضرب لليهود والنصارى والمجوس بالمدينة إقامة ثلاثة ليال يتسوقون بها ويقضون حوائجهم ولا يقيم أحد منهم فوق ثلاث ليال)(129).
فدل على أن الثلاث حد السفر وما فوقها حد الإقامة(130).
4 – أن القياس أن يبطل السفر بقليل الإقامة لأن الإقامة قرار والسفر انتقال والشيء ينعدم بما يضاده فينعدم حكمه ضرورة، إلا أن قليل الإقامة لا يمكن اعتباره، لأن المسافر لا يخلوا عن ذلك عادة فسقط اعتبار القليل لمكان الضرورة ولا ضرورة في الكثير والأربعة في حد الكثرة، لأن أدنى درجات الكثير أن يكون جمعاً والثلاثة وإن كانت جمعاً لكنها أقل الجمع فكانت في حد القلة من وجه فلم تثبت الكثرة المطلقة فإذا صارت أربعة صارت في حد الكثرة على الإطلاق، لزوال معنى القلة من جميع الوجوه(131).
5 – ولأن المسافر يضيف ثلاثة أيام فإذا زاد على ذلك اعتبر مقيماً والمقيم لا يضيف، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "الضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة"(132).
واستدل أصحاب القول الرابع:
بحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة قلت: أقمتم بمكة شيئاً قال: أقمنا بها عشراً"(133).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة فأقام بها الرابع، والخامس، والسادس، والسابع وصلى الصبح في اليوم الثامن، ثم خرج إلى منى، وكان يقصر في هذه الأيام وقد أجمع على إقامتها"(134).
فصلى صلى الله عليه وسلم بمكة عشرين صلاة في اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الصبح في اليوم الثامن فكانا لمجموع إحدى وعشرين صلاة يقصر(135).
قال أحمد: "فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر وإن أجمع على أكثر من ذلك أتم"(136).
وقال: "إنما وجه حديث أنس عندي أنه حسب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ومنى وإلا فلا وجه له غير هذا فهذه أربعة أيام، وصلاة الصبح بها يوم التروية تمام إحدى وعشرين صلاة يقصر فهذا يدل على أن من أقام إحدى وعشرين صلاة يقصر، وهي تزيد على أربعة أيام وهذا صريح في خلاف من حده أربعة أيام"(137).
المناقشة والترجيح:
نوقشت أدلة القول الأول والثاني بأنها محمولة على أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يُجْمِعوا الإقامة البتة، بل كانوا يقولون: اليوم نخرج، غداً نخرج(138).
وأجاب ابن القيم عن ذلك بقوله: "وفي هذا نظر لا يخفى، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وهي ما هي، وأقام فيها يؤسس قواعد الإسلام ويهدم قواعد الشرك، ويمهد أمر ما حولها من العرب، ومعلوم أن هذا يحتاج إلى إقامة أيام لا يتأتى في يوم واحد، ولا يومين، وكذلك إقامته بتبوك، فإنه أقام ينتظر العدو، ومن المعلوم قطعاً أنه كان بينه وبينهم عدة مراحل يحتاج قطعها إلى أيام، وهو يعلم أنهم لا يوافون في أربعة أيام، وكذلك إقامة ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة من أجل الثلج، ومن المعلوم أن مثل هذا الثلج لا يتحلل ويذوب في أربعة أيام، بحيث تنفتح الطرق، وكذلك إقامة أنس بالشام سنتين يقصر، وإقامة الصحابة برامهرمز سبعة أشهر يقصرون ومن المعلوم أن مثل هذا الحصار والجهاد يعلم أنه لا ينقضي في أربعة أيام… والأئمة الأربعة متفقون على أنه إذا أقام لحاجة ينتظر قضاءها يقول: اليوم أخرج، غداً أخرج، فإنه يقصر أبداً"(139).
ونوقش ما استدل به شيخ الإسلام على التقسيم الثنائي(140) بأن الآية دلت على أن من حمل بيته وسار في يوم واحد سمي ظاعناً، وأن من بنى بيته وقطع سيره في يوم واحد آخر سمي مقيماً فاعتبار هذه الأوصاف عند تحديد الظعن والإقامة من الأهمية بمكان، وبها يتميز المسافر عن المقيم، وذلك إذا حملنا اليوم الوارد في الآية على ظاهره أما إذا أولناه بالحين فإن مجرد الحط عن الرحال ونصب الخيام يعتبر إقامة لا ظعناً ويجب على فاعله الإتمام والصيام مع كونه غير مستوطن وعليه فالآية تدل على خلاف ما ذهب إليه من منع المقيم
وقال: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185).
والظاهر من كلام الفقهاء أنهم قدروا المسافة بما يتلاءم مع زمنهم وعرفهم كما يؤيد ذلك ما نقل عنهم من أن المسافر لو قطع مسافة السفر المحددة في زمن أقل لاستعماله وسيلة أسرع فإنه يترخص لأنه مسافر في عرفهم ما دام قطع تلك المسافة التي تعد لديهم سفراً ومن أقوالهم في ذلك: "من كان يقطع المسافة بسفره قصر ولو كان يقطعها في لحظة بطيران ونحوه"(100).
الشرط الرابع: مدة السفر:
والمراد بها الحد الفاصل بين السفر والإقامة، أي المدة التي يترتب على تجاوزها تحول المسافر إلى مقيمين أو حد الإقامة التي تنتهي بها أحكام السفر(101)، وهي محل خلاف بين الفقهاء، قال في بداية المجتهد: "وأما اختلافهم في الزمان الذي يجوز للمسافر إذا أقام فيه في بلد أني قصر فاختلاف كثير حكى فيه أبو عمر نحواً من أحد عشر قولاً"(102).
ويرجع سبب الخلاف في ذلك:
1 – أن هذا الحد أمر سكت عنه الشرع، والقياس على التحديد ضعيف عند الجميع، فنظروا إلى الأحوال التي نقلت عنه صلى الله عليه وسلم والمدد التي جعل لها حكم السفر، وهي مختلفة.
2 – دلالة حديث إقامة المهاجر على التحديد بأربعة أيام.
3 – اعتبار حد الرخصة هو المدة التي قصر فيها صلى الله عليه وسلم نازلاً مع علمنا بوقت ارتحاله وكان ذلك في نزوله مكة للحج مدة أربعة أيام.
4 – اعتبار الآثار الواردة في ذلك في حكم الرفع.
5 – الأخذ بالعرف لعدم وجود ضابط شرعي أو لغوي.
6 – سبب الرخصة هل هو تقييد النبي صلى الله عليه وسلم نزوله بنهاية وقت أو عمل أو عزمه على الرحيل أو عدم نية الاستيطان؟(103)
تحرير محل النزاع: اتفقوا على أن من نوى الإقامة المطلقة فإنه مستوطن لا رخصة له لانقطاع السفر، كما اتفقوا على أن من أقام لغرض معين غير مقيد بزمن بأن أقام لحاجة ينتظر قضاءها، ويقول: أخرج اليوم، أخرج غداً فإنه يقصر أبداً ولو أقام سنين، واختلفوا في من نوى الإقامة لغرض معين مقيدة بزمن فما هي المدة التي إذا نوى المسافر الإقامة فيها لزمه الإتمام؟
الأقوال في المسألة:
القول الأول: أن المرجع في ذلك هو العرف ولا يصح التحديد بزمن معين لكن من كانت إقامته غير مقصودة بل دعت إليها الظروف التي سافر من أجلها أو كانت على غير إرادته كحبس سلطان، أو حصار عدو فإنه يقصر ولو ظن أنها تزيد على أربعة أيام لأنه لم يخرج بهذه الإقامة عن حد السفر، أما من عزم على الإقامة أو استوطن فإنه يتم صلاته لانقطاع سفره بذلك.
وهذا رأي ابن القيم الجوزية ونصره بعض المعاصرين(105).
والناس بناء على هذا القول ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
مسافر ومستوطن ومقيم عازم على الإقامة أما غير العازم عليها فو في حكم المسافر وإن زاد عن أربعة أيام(106).
القول الثاني: أن المسافر يقصر أبداً ما دام في سفر ولو بلغت المدة التي يقصر فيها سنوات، فليس للإقامة حد معين تنقطع به أحكام السفر، والمعتبر في ذلك هو العرف، فالناس قسمان: مسافر أو مقيم مستوطن وهو الذي ينوي المقام في المكان وهما متقابلان فللأول أحكام السفر وللآخر أحكام الإقامة وجعل قسم ثالث وهو المقيم غير المستوطن لا دليل عليه بل هو مخالف للشرع وهذا رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والعلامة عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب واختاره من المعاصرين الشيخ محمد بن عثيمين(107).
القول الثالث: أقل مدة الإقامة أربعة أيام، وبها فأكثر ينقطع السفر والترخص له، وهو قول مالك والشافعي وأحمد في رواية، وقال به كثير من المعاصرين.
وفي كيفية احتساب الأربعة خلاف بينهم:
فعند المالكية والشافعية: لا يحتسب يومي الدخول والخروج.
وعند الحنابلة: يحتسب ذلك.
وعلى هذا لو دخل يوم السبت وقت الزوال بنية الخروج يوم الأربعاء وقت الزوال صار مقيماً عند الحنابلة غير مقيم عند المالكية والشافعية(108).
القول الرابع: إذا نوى الإقامة في بلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة انقطع سفره وهو قول أحمد في الرواية المشهورة عنه(109).
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول والثاني على تحديد المدة بالعرف وإجازة الترخص في كل ما عده الناس سفراً بما يلي:
1 – قوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً) (النساء:101).
وجه الدلالة:
أن الضرب في الأرض هو السفر، وقد يكون للتجارة وقد يكون لغيرها كما قال تعالى: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (المزمل: من الآية20).
فأباح القصر للضاربين في الأرض وهو عام مطلق لا مخصص ولا مقيد له بزمن معين مع تفاوت الناس في ذلك، فيبقى على عمومه في كل ما سمي سفراً عرفاً، إذ لو كان الترخص مخصوصاً فزمن معين للسفر لبين في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة(110).
2 – ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من القصر في مدد طويلة متفاوتة مما يدل على جواز الترخص في كل سفر عرفاً ومن ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة(111)، فدلت على أن حقيقة السفر لا تتعلق بمدة معينة.
3 – ما ورد من الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في القصر مدداً طويلة متفاوتة مما يدل على جواز الترخص في كل سفر وأنه لا تحديد لذلك بزمن معين ومن تلك الآثار: عن ابن عمر أنه قيل له: "ما صلاة المسافر؟ قال: ركعتين ركعتين إلا صلاة المغرب ثلاثاً، فقيل: أرأيت إن كنا بذي المجاز؟ قال وما ذو المجاز؟ فقيل: مكان نجتمع فيه ونبيع فيه نمكث عشرين ليلة أو خمس عشرة ليلة قال: يا أيها الرجل كنت بأذربيجان لا أدري أقال أربعة أشهر أو شهرين فرأيتهم يصلونها ركعتين ركعتين"(112).
وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهم قال: "ارتج علينا الثلج ونحن بأذربيجان ستة أشهر ونحن في غزاة وكنا نصلي ركعتين ركعتين"(113).
وقال رجل لابن عباس: "إني أقيم بالمدينة حولاً لا أشد على سير قال: صل ركعتين"(114).
وقال آخر لابن عباس: "إنا نطيل القيام بالغزة بخراسان فكيف ترى فقال: صل ركعتين وإن أقمت عشر سنين"(115).
(وأقام أنس بن مالك رضي الله عنه بالشام سنتين يصلي صلاة المسافر) وقال: "أقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة"(116).
قال ابن القيم: "فهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما ترى وهو الصواب"(117).
ونقل عن التابعين مثل ذلك أيضاً(118).
فدل هذا كله على أن الترخص متعلق بمطلق السفر وأن التمييز بين المسافر والمقيم بنية أيام معدودة يقيمها لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا عمل صاحب فقد أقام صلى الله عليه وسلم زيادة على أربعة أيام وهو يقصر بمكة وتبوك وأصحابه يقتدون به ولم يقل لهم شيئاً، ولم يبين لهم أنه لم يعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام أو غيرها، ولم يقل: لا تقصروا فوق كذا وكذا، وهو يعلم أنه مشرع يقتدى به ويؤخذ عنه فبيان مثل هذا من أهم المهمات لو كان تشريعاً ثم اقتدى الصحابة رضوان الله عليهم به من بعده ولم يقولوا لمن صلى معهم شيئاً من ذلك(119).
التفريق بين القول الأول والثاني:
شيخ الإسلام ابن تيمية يوافق تلميذه في هذا حتى إن كثيراً من أهل العلم جعل مذهبه عين مذهب تلميذه وهذا غير صحيح فإن بينهما فرقاً(120).
فابن القيم جعل الناس على ثلاثة أقسام كما تقدم وجعل المقيم العازم على الإقامة مستوطناً تجري عليه أحكام المقيم وأما المقيم غير العازم على الإقامة فجعله في حكم المسافر وإن طالبت إقامته واعتبر هذا هو مدلول إقامة النبي صلى الله عليه وسلم أثناء سفره فإقامته بمكة عام الفتح وبتبوك غير مقصودة ولا مرادة بل اقتضتها مصلحة الجهاد والفتح، ولذا فهي في حكما لسفر أما من عزم على الإقامة أو استوطن فإنه يتم لانقطاع سفره بذلك، وكذا يرى ابن القيم أن هذا هو مدلول ما روى عن الصحابة رضي الله عنهم، وقد صرح بذلك فقال في توجيهه إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة: وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرج عن حكم السفر سواء طالبت أو قصرت إذا كان غير مستوطن، ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع(121).
وسيتضح ذلك عند مناقشته للمخالفين بحول الله تعالى.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية فيرى الناس قسمان لا ثالث لهما مسافر ومستوطن مقيم فقال رحمه الله: "فالناس رجلان: مقيم ومسافر، ولهذا كانت أحكام الناس في الكتاب والسنة أحد هذين الحكمين: إما حكم مقيم وإما حكم مسافر وقد قال تعالى: (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ) (النحل: من الآية80)، فجعل للناس يوم ظعن ويوم إقامة والله تعالى أوجب الصوم وقال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة: من الآية184)، فمن ليس مريضاً ولا على سفر فهو الصحيح المقيم ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة" فمن لم يوضع عنه الصوم وشطر الصلاة فهو المقيم"(122).
وقال أيضاً: "فقد تضمنت هذه الأقوال – يعني من جعل للمقام حداً من الأيام – تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: إلى مسافر، وإلى مقيم مستوطن وهو الذي ينوي المقام في المكان، وهذا هو الذي تنعقد به الجمعة، وتجب عليه. وهذا يجب عليه إتمام الصلاة بلا نزاع فإنه المقيم المقابل للمسافر، والثالث: مقيم غير مستوطن أوجبوا عليه إتمام الصلاة والصيام وأوجبوا عليه الجمعة، وقالوا: لا تنعقد به الجمعة، وقالوا إنما تنعقد الجمعة بمستوطن.
وهذا التقسيم تقسيم لا دليل عليه من جهة الشرع، ولا دليل على أنها تجب على من لا تنعقد به، بل من وجبت عليه انعقدت به وهذا إنما قالوه لما أثبتوا مقيماً عليه الإتمام والصيام ووجدوه غير مستوطن، فلم يمكن أن يقولوا تنعقد به الجمعة فإن الجمعة إنما تنعقد بالمستوطن لكن إيجاب الجمعة على هذا، وإيجاب الصيام والإتمام على هذا هو الذي يقال: إنه لا دليل عليه بل هو مخالف للشرع"(123).
وعلى هذا فهما يتفقان في أن المسافر عرفاً له أن يترخص برخص السفر دون تحديد لمدة معينة وأن المستوطن تجري عليه أحكام الإقامة وأن المقيم غير العازم على الإقامة يعد مسافراً عرفاً وله الترخص وغن طالت إقامته لما تقدم من الأدلة.
لكن الخلاف بينهما يكمن في المقيم العازم على الإقامة أو المقيم غير المستوطن فابن تيمية يمنع تقسيم المسافر إلى قسمين: مسافر له أحكام السفر، ومسافر له أحكام المقيمين غير المستوطنين(124)، وسيأتي مناقشة ذلك بإذن الله تعالى.
واستدل أصحاب القول الثالث بما يلي:
1 – إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بالأبطح عام حجة الوداع، فإنه قدم مكة في الرابع من ذي الحجة وكان انتقاله إلى منى ضحى اليوم الثامن من ذي الحجة فظهر بهذا أنه صلى الله عليه وسلم أقام بالأبطح خمسة أيام متوالية منها ثلاثة تامة ويومان ناقصان هما يوما الدخول والخروج، لأنه صلى الله عليه وسلم صلى الفجر بذي طوى ثم دخل مكة فطاف بالبيت ثم نزل الأبطح فلم يصل به في هذا اليوم إلا أربع صلوات أولها الظهر ولم يصل به في يوم الرحيل إلا الفجر فكان مجموع الصلوات في مقامه هذا عشرين صلاة.
فهذه إقامة مقصودة قبل فعلها ومحددة البداية والنهاية – بخلاف غزوتي الفتح وتبوك – فكانت أطول إقامة فعلها صلى الله عليه وسلم فعليها مدار الحكم في تحديد المدة فمن كانت إقامته كإقامة النبي صلى الله عليه وسلم ترخص أما من قصد إقامة أربعة أيام تامة أو أكثر فيجب عليه الإتمام، لأن مشروعية القصر مستيقنة لمن نوى المكث دون هذه المدة وما زاد عليها فمشكوك في مشروعيته فيرجع فيما زاد إلى أصل الإتمام عند نزول الأمصار وترك النقلة(125).
2 – قوله صلى الله عليه وسلم: "يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً"، وفي لفظ: "ثلاث للمهاجر بعد الصدر"(126).
قال ابن حجر: "يستنبط من ذلك أن إقامة ثلاثة أيام لا تخرج صاحبها عن حكم المسافر"(127).
فقد كره صلى الله عليه وسلم للمهاجرين الذين أخرجوا من مكة بغير حق فتغربوا في سبيل الله أن يقيموا بها، ثم أباح لهم ذلك ثلاثاً بعد تمام النسك فدل على أن الثلاثة تدل على بقاء حكم السفر بخلاف الأربعة فهي في حكم الإقامة(128).
3 – أن عمر رضي الله عنه: (ضرب لليهود والنصارى والمجوس بالمدينة إقامة ثلاثة ليال يتسوقون بها ويقضون حوائجهم ولا يقيم أحد منهم فوق ثلاث ليال)(129).
فدل على أن الثلاث حد السفر وما فوقها حد الإقامة(130).
4 – أن القياس أن يبطل السفر بقليل الإقامة لأن الإقامة قرار والسفر انتقال والشيء ينعدم بما يضاده فينعدم حكمه ضرورة، إلا أن قليل الإقامة لا يمكن اعتباره، لأن المسافر لا يخلوا عن ذلك عادة فسقط اعتبار القليل لمكان الضرورة ولا ضرورة في الكثير والأربعة في حد الكثرة، لأن أدنى درجات الكثير أن يكون جمعاً والثلاثة وإن كانت جمعاً لكنها أقل الجمع فكانت في حد القلة من وجه فلم تثبت الكثرة المطلقة فإذا صارت أربعة صارت في حد الكثرة على الإطلاق، لزوال معنى القلة من جميع الوجوه(131).
5 – ولأن المسافر يضيف ثلاثة أيام فإذا زاد على ذلك اعتبر مقيماً والمقيم لا يضيف، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "الضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة"(132).
واستدل أصحاب القول الرابع:
بحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة قلت: أقمتم بمكة شيئاً قال: أقمنا بها عشراً"(133).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة فأقام بها الرابع، والخامس، والسادس، والسابع وصلى الصبح في اليوم الثامن، ثم خرج إلى منى، وكان يقصر في هذه الأيام وقد أجمع على إقامتها"(134).
فصلى صلى الله عليه وسلم بمكة عشرين صلاة في اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الصبح في اليوم الثامن فكانا لمجموع إحدى وعشرين صلاة يقصر(135).
قال أحمد: "فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر وإن أجمع على أكثر من ذلك أتم"(136).
وقال: "إنما وجه حديث أنس عندي أنه حسب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ومنى وإلا فلا وجه له غير هذا فهذه أربعة أيام، وصلاة الصبح بها يوم التروية تمام إحدى وعشرين صلاة يقصر فهذا يدل على أن من أقام إحدى وعشرين صلاة يقصر، وهي تزيد على أربعة أيام وهذا صريح في خلاف من حده أربعة أيام"(137).
المناقشة والترجيح:
نوقشت أدلة القول الأول والثاني بأنها محمولة على أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يُجْمِعوا الإقامة البتة، بل كانوا يقولون: اليوم نخرج، غداً نخرج(138).
وأجاب ابن القيم عن ذلك بقوله: "وفي هذا نظر لا يخفى، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وهي ما هي، وأقام فيها يؤسس قواعد الإسلام ويهدم قواعد الشرك، ويمهد أمر ما حولها من العرب، ومعلوم أن هذا يحتاج إلى إقامة أيام لا يتأتى في يوم واحد، ولا يومين، وكذلك إقامته بتبوك، فإنه أقام ينتظر العدو، ومن المعلوم قطعاً أنه كان بينه وبينهم عدة مراحل يحتاج قطعها إلى أيام، وهو يعلم أنهم لا يوافون في أربعة أيام، وكذلك إقامة ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة من أجل الثلج، ومن المعلوم أن مثل هذا الثلج لا يتحلل ويذوب في أربعة أيام، بحيث تنفتح الطرق، وكذلك إقامة أنس بالشام سنتين يقصر، وإقامة الصحابة برامهرمز سبعة أشهر يقصرون ومن المعلوم أن مثل هذا الحصار والجهاد يعلم أنه لا ينقضي في أربعة أيام… والأئمة الأربعة متفقون على أنه إذا أقام لحاجة ينتظر قضاءها يقول: اليوم أخرج، غداً أخرج، فإنه يقصر أبداً"(139).
ونوقش ما استدل به شيخ الإسلام على التقسيم الثنائي(140) بأن الآية دلت على أن من حمل بيته وسار في يوم واحد سمي ظاعناً، وأن من بنى بيته وقطع سيره في يوم واحد آخر سمي مقيماً فاعتبار هذه الأوصاف عند تحديد الظعن والإقامة من الأهمية بمكان، وبها يتميز المسافر عن المقيم، وذلك إذا حملنا اليوم الوارد في الآية على ظاهره أما إذا أولناه بالحين فإن مجرد الحط عن الرحال ونصب الخيام يعتبر إقامة لا ظعناً ويجب على فاعله الإتمام والصيام مع كونه غير مستوطن وعليه فالآية تدل على خلاف ما ذهب إليه من منع المقيم غير المستوطن من الإتمام فهي تدل على أن مجرد إقامة اليوم أو الحين مخرجة له عن حكم المسافر فلا حجة له فيها ولا يصح نفيه للقسم الثالث لأمور(141):
أولها: أنه قرر في موضع آخر وجود نوع من المقيمين غير مستوطنين وهم أهل البادية الذين يشتون في مكان ويصيفون في مكان فقد ذكر بأنهم إذا كانوا في حال ظعنهم من المشتى إلى المصيف، ومن المصيف إلى المشتى فإنهم يقصرون، وإذا نزلوا بمشتاهم ومصيفهم لم يفطروا ولم يقصروا وإن كانوا يتتبعون المراعي.
فأوجب عليهم الصيام والإتمام حال إقامتهم، ولم يوجب عليهم الجمعة لأنهم غير مستوطنين، كما بين ذلك في رسالته لأهل البحرين(142).
ثانيها: أن عموم قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (الجمعة: من الآية9).
فيه دلالة على وجوب السعي على كل من سمع النداء، مع أنها لا تنعقد إلا بمن كان مستوطناً فدلت الآية على وجوب الجمعة على من لا تنعقد به وهو المقيم غير المستوطن، وقد أشار إلى ذلك بقوله: "يحتمل أن يقال بوجوب الجمعة على من في المصر من المسافرين وإن لم يجب عليهم الإتمام كما لو صلوا خلف من يتم فإن عليهم الإتمام تبعاً للإمام كذلك تجب عليهم الجمعة تبعاً للمقيمين… والمقيم هو المستوطن… والمسافرين لا يعقدون جمعة لكن إذا عقدها أهل مصر صلوا معهم، وهذا أولى من إتمام الصلاة خلف الإمام المقيم"(143).
قال بعض المعاصرين: "فيكون له في المسألة قولان، أو هو تراجع عن قوله السابق"(144).
والذي يظهر لي – والعلم عند الله تعالى – أن شيخ الإسلام يرى بأن تحقق الوصف العرفي للإقامة قاطع للسفر ورخصه، وذلك لأمور(145):
أولها: أنه جعل السفر نقيض الإقامة وربط وجود كل منهما أو ارتفاعه بالعرف كما صرح بذلك في مواطن متعددة(146).
وثانيها: أنه اعتبر الاسم المطلق للإقامة فقال بعد أن قرر بأن الإقامة لا تحد بأربعة أيام: "ما أطلقه الشارع يعمل بمطلق مسماه ووجوده"(147).
وثالثها: أنه قرر وجود القسم الثالث (المقيم غير المستوطن) كما تقدم، فلعله رجوع منه عن نفيه.
ورابعها: أن كلام العلماء عند الإطلاق يحمل على العرف(148).
لأنه الأقرب إلى مراد المتكلم والمتبادر إلى فهم السامع.
وخامسها: أنه اعتبر في فتاواه أموراً عرفية في ثبوت أحكام الإقامة حين قرر أن الملاح ليس له أن يترخص ما دام في رفقته امرأته وجميع مصالحه فرتب عليه آثار الإقامة رغم كونه على ظهر سير، وذلك لأمرين عرفيين هما التأهل، ووجود المصالح(149).
ومما يؤكد أن مراده هو الوضع العرفي لا غير أن أدلته وأمثلته في السفر والإقامة كانت موافقة للمعنى العرفي، وما بقي منها فلا يعارضه لعدم التصريح بوجود أسباب الإقامة.
ومن تلك الأدلة: أحوال نزوله صلى الله عليه وسلم في مكة عام الفتح وفي حجة الوداع وكذا في تبوك وكذا أحوال نزول أصحابه في الجهاد.
ومن الأمثلة التي ذكرها: التاجر يقدم لبيع بضاعته، فكل هذه ملحقة بالسفر عرفاً وعادة، وأدلته وأمثلته هي أولى ما يفسر بها كلامه(150).
فيكون ظاهر كلامه أن الذي يترخص هو المسافر في عرف الناس ثم نزل مكاناً لم ينو فيه المقام ولا قطع السفر، فبقي مضطرباً غير مستقر ينظر إلى مواصلة سيره أو الرجوع لبلده في وقت يسير عادة أو كثير لم توجد فيه أسباب الإقامة من مسكن وغيره، كتاجر أو غريم أو سائل نزل بلدة لتحصيل غرضه وهو غير عازم على المقام(151).
وأكد هذا المعنى بقوله: "وقد أقام المهاجرون مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح قريباً من عشرين يوماً بمكة، ولم يكونوا بذلك مقيمين إقامة خرجوا بها عن السفر"(152).
وقال في موضع آخر "الفطر مشروع للمسافر في الإقامات التي تتخلل السفر كالقصر"(153).
فتبين بأن مراده من الإقامة التي تتبع السفر هي ما تخلله ورآها الناس جزءاً منه لا أنها قاطعة لذلك السفر.
وقد وافقه ابن القيم في ذلك فقال عن إقامته صلى الله عليه وسلم بتبوك: "وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرج عن حكم السفر"(154) أي لأنها تتخلله ولا تقطعه بل هي جزء منه.
وقال رحمه الله: "ولم يحد صلى الله عليه وسلم لأمته مسافة محدودة للقصر والفطر بل أطلق لهم ذلك في مطلق السفر والضرب في الأرض، كما أطلق لهم التيمم في كل سفر وأما ما يروى عنه من التحديد باليوم أو اليومين أو الثلاثة فلم يصح عنه منها شيء البتة"(155).
الترجيح:
قال في بداية المجتهد: "الأشبه في المجتهد في هذا أن يسلك أحد أمرين: إما أن يجعل الحكم لأكثر الزمان الذي روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيه مقصراً ويجعل ذلك حداً من جهة أن الأصل هو الإتمام فوجب أن لا يزاد على هذا الزمان إلا بدليل، أو يقول: إن الأصل في هذا هو أقل الزمان الذي وقع عليه الإجماع، وما ورد من أنه عليه الصلاة والسلام أقام مقصراً أكثر من ذلك الزمان فيحتمل أن يكون إقامة لأنه جائز للمسافر، ويحتمل أن يكون إقامة بنية الزمان الذي تجوز إقامته فيه مقصراً باتفاق فعرض له أن أقام أكثر من ذلك وإذا كان الاحتمال وجب التمسك بالأصل وأقل ما قيل في ذلك يوم وليلة"(156).
وهذا له حظ من الوجاهة إلا أن الناظر في هديه صلى الله عليه وسلم يرى ما يدل على تقدير المدة بالعرف فقد كان يرافقه في أسفاره وإقامته عدد كبير جداً من أصحاب وقد سكتوا عن سؤاله عن سبب ترخصه في أوقات مسيره ونزوله أثناء سفره كما سكتوا عن سؤاله عن سبب تركه للرخصة في نزوله في المدينة وسكت صلى الله عليه وسلم عن بيان هذا السبب في الحالين، فلا يخلوا هذا من احتمالين:
أولها: أن يكون الحد معلوماً لدى الصحابة رضي الله عنهم من الشريعة أو لغة العرب.
وثانيها: أن يكون صلى الله عليه وسلم قد أحالهم على عرفهم في معنى السفر والإقامة.
فالأول: باطل لعدم انتشاره ووضوحه وكثرة اختلافهم وتعدد رواياتهم في ذلك. ولو كان معلوماً من اللغة لنقلته الأمة.
فتعين الثاني وهو اعتبار العرف فهو المناسب لسكوته صلى الله عليه وسلم عن البيان وترك أصحابه للسؤال عنه، فإنه لا يختص بالعلم به دونهم كاختصاصه بمسائل التوقيف والتعبد التي لا تعرف إلا من طريقه فيحتاجون معها إلى بيانه(157).
وكان صلى الله عليه وسلم يترخص في أحوال تعتبر عند أهل العرف من السفر سواء كان ذلك حال الشخوص والحركة أو حال النزول في مصر أو فضاء، ولم يوجد في منازله ما يعتبر فيها مقيماً مطمئناً قاطعاً لسفره بوجود أوصاف الإقامة العرفية من طمأنينة واتخاذ سكن ومتاع المثل في مدة طويلة ونية مستقرة وغير ذلك والأصل عدم تحقق الإقامة بهذه الأوصاف حتى يثبت المخالف وجودها وإلا فالأصل بقاء السفر(158)، قال شيخ الإسلام: "وقد أقام المهاجرون مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح قريباً من عشرين يوماً بمكة، ولم يكونوا بذلك مقيمين إقامة خرجوا بها عن السفر"(159).
وبهذا يتبين رجحان القول الأول والثاني – بعد التوفيق بينهما – بأن المعتبر في تحديد المدة والعرف فما عده الناس سفراً جاز الترخص فيه وما لا فلا، ومن كان عازماً على الإقامة من المسافرين فهو مقيم عرفاً ليس له الترخص لانقطاع سفره بذلك كما ينقطع بالاستيطان ويماثل هذا في زماننا الطلاب والعمال والموظفون المغتربون عن بلادهم وأوطانهم ويعزمون على الإقامة في تلك البلاد مدة طويلة عرفاً فليس لهم الترخص ما لم يبق فيهم وصف السفر بعدم العزم على الإقامة واضطراب حالهم فلا يدرون يسافرون اليوم أو غداً(160).
واعتبار هذا القول راجحاً على غيره، لقوة أدلته وسلامتها مما ورد عليها من المناقشة ولموافقته لمقتضى قاعدة الأسماء المطلقة في الشريعة، ولموافقته لظاهر هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولأن التحديد بابه التوقيف، ولم يصح فيه شيء، وللجواب عن أدلة المخالفين، ولأن للسفر والإقامة حقيقة تعرف بحال المسافر والمقيم واستيطانه أو عدم استيطانه وهذه الحقيقة ليست غامضة بل يسهل على الناس معرفتها، ولأن النيات لا مدخل لها في الأعمال التي لم يأمر الله تعالى بها كالسفر والإقامة وإنما تجب في الأعمال التي أمر الله بها فلا يجوز أن تؤدى بغير نية(161).
ثمرة الخلاف، من ذلك:
1 – أن من يرى التحديد بمدة معينة فإنه يوجب على من نوى الإقامة بها أن يقطع ترخصه ومن لا فلا.
2 – القائلون بالعرف يحيلون على أهل كل زمان في ذلك ففي هذا الزمان مثلاً من نوى الإقامة للدراسة أو العمل لمدة طويلة فهو مقيم يمنع من الترخص ومن اضطرب أمره فلا يدري أيرحل اليوم أم غداً فهو مسافر يترخص وإن طال مقامه.
3 – القائلون بالعرف لا يعتبرون طول المدة سبباً لثبوت الإقامة مطلقاً ولا قصرها سبباً لنفيها مطلقاً، بل متى كان المرء على حال يعتبر فيها مقيماً عند الناس فقد انقطعت في حقه رخص السفر