ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حاج موسى آدم عليهما السلام فقال له: أنت الذي أخرجت الناس بذنبك من الجنة وأشقيتهم. قال آدم: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمر قد كتبه الله على قبل أن يخلقني، أو قدره علي قبل أن يخلقني؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدمُ موسى" أي غلبه بالحجة (رواية البخاري).
وفي رواية الإمام أحمد: "احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة".
وفي رواية ابن أبي حاتم: "احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدمُ موسى، قال موسى: أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته، ثم أهبطت الناس إلى الأرض بخطيئتك".
قال ابن كثير رحمه الله في "البداية والنهاية" باب خلق آدم بعد أن عرض روايات هذا الحديث: "وقد اختلف مسالك الناس في هذا الحديث… والتحقيق: أن هذا الحديث روى بألفاظ كثيرة بعضها مروى بالمعنى، وفيه نظر. ومدار معظمها في الصحيحين وغيرهما على أنه –أي موسى-لامه على إخراجه نفسه وذريته من الجنة، فقال له آدم: أنا لم أخرجكم، وإنما أخرجكم الذي رتب الإخراج على أكلي من الشجرة، والذي رتب ذلك وقدره وكتبه قبل أن أخلق، هو الله عز وجل، فأنت تلومني على أمر ليس له نسبة إلي أكثر من أني نهيت عن الأكل من الشجرة فأكلت منها، وكون الإخراج مترتبا على ذلك ليس من فعلى، فأنا لم أخرجكم ولا نفسي من الجنة، وإنما كان هذا من قدر الله وصنعه، وله الحكمة في ذلك"اه.
والشاهد أن هذه الحسرة على ترك دار النعيم والنزول إلى الأرض قد ذاقها كثير من بني آدم، مع التسليم لله بالحكمة البالغة التي أدرك بعضها من آتاه الله علما.
فما هي حكمته سبحانه من إخراج آدم – وذريته له تبع – من الجنة وإسكانه في الأرض في دار الابتلاء والامتحان؟
هنا نأتي للعلامة ابن القيم رحمه الله لنقل بعض ما سطره مما يكفي ويشفي للرد على هذا السؤال –كما في مقدمة كتابه مفتاح دار السعادة (بتصرف)- حيث يقول:
أهبط الله آدم أبا البشر من الجنة لما في ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن معرفتها والألسن عن صفتها فكان إهباطه منها عين كماله ليعود إليها على أحسن أحواله:
فأراد سبحانه أن يذيقه ولده من نصب الدنيا وغمومها وهمومها وأوصابها ما يعظم به عندهم مقدار دخولهم إليها في الدار الآخرة، فإن الضد يظهر حسنه الضد. ولو تربوا في دار النعيم لم يعرفوا قدرها.
وأيضا فإنه سبحانه أراد أمرهم ونهيهم وابتلاءهم واختبارهم وليست الجنة دار تكليف فأهبطهم إلى الأرض وعرضهم بذلك لأفضل الثواب الذي لم يكن لينال بدون الأمر والنهي.
وأيضا فإنه سبحانه أراد أن يتخذ منهم أنبياء ورسلا وأولياء وشهداء يحبهم ويحبونه فخلى بينهم وبين أعدائه وامتحنهم بهم، فلما آثروه وبذلوا نفوسهم وأموالهم في مرضاته ومحابه نالوا من محبته ورضوانه والقرب منه ما لم يكن لينال بدون ذلك أصلا، فدرجة الرسالة والنبوة والشهادة والحب فيه والبغض فيه وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه عنده من أفضل الدرجات، ولم يكن ينال هذا إلا على الوجه الذي قدره وقضاه من إهباطه إلى الأرض وجعل معيشته ومعيشة أولاده فيها.
وأيضا فإنه سبحانه له الأسماء الحسنى فمن أسمائه الغفور الرحيم العفو الحليم الخافض الرافع المعز المذل المحي المميت الوارث الصبور ولا بد من ظهور آثار هذه الأسماء، فاقتضت حكمته سبحانه أن ينزل آدم وذريته دارا يظهر عليهم فيها أثر أسمائه فيغفر فيها لمن يشاء ويرحم من يشاء ويخفض من يشاء ويرفع من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء وينتقم ممن يشاء ويعطى ويمنع ويبسط، إلى غير ذلك من ظهور أثر أسمائه وصفاته.
وأيضا فإنه سبحانه الملك الحق المبين، والملك هو الذي يأمر وينهى ويثيب ويعاقب ويهين ويكرم ويعز ويذل، فاقتضى ملكه سبحانه أن أنزل آدم وذريته دارا تجرى عليهم فيها أحكام الملك ثم ينقلهم إلى دار يتم عليهم فيها ذلك.
وأيضا فإنه سبحانه أنزلهم إلى دار يكون إيمانهم فيها بالغيب، والإيمان بالغيب هو الإيمان النافع وأما الإيمان بالشهادة فكل أحد يؤمن يوم القيامة يوم لا ينفع نفسا إلا إيمانها في الدنيا، فلو خلقوا في دار النعيم لم ينالوا درجة الإيمان بالغيب، والذة والكرامة الحاصلة بذلك لا تحصل بدونه بل كان الحاصل لهم في دار النعيم لذة وكرامة غير هذه.
وأيضا فإن الله سبحانه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض والأرض فيها الطيب والخبيث والسهل والحزن والكريم والئيم فعلم سبحانه أن في ظهره من لا يصلح لمساكنته في داره فأنزله إلى دار استخرج فيها الطيب والخبيث من صلبه، ثم ميزهم سبحانه بدارين فجعل الطيبين أهل جواره ومساكنته في داره وجعل الخبيث أهل دار الشقاء دار الخبثاء، قال الله تعالى {لِيَمِيزَ الّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} فلما علم سبحانه أن في ذريته من ليس بأهل لمجاورته أنزلهم دارا استخرج منها أولئك وألحقهم بالدار التي هم لها أهل، حكمة بالغة ومشيئة نافذة ذلك تقدير العزيز العليم.
وأيضا فإنه سبحانه لما قال للملائكة {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} أجابهم بقوله {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ثم أظهر سبحانه علمه لعباده ولملائكته بما جعله في الأرض من خواص خلقه ورسله وأنبيائه وأوليائه ومن يتقرب إليه ويبذل نفسه في محبته ومرضاته مع مجاهدة شهوته وهواه، فيترك محبوباته تقربا إلي ويترك شهواته ابتغاء مرضاتي ويبذل دمه ونفسه في محبتي، وأخصه بعلم لا تعلمونه يسبح بحمدي آناء اليل وأطراف النهار ويعبدني مع معارضات الهوى والشهوة والنفس والعدو، إذ تعبدوني أنتم من غير معارض يعارضكم ولا شهوة تعتريكم ولا عدو أسلطه عليكم، بل عبادتكم لي بمنزلة النفس لأحدهم.
وأيضا فإنه سبحانه لما كان يحب الصابرين ويحب المحسنين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الشاكرين، وكانت محبته أعلى أنواع الكرامات اقتضت حكمته أن أسكن آدم وبنيه دارا يأتون فيها بهذه الصفات التي ينالون بها أعلى الكرامات من محبته، فكان إنزالهم إلى الأرض من أعظم النعم عليهم، والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وأيضا فإنه سبحانه أراد أن يتخذ من آدم ذرية يواليهم ويودهم ويحبهم ويحبونه فمحبتهم له هي غاية كمالهم
ولم يمكن تحقيق هذه المرتبة السنية إلا بموافقة رضاه واتباع أمره وترك إرادات النفس وشهواتها التي يكرهها محبوبهم، فأنزلهم دارا أمرهم فيها ونهاهم فقاموا بأمره ونهيه فنالوا درجة محبتهم له فأنالهم درجة حبه إياهم، وهذا من تمام حكمته وكمال رحمته وهو البر الرحيم.
وأيضا فإنه سبحانه لما خلق خلقه أطوارا وأصنافا وسبق في حكمه تفضيله آدم وبنيه على كثير من مخلوقاته جعل عبوديته أفضل درجاتهم أعنى العبودية الاختيارية التي يأتون بها طوعا واختيارا لا كرها واضطرارا.
وأيضا فإنه سبحانه إنما خلق الخلق لعبادته وهي الغاية منهم قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ومعلوم أن كمال العبودية المطلوب من الخلق لا يحصل في دار النعيم والبقاء إنما يحصل في دار المحنة والابتلاء، وأما دار البقاء فدار لذة ونعيم لا دار ابتلاء وامتحان وتكليف.
وأيضا فإنه سبحانه اقتضت حكمته خلق آدم وذريته من تركيب مستلزم لداعي الشهوة والفتنة وداعي العقل والعلم فإنه سبحانه خلق فيه العقل والشهوة ونصبهما داعين بمقتضياتهما ليتم مراده ويظهر لعباده عزته في حكمته وجبروته ورحمته وبره ولطفه في سلطانه وملكه، فاقتضت حكمته ورحمته أن أذاق أباهم وبيل مخالفته وعرفه ما يجنى عواقب إجابة الشهوة والهوى ليكون أعظم حذرا فيها وأشد هروبا، وهذا كحال رجل سائر على طريق قد كمنت الأعداء في جنباته وخلفه وأمامه وهو لا يشعر فإذا أصيب منها مرة بمصيبة استعد في سيره وأخذ أهبة عدوه وأعد له ما يدفعه، ولولا أنه ذاق ألم إغارة عدوه عليه وتبيته له لما سمحت نفسه بالاستعداد والحذر وأخذ العدة، فمن تمام نعمة الله على آدم وذريته أن أراهم ما فعل العدو بهم فاستعدوا له وأخذوا أهبته.
وأيضا فإنه لما كانت محبة الله وحده هي غاية كمال العبد وسعادته التي لا كمال له ولا سعادة بدونها أصلا وكانت المحبة الصادقة إنما تتحق بإيثار المحبوب على غيره من محبوبات النفوس واحتمال أعظم المشاق في طاعته ومرضاته، فبهذا تتحق المحبة ويعلم ثبوتها في القلب اقتضت حكمته سبحانه إخراجهم إلى هذه الدار المحفوفة بالشهوات ومحاب النفوس التي بإيثار الحق عليها والإعراض عنها يتحقق حبهم له وإيثارهم إياه على غيره، ولذلك بتحمل المشاق الشديدة وركوب الأخطار واحتمال الملامة والصبر على دواعي الغي والضلال ومجاهدتها يقوى سلطان المحبة وتثبت شجرتها في القلب وتظهر ثمرتها على الجوارح، فإن المحبة الثابتة الازمة على كثرة الموانع والعوارض والصوارف هي المحبة الحقيقية النافعة، وأما المحبة المشروطة بالعافية والنعيم والذة وحصول مراد المحب من محبوبه فليست محبة صادقة ولا ثبات لها عند المعارضات والموانع، فإن المعلق على الشرط عدم عند عدمه، ومن ودك لأمر ولى عند انقضائه، وفرق بين من يعبد الله على السراء والرخاء والعافية فقط وبين من يعبده على السراء والضراء والشدة والرخاء والعافية والبلاء.
وأيضا فإنه سبحانه لا شيء أحب إليه من العبد من تذلله بين يديه وخضوعه وافتقاره وانكساره وتضرعه إليه، ومعلوم أن هذا المطلوب من العبد إنما يتم بأسبابه التي تتوقف عليها، وحصول هذه الأسباب في دار النعيم المطلق والعافية الكاملة يمتنع إذ هو مستلزم للجمع بين الضدين.
وأيضا فإنه سبحانه له الخلق والأمر، والأمر هو شرعه وأمره ودينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه وليست الجنة دار تكليف تجرى عليهم فيها أحكام التكليف ولوازمها وإنما هي دار نعيم ولذة، فاقتضت حكمته سبحانه استخراج آدم وذريته إلى دار تجرى عليهم فيها أحكام دينه وأمره ليظهر فيهم مقتضى الأمر ولوازمه، فإن الله سبحانه كما أن أفعاله وخلقه من لوازم كمال أسمائه الحسنى وصفاته العلى فكذلك أمره وشرعه وما يترتب عليه من الثواب والعقاب، وقد أرشد سبحانه إلى هذا المعنى في غير موضع من كتابه فقال تعالى {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} أي مهملا معطلا لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب، وهذا يدل على أن هذا مناف لكمال حكمته، وأن ربوبيته وعزته وحكمته تأبى ذلك، ولهذا أخرج الكلام مخرج الإنكار على من زعم ذلك، وهو يدل على أن حسنه مستقر في الفطر والعقول، وقبح تركه سدا معطلا أيضا مستقر في الفطر، فكيف ينسب إلى الرب ما قبحه مستقر في فطركم وعقولكم، وقال تعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى الَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} فنزه نفسه سبحانه عن هذا الحسبان الباطل المضاد لموجب أسمائه وصفاته وأنه لا يليق بجلاله نسبته إليه، ونظائر هذا في القرآن كثيرة.
وأيضا فإنه سبحانه يحب من عباده أمورا يتوقف حصولها منهم على حصول الأسباب المقتضية لها ولا تحصل إلا في دار الابتلاء والامتحان، فإنه سبحانه يحب الصابرين ويحب الشاكرين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ويحب التوابين ويحب المتطهرين، ولا ريب أن حصول هذه المحبوبات بدون أسبابها ممتنع كامتناع حصول الملزوم بدون لازمه، والله سبحانه أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في أرض دوية مهلكة إذا وجدها، وهذا الفرح إنما يكون بعد التوبة من الذنب، فالتوبة والذنب لازمان لهذا الفرح، ولا يوجد الملزوم بدون لازمه، وإذا كان هذا الفرح المذكور إنما يحصل بالتوبة المستلزمة للذنب فحصوله في دار النعيم التي لا ذنب فيها ولا مخالفة ممتنع. ولما كان هذا الفرح أحب إلى الرب سبحانه من عدمه اقتضت محبته له خلق الأسباب المفضية إليه ليترتب عليها المسبب الذي هو محبوب له.
وأيضا فإن الله سبحانه جعل الجنة دار جزاء وثواب وقسم منازلها بين أهلها على قدر أعمالهم وعلى هذا خلقها سبحانه لما له في ذلك من الحكمة التي اقتضتها أسماؤه وصفاته، فإن الجنة درجات بعضها فوق بعض وبين الدرجتين كما بين السماء والأرض، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أن الجنة مائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، وحكمة الرب سبحانه مقتضية لعمارة هذه الدرجات كلها وإنما تعمر ويقع التفاوت فيها بحسب الأعمال، كما قال غير واحد من السلف: ينجون من النار بعفو الله ومغفرته، ويدخلون الجنة بفضله ونعمته ومغفرته، ويتقاسمون المنازل بأعمالهم، والمقصود أن حكمته سبحانه اقتضت خلق الجنة درجات بعضها فوق بعض وعمارتها بآدم وذريته وإنزالهم فيها بحسب أعمالهم ولازم هذا إنزالهم إلى دار العمل والمجاهدة.
وأيضا فإنه سبحانه خلق آدم وذريته ليستخلفهم في الأرض كما أخبر سبحانه في كتابه بقوله {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} وقوله {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ} وقال {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ} فأراد سبحانه أن ينقله وذريته من هذا الاستخلاف إلى توريثه جنة الخلد، وعلم سبحانه بسابق علمه أنه لضعفه وقصور نظره قد يختار العاجل الخسيس على الآجل النفيس، فإن النفس مولعة بحب العاجلة وإيثارها على الآخرة، وهذا من لوازم كونه خلق من عجل وكونه خلق عجولا، فعلم سبحانه ما في طبيعته من الضعف والخور، فاقتضت حكمته أن أدخله الجنة ليعرف النعيم الذي أعد له عيانا فيكون إليه أشوق وعليه أحرص وله أشد طلبا، فإن محبة الشيء وطلبه والشوق إليه من لوازم تصوره، فمن باشر طيب شيء ولذته وتذوق به لم يكد يصبر عنه، وهذا لأن النفس ذواقة تواقة فإذا ذاقت تاقت، ولهذا إذا ذاق العبد طعم حلاوة الإيمان وخالطت بشاشته قلبه رسخ فيه حبه ولم يؤثر عليه شيئا أبدا، وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه المرفوع أن الله عز وجل يسأل الملائكة فيقول: ما يسألني عبادي؟ فيقولون يسألونك الجنة. فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا يا رب. فيقول كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها لكانوا أشد لها طلبا.
فاقتضت حكمته أن أراها أباهم وأسكنه إياها ثم قص على بنيه قصته فصاروا كأنهم مشاهدون لها حاضرون مع أبيهم فاستجاب من خلق لها وخلقت له وسارع إليها فلم يثنه عنها العاجلة، بل يعد نفسه كأنه فيها ثم سباه العدو، فيراها وطنه الأول فهو دائم الحنين إلى وطنه، ولا يقر له قرار حتى يرى نفسه فيه، كما قيل:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبي الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل
ولي من أبيات تلم بهذا المعنى:
وحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
فسر هذه الوجوه أنه سبحانه وتعالى سبق في حكمه وحكمته أن الغايات المطلوبة لا تنال إلا بأسبابها التي جعلها الله أسبابا مفضية إليها، ومن تلك الغايات أعلى أنواع النعيم وأفضلها وأجلها فلا تنال إلا بأسباب نصبها مفضية إليها، وإذا كانت الغايات التي هي دون ذلك لا تنال لا بأسبابها مع ضعفها وانقطاعها كتحصيل المأكول والمشروب والملبوس والولد والمال والجاه في الدنيا، فكيف يتوهم حصول أعلى الغايات وأشرف المقامات بلا سبب يفضى إليه، ولم يكن تحصيل تلك الأسباب إلا في دار المجاهدة والحرث فكان إسكان آدم وذريته هذه الدار التي ينالون فيها الأسباب الموصلة إلى أعلى المقامات من إتمام إنعامه عليهم وسرها.
أيضا أنه سبحانه جعل الرسالة والنبوة والخلة والتكليم والولاية والعبودية من أشرف مقامات خلقه ونهايات كمالهم فأنزلهم دارا أخرج منهم الأنبياء وبعث فيها الرسل واتخذ منهم من اتخذ خليلا وكلم موسى تكليما واتخذ منهم أولياء وشهداء وعبيدا وخاصة يحبهم ويحبونه، وكان إنزالهم إلى الأرض من تمام الإنعام والإحسان.
وأيضا أنه أظهر لخلقه من آثار أسمائه وجريان أحكامها عليهم ما اقتضته حكمته ورحمته وعلمه وسرها أيضا أنه تعرف إلى خلقه بأفعاله وأسمائه وصفاته وما أحدثه في أوليائه وأعدائه من كرامته وإنعامه على الأولياء وإهانته وإشقائه للأعداء ومن إجابته دعواتهم وقضائه حوائجهم وتفريج كرباتهم وكشف بلائهم وتصريفهم تحت أقداره كيف يشاء وتقليبهم في أنواع الخير والشر، فكان في ذلك أعظم دليل لهم على أنه ربهم ومليكهم، وأنه الله الذي لا إله إلا هو وأنه العليم الحكيم السميع البصير، وأنه الإله الحق وكل ما سواه باطل، فتظاهرت أدلة ربوبيته وتوحيده في الأرض وتنوعت وقامت من كل جانب، فعرفه الموفقون من عباده وأقروا بتوحيده إيمانا وإذعانا وجحده المخذولون من خليقته وأشركوا به ظلما وكفرانا، فهلك من هلك عن بينة
وحي من حى عن بينة والله سميع عليم.
ومن تأمل آياته المشهودة والمسموعة في الأرض ورأى آثارها علم تمام حكمته في إسكان آدم وذريته في هذه الدار إلى أجل معلوم، فالله سبحانه إنما خلق الجنة لآدم وذريته وجعل الملائكة فيها خدما لهم ولكن اقتضت حكمته أن خلق لهم دارا يتزودون منها إلى الدار التي خلقت لهم وأنهم لا ينالونها إلا بالزاد، كما قال تعالى في هذه الدار {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} فهذا شأن الانتقال في الدنيا من بلد إلى بلد، فكيف الانتقال من الدنيا إلى دار القرار، وقال تعالى {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} فباع المغبونون منازلهم منها بأبخس الحظ وأنقص الثمن، وباع الموفقون نفوسهم وأموالهم من الله وجعلوها ثمنا للجنة فربحت تجارتهم ونالوا الفوز العظيم، قال الله تعالى: {إِنَّ الّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} فهو سبحانه ما أخرج آدم منها إلا وهو يريد أن يعيده إليها أكمل إعادة، كما قيل على لسان القدر: يا آدم لا تجزع من قولي لك اخرج منها فلك خلقتها فإني أنا الغني عنها وعن كل شيء وأنا الجواد الكريم، وأنا لا أتمتع فيها فإني أطعم ولا أطعم وأنا الغني الحميد، ولكن انزل إلى دار البذر فإذا بذرت فاستوى الزرع على سوقه وصار حصيدا فحينئذ فتعال فاستوفه أحوج ما أنت إليه الحبة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فإني أعلم بمصلحتك منك وأنا العلي الحكيم.
:11_1_207[1]:
وفي رواية الإمام أحمد: "احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة".
وفي رواية ابن أبي حاتم: "احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدمُ موسى، قال موسى: أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته، ثم أهبطت الناس إلى الأرض بخطيئتك".
قال ابن كثير رحمه الله في "البداية والنهاية" باب خلق آدم بعد أن عرض روايات هذا الحديث: "وقد اختلف مسالك الناس في هذا الحديث… والتحقيق: أن هذا الحديث روى بألفاظ كثيرة بعضها مروى بالمعنى، وفيه نظر. ومدار معظمها في الصحيحين وغيرهما على أنه –أي موسى-لامه على إخراجه نفسه وذريته من الجنة، فقال له آدم: أنا لم أخرجكم، وإنما أخرجكم الذي رتب الإخراج على أكلي من الشجرة، والذي رتب ذلك وقدره وكتبه قبل أن أخلق، هو الله عز وجل، فأنت تلومني على أمر ليس له نسبة إلي أكثر من أني نهيت عن الأكل من الشجرة فأكلت منها، وكون الإخراج مترتبا على ذلك ليس من فعلى، فأنا لم أخرجكم ولا نفسي من الجنة، وإنما كان هذا من قدر الله وصنعه، وله الحكمة في ذلك"اه.
والشاهد أن هذه الحسرة على ترك دار النعيم والنزول إلى الأرض قد ذاقها كثير من بني آدم، مع التسليم لله بالحكمة البالغة التي أدرك بعضها من آتاه الله علما.
فما هي حكمته سبحانه من إخراج آدم – وذريته له تبع – من الجنة وإسكانه في الأرض في دار الابتلاء والامتحان؟
هنا نأتي للعلامة ابن القيم رحمه الله لنقل بعض ما سطره مما يكفي ويشفي للرد على هذا السؤال –كما في مقدمة كتابه مفتاح دار السعادة (بتصرف)- حيث يقول:
أهبط الله آدم أبا البشر من الجنة لما في ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن معرفتها والألسن عن صفتها فكان إهباطه منها عين كماله ليعود إليها على أحسن أحواله:
فأراد سبحانه أن يذيقه ولده من نصب الدنيا وغمومها وهمومها وأوصابها ما يعظم به عندهم مقدار دخولهم إليها في الدار الآخرة، فإن الضد يظهر حسنه الضد. ولو تربوا في دار النعيم لم يعرفوا قدرها.
وأيضا فإنه سبحانه أراد أمرهم ونهيهم وابتلاءهم واختبارهم وليست الجنة دار تكليف فأهبطهم إلى الأرض وعرضهم بذلك لأفضل الثواب الذي لم يكن لينال بدون الأمر والنهي.
وأيضا فإنه سبحانه أراد أن يتخذ منهم أنبياء ورسلا وأولياء وشهداء يحبهم ويحبونه فخلى بينهم وبين أعدائه وامتحنهم بهم، فلما آثروه وبذلوا نفوسهم وأموالهم في مرضاته ومحابه نالوا من محبته ورضوانه والقرب منه ما لم يكن لينال بدون ذلك أصلا، فدرجة الرسالة والنبوة والشهادة والحب فيه والبغض فيه وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه عنده من أفضل الدرجات، ولم يكن ينال هذا إلا على الوجه الذي قدره وقضاه من إهباطه إلى الأرض وجعل معيشته ومعيشة أولاده فيها.
وأيضا فإنه سبحانه له الأسماء الحسنى فمن أسمائه الغفور الرحيم العفو الحليم الخافض الرافع المعز المذل المحي المميت الوارث الصبور ولا بد من ظهور آثار هذه الأسماء، فاقتضت حكمته سبحانه أن ينزل آدم وذريته دارا يظهر عليهم فيها أثر أسمائه فيغفر فيها لمن يشاء ويرحم من يشاء ويخفض من يشاء ويرفع من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء وينتقم ممن يشاء ويعطى ويمنع ويبسط، إلى غير ذلك من ظهور أثر أسمائه وصفاته.
وأيضا فإنه سبحانه الملك الحق المبين، والملك هو الذي يأمر وينهى ويثيب ويعاقب ويهين ويكرم ويعز ويذل، فاقتضى ملكه سبحانه أن أنزل آدم وذريته دارا تجرى عليهم فيها أحكام الملك ثم ينقلهم إلى دار يتم عليهم فيها ذلك.
وأيضا فإنه سبحانه أنزلهم إلى دار يكون إيمانهم فيها بالغيب، والإيمان بالغيب هو الإيمان النافع وأما الإيمان بالشهادة فكل أحد يؤمن يوم القيامة يوم لا ينفع نفسا إلا إيمانها في الدنيا، فلو خلقوا في دار النعيم لم ينالوا درجة الإيمان بالغيب، والذة والكرامة الحاصلة بذلك لا تحصل بدونه بل كان الحاصل لهم في دار النعيم لذة وكرامة غير هذه.
وأيضا فإن الله سبحانه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض والأرض فيها الطيب والخبيث والسهل والحزن والكريم والئيم فعلم سبحانه أن في ظهره من لا يصلح لمساكنته في داره فأنزله إلى دار استخرج فيها الطيب والخبيث من صلبه، ثم ميزهم سبحانه بدارين فجعل الطيبين أهل جواره ومساكنته في داره وجعل الخبيث أهل دار الشقاء دار الخبثاء، قال الله تعالى {لِيَمِيزَ الّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} فلما علم سبحانه أن في ذريته من ليس بأهل لمجاورته أنزلهم دارا استخرج منها أولئك وألحقهم بالدار التي هم لها أهل، حكمة بالغة ومشيئة نافذة ذلك تقدير العزيز العليم.
وأيضا فإنه سبحانه لما قال للملائكة {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} أجابهم بقوله {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ثم أظهر سبحانه علمه لعباده ولملائكته بما جعله في الأرض من خواص خلقه ورسله وأنبيائه وأوليائه ومن يتقرب إليه ويبذل نفسه في محبته ومرضاته مع مجاهدة شهوته وهواه، فيترك محبوباته تقربا إلي ويترك شهواته ابتغاء مرضاتي ويبذل دمه ونفسه في محبتي، وأخصه بعلم لا تعلمونه يسبح بحمدي آناء اليل وأطراف النهار ويعبدني مع معارضات الهوى والشهوة والنفس والعدو، إذ تعبدوني أنتم من غير معارض يعارضكم ولا شهوة تعتريكم ولا عدو أسلطه عليكم، بل عبادتكم لي بمنزلة النفس لأحدهم.
وأيضا فإنه سبحانه لما كان يحب الصابرين ويحب المحسنين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الشاكرين، وكانت محبته أعلى أنواع الكرامات اقتضت حكمته أن أسكن آدم وبنيه دارا يأتون فيها بهذه الصفات التي ينالون بها أعلى الكرامات من محبته، فكان إنزالهم إلى الأرض من أعظم النعم عليهم، والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وأيضا فإنه سبحانه أراد أن يتخذ من آدم ذرية يواليهم ويودهم ويحبهم ويحبونه فمحبتهم له هي غاية كمالهم
ولم يمكن تحقيق هذه المرتبة السنية إلا بموافقة رضاه واتباع أمره وترك إرادات النفس وشهواتها التي يكرهها محبوبهم، فأنزلهم دارا أمرهم فيها ونهاهم فقاموا بأمره ونهيه فنالوا درجة محبتهم له فأنالهم درجة حبه إياهم، وهذا من تمام حكمته وكمال رحمته وهو البر الرحيم.
وأيضا فإنه سبحانه لما خلق خلقه أطوارا وأصنافا وسبق في حكمه تفضيله آدم وبنيه على كثير من مخلوقاته جعل عبوديته أفضل درجاتهم أعنى العبودية الاختيارية التي يأتون بها طوعا واختيارا لا كرها واضطرارا.
وأيضا فإنه سبحانه إنما خلق الخلق لعبادته وهي الغاية منهم قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ومعلوم أن كمال العبودية المطلوب من الخلق لا يحصل في دار النعيم والبقاء إنما يحصل في دار المحنة والابتلاء، وأما دار البقاء فدار لذة ونعيم لا دار ابتلاء وامتحان وتكليف.
وأيضا فإنه سبحانه اقتضت حكمته خلق آدم وذريته من تركيب مستلزم لداعي الشهوة والفتنة وداعي العقل والعلم فإنه سبحانه خلق فيه العقل والشهوة ونصبهما داعين بمقتضياتهما ليتم مراده ويظهر لعباده عزته في حكمته وجبروته ورحمته وبره ولطفه في سلطانه وملكه، فاقتضت حكمته ورحمته أن أذاق أباهم وبيل مخالفته وعرفه ما يجنى عواقب إجابة الشهوة والهوى ليكون أعظم حذرا فيها وأشد هروبا، وهذا كحال رجل سائر على طريق قد كمنت الأعداء في جنباته وخلفه وأمامه وهو لا يشعر فإذا أصيب منها مرة بمصيبة استعد في سيره وأخذ أهبة عدوه وأعد له ما يدفعه، ولولا أنه ذاق ألم إغارة عدوه عليه وتبيته له لما سمحت نفسه بالاستعداد والحذر وأخذ العدة، فمن تمام نعمة الله على آدم وذريته أن أراهم ما فعل العدو بهم فاستعدوا له وأخذوا أهبته.
وأيضا فإنه لما كانت محبة الله وحده هي غاية كمال العبد وسعادته التي لا كمال له ولا سعادة بدونها أصلا وكانت المحبة الصادقة إنما تتحق بإيثار المحبوب على غيره من محبوبات النفوس واحتمال أعظم المشاق في طاعته ومرضاته، فبهذا تتحق المحبة ويعلم ثبوتها في القلب اقتضت حكمته سبحانه إخراجهم إلى هذه الدار المحفوفة بالشهوات ومحاب النفوس التي بإيثار الحق عليها والإعراض عنها يتحقق حبهم له وإيثارهم إياه على غيره، ولذلك بتحمل المشاق الشديدة وركوب الأخطار واحتمال الملامة والصبر على دواعي الغي والضلال ومجاهدتها يقوى سلطان المحبة وتثبت شجرتها في القلب وتظهر ثمرتها على الجوارح، فإن المحبة الثابتة الازمة على كثرة الموانع والعوارض والصوارف هي المحبة الحقيقية النافعة، وأما المحبة المشروطة بالعافية والنعيم والذة وحصول مراد المحب من محبوبه فليست محبة صادقة ولا ثبات لها عند المعارضات والموانع، فإن المعلق على الشرط عدم عند عدمه، ومن ودك لأمر ولى عند انقضائه، وفرق بين من يعبد الله على السراء والرخاء والعافية فقط وبين من يعبده على السراء والضراء والشدة والرخاء والعافية والبلاء.
وأيضا فإنه سبحانه لا شيء أحب إليه من العبد من تذلله بين يديه وخضوعه وافتقاره وانكساره وتضرعه إليه، ومعلوم أن هذا المطلوب من العبد إنما يتم بأسبابه التي تتوقف عليها، وحصول هذه الأسباب في دار النعيم المطلق والعافية الكاملة يمتنع إذ هو مستلزم للجمع بين الضدين.
وأيضا فإنه سبحانه له الخلق والأمر، والأمر هو شرعه وأمره ودينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه وليست الجنة دار تكليف تجرى عليهم فيها أحكام التكليف ولوازمها وإنما هي دار نعيم ولذة، فاقتضت حكمته سبحانه استخراج آدم وذريته إلى دار تجرى عليهم فيها أحكام دينه وأمره ليظهر فيهم مقتضى الأمر ولوازمه، فإن الله سبحانه كما أن أفعاله وخلقه من لوازم كمال أسمائه الحسنى وصفاته العلى فكذلك أمره وشرعه وما يترتب عليه من الثواب والعقاب، وقد أرشد سبحانه إلى هذا المعنى في غير موضع من كتابه فقال تعالى {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} أي مهملا معطلا لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب، وهذا يدل على أن هذا مناف لكمال حكمته، وأن ربوبيته وعزته وحكمته تأبى ذلك، ولهذا أخرج الكلام مخرج الإنكار على من زعم ذلك، وهو يدل على أن حسنه مستقر في الفطر والعقول، وقبح تركه سدا معطلا أيضا مستقر في الفطر، فكيف ينسب إلى الرب ما قبحه مستقر في فطركم وعقولكم، وقال تعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى الَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} فنزه نفسه سبحانه عن هذا الحسبان الباطل المضاد لموجب أسمائه وصفاته وأنه لا يليق بجلاله نسبته إليه، ونظائر هذا في القرآن كثيرة.
وأيضا فإنه سبحانه يحب من عباده أمورا يتوقف حصولها منهم على حصول الأسباب المقتضية لها ولا تحصل إلا في دار الابتلاء والامتحان، فإنه سبحانه يحب الصابرين ويحب الشاكرين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ويحب التوابين ويحب المتطهرين، ولا ريب أن حصول هذه المحبوبات بدون أسبابها ممتنع كامتناع حصول الملزوم بدون لازمه، والله سبحانه أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في أرض دوية مهلكة إذا وجدها، وهذا الفرح إنما يكون بعد التوبة من الذنب، فالتوبة والذنب لازمان لهذا الفرح، ولا يوجد الملزوم بدون لازمه، وإذا كان هذا الفرح المذكور إنما يحصل بالتوبة المستلزمة للذنب فحصوله في دار النعيم التي لا ذنب فيها ولا مخالفة ممتنع. ولما كان هذا الفرح أحب إلى الرب سبحانه من عدمه اقتضت محبته له خلق الأسباب المفضية إليه ليترتب عليها المسبب الذي هو محبوب له.
وأيضا فإن الله سبحانه جعل الجنة دار جزاء وثواب وقسم منازلها بين أهلها على قدر أعمالهم وعلى هذا خلقها سبحانه لما له في ذلك من الحكمة التي اقتضتها أسماؤه وصفاته، فإن الجنة درجات بعضها فوق بعض وبين الدرجتين كما بين السماء والأرض، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أن الجنة مائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، وحكمة الرب سبحانه مقتضية لعمارة هذه الدرجات كلها وإنما تعمر ويقع التفاوت فيها بحسب الأعمال، كما قال غير واحد من السلف: ينجون من النار بعفو الله ومغفرته، ويدخلون الجنة بفضله ونعمته ومغفرته، ويتقاسمون المنازل بأعمالهم، والمقصود أن حكمته سبحانه اقتضت خلق الجنة درجات بعضها فوق بعض وعمارتها بآدم وذريته وإنزالهم فيها بحسب أعمالهم ولازم هذا إنزالهم إلى دار العمل والمجاهدة.
وأيضا فإنه سبحانه خلق آدم وذريته ليستخلفهم في الأرض كما أخبر سبحانه في كتابه بقوله {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} وقوله {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ} وقال {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ} فأراد سبحانه أن ينقله وذريته من هذا الاستخلاف إلى توريثه جنة الخلد، وعلم سبحانه بسابق علمه أنه لضعفه وقصور نظره قد يختار العاجل الخسيس على الآجل النفيس، فإن النفس مولعة بحب العاجلة وإيثارها على الآخرة، وهذا من لوازم كونه خلق من عجل وكونه خلق عجولا، فعلم سبحانه ما في طبيعته من الضعف والخور، فاقتضت حكمته أن أدخله الجنة ليعرف النعيم الذي أعد له عيانا فيكون إليه أشوق وعليه أحرص وله أشد طلبا، فإن محبة الشيء وطلبه والشوق إليه من لوازم تصوره، فمن باشر طيب شيء ولذته وتذوق به لم يكد يصبر عنه، وهذا لأن النفس ذواقة تواقة فإذا ذاقت تاقت، ولهذا إذا ذاق العبد طعم حلاوة الإيمان وخالطت بشاشته قلبه رسخ فيه حبه ولم يؤثر عليه شيئا أبدا، وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه المرفوع أن الله عز وجل يسأل الملائكة فيقول: ما يسألني عبادي؟ فيقولون يسألونك الجنة. فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا يا رب. فيقول كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها لكانوا أشد لها طلبا.
فاقتضت حكمته أن أراها أباهم وأسكنه إياها ثم قص على بنيه قصته فصاروا كأنهم مشاهدون لها حاضرون مع أبيهم فاستجاب من خلق لها وخلقت له وسارع إليها فلم يثنه عنها العاجلة، بل يعد نفسه كأنه فيها ثم سباه العدو، فيراها وطنه الأول فهو دائم الحنين إلى وطنه، ولا يقر له قرار حتى يرى نفسه فيه، كما قيل:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبي الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل
ولي من أبيات تلم بهذا المعنى:
وحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
فسر هذه الوجوه أنه سبحانه وتعالى سبق في حكمه وحكمته أن الغايات المطلوبة لا تنال إلا بأسبابها التي جعلها الله أسبابا مفضية إليها، ومن تلك الغايات أعلى أنواع النعيم وأفضلها وأجلها فلا تنال إلا بأسباب نصبها مفضية إليها، وإذا كانت الغايات التي هي دون ذلك لا تنال لا بأسبابها مع ضعفها وانقطاعها كتحصيل المأكول والمشروب والملبوس والولد والمال والجاه في الدنيا، فكيف يتوهم حصول أعلى الغايات وأشرف المقامات بلا سبب يفضى إليه، ولم يكن تحصيل تلك الأسباب إلا في دار المجاهدة والحرث فكان إسكان آدم وذريته هذه الدار التي ينالون فيها الأسباب الموصلة إلى أعلى المقامات من إتمام إنعامه عليهم وسرها.
أيضا أنه سبحانه جعل الرسالة والنبوة والخلة والتكليم والولاية والعبودية من أشرف مقامات خلقه ونهايات كمالهم فأنزلهم دارا أخرج منهم الأنبياء وبعث فيها الرسل واتخذ منهم من اتخذ خليلا وكلم موسى تكليما واتخذ منهم أولياء وشهداء وعبيدا وخاصة يحبهم ويحبونه، وكان إنزالهم إلى الأرض من تمام الإنعام والإحسان.
وأيضا أنه أظهر لخلقه من آثار أسمائه وجريان أحكامها عليهم ما اقتضته حكمته ورحمته وعلمه وسرها أيضا أنه تعرف إلى خلقه بأفعاله وأسمائه وصفاته وما أحدثه في أوليائه وأعدائه من كرامته وإنعامه على الأولياء وإهانته وإشقائه للأعداء ومن إجابته دعواتهم وقضائه حوائجهم وتفريج كرباتهم وكشف بلائهم وتصريفهم تحت أقداره كيف يشاء وتقليبهم في أنواع الخير والشر، فكان في ذلك أعظم دليل لهم على أنه ربهم ومليكهم، وأنه الله الذي لا إله إلا هو وأنه العليم الحكيم السميع البصير، وأنه الإله الحق وكل ما سواه باطل، فتظاهرت أدلة ربوبيته وتوحيده في الأرض وتنوعت وقامت من كل جانب، فعرفه الموفقون من عباده وأقروا بتوحيده إيمانا وإذعانا وجحده المخذولون من خليقته وأشركوا به ظلما وكفرانا، فهلك من هلك عن بينة
وحي من حى عن بينة والله سميع عليم.
ومن تأمل آياته المشهودة والمسموعة في الأرض ورأى آثارها علم تمام حكمته في إسكان آدم وذريته في هذه الدار إلى أجل معلوم، فالله سبحانه إنما خلق الجنة لآدم وذريته وجعل الملائكة فيها خدما لهم ولكن اقتضت حكمته أن خلق لهم دارا يتزودون منها إلى الدار التي خلقت لهم وأنهم لا ينالونها إلا بالزاد، كما قال تعالى في هذه الدار {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} فهذا شأن الانتقال في الدنيا من بلد إلى بلد، فكيف الانتقال من الدنيا إلى دار القرار، وقال تعالى {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} فباع المغبونون منازلهم منها بأبخس الحظ وأنقص الثمن، وباع الموفقون نفوسهم وأموالهم من الله وجعلوها ثمنا للجنة فربحت تجارتهم ونالوا الفوز العظيم، قال الله تعالى: {إِنَّ الّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} فهو سبحانه ما أخرج آدم منها إلا وهو يريد أن يعيده إليها أكمل إعادة، كما قيل على لسان القدر: يا آدم لا تجزع من قولي لك اخرج منها فلك خلقتها فإني أنا الغني عنها وعن كل شيء وأنا الجواد الكريم، وأنا لا أتمتع فيها فإني أطعم ولا أطعم وأنا الغني الحميد، ولكن انزل إلى دار البذر فإذا بذرت فاستوى الزرع على سوقه وصار حصيدا فحينئذ فتعال فاستوفه أحوج ما أنت إليه الحبة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فإني أعلم بمصلحتك منك وأنا العلي الحكيم.
:11_1_207[1]:
بارك الله فيك
في ميزان حسناتج
شكرلكم
جزاكم الله خيرا