التصنيفات
منوعات

إلى غاليتي صبا

ذكر محنة الإمام أحمد بن حنبل
ما زال المسلمون على قانون السَّلَف من أنّ القرآن كلام الله تعالى ووحْيه وتنزيله غير مخلوق، حَتَّى نبغت المعتزلة والْجَهْميّة، فقالوا بخلق القرآن، متستّرين بذلك في دولة الرشيد. فروى أحمد بن إبراهيم الدَّورقيّ، عن محمد بن نوح، أنّ هارون الرشيد قال: بَلَغَني أنّ بِشْر بن غياث يقول: القرآن مخلوق. لله عليَّ إنْ أظفرني به لأقتلنّه. قال الدَّورقيّ: وكان بِشْر مُتَواريًا أيّام الرشيد، فلمّا مات ظهر بِشْر ودعى إلى الضَّلالَةِ.
قلت: ثم إن المأمون نظر في الكلام، وباحث المعتزلة، وبقي يقدِّم رِجْلا ويؤخِّر أخرى في دعاء النَّاس إلى القول بخلق القرآن، إلى أنُ قوي عزمه على ذلك في السنة التي مات فيها، كما سُقْناه.
قال صالح بن أحمد بن حنبل: حُمِل أبي، ومحمد بن نوح مقَّيدين، فصرنا معهما إلى الأنبار، فسأل أبو بكر الأحوال أبي فقال: يا أبا عبد الله، إن عُرِضت على السيف تجيب؟. قال: لا. ثمّ سُيِّرا، فسمعت أبي يقول: صرنا إلى الرّحْبَة ورحلنا منها، وذلك في جوف اللّيل، فعَرَض لنا رجلٌ فقال: أيّكم أحمد بن حنبل؟ فقيل له: هذا. فقال للجمّال: على رسْلك. ثمّ قال: يا هذا، ما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنّة. ثم قال: أسْتَوْدعُك الله، ومضى. قال أبي: فسألت عنه، فقيل: هذا رجل من العرب من ربيعة يعمل الشِّعْر في البادية، يقال له: جابر بن عامر، يُذكر بخير.
وروى أحمد بن أبي الحواري: حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال: قال أحمد بن حنبل: ما سمعتُ كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابيّ كلَّمني بها في رَحْبة طَوْق، قال: يا أحمد، إن يَقْتُلُكَ الحقُّ مُتَّ شَهِيدًا، وإن عشْت عشت حميدًا. فقوي قلبي.
قال صالح بن أحمد: قال أبي: صِرْنا إلى أذَنَة، ورحلنا منها في جوف الليل، وفتح لنا بابها، فإذا رجل قد دخل فقال: البشرى، قد مات الرجل، يعني المأمون. قال أبي: وكنت أدعو الله أن لا أراه. [ص:1037]
وقال محمد بن إبراهيم البُوَشْنجيّ: سمعت أحمد بن حنبل يقول: تبيّنت الإجابة في دعوتين: دعوتُ الله أن لا يجمع بيني وبين المأمون، ودعوته أن لا أرى المتوكّل. فلم أر المأمون، مات بالبَذَنْدُون وهو نهر الرّوم، وأحمد محبوس بالرَّقَة حتى بويع المعتصم بالروم، ورجَع فردَّ أحمد إلى بغداد. وأمّا المتوكّل فإنّه لمّا أحضر أحمد دار الخلافة ليحدِّث ولده، قَعَد لَهُ المتوكّل في خَوْخةٍ حَتَّى نظر إلى أحمد، ولم يره أحمد.
قال صالح: لما صدر أبي ومحمد بن نوح إلى طرسوس رُدّا في أقيادهما، فلمّا صارا إلى الرّقّة حُملا في سفينة، فلمّا وصلا إلى عانات تُوَفّي محمد، فأطلق عنه قيده، وصلّى عليه أبي.
وقال حنبل: قال أبو عبد الله: ما رأيتُ أحدًا على حداثة سِنّهِ وقدر عِلْمه أَقْوَم بأمر الله من محمد بن نوح. وإنّي لأرجو أن يكون قد خُتِم له بخير. قال لي ذات يوم: يا أبا عبد الله، الله، الله، إنّك لستَ مثلي، أنت رجل يُقْتَدى بك، قد مَدَّ الخلْق أعناقهم إليك لما يكون منك. فاتَّقِ الله واثْبت لأمرِ الله. أو نحو هذا. فمات وصلَّيت عليه ودفنته. أظنّه قال: بعانة.
قال صالح: وصار أبي إلى بغداد مقيَّدًا، فمكث بالياسريّة أيّامًا، ثمّ حُبِس في دارٍ اكْتُرِيَتْ له عند دار عُمارة، ثمّ نُقِل بعد ذلك إلى حبْس العامّة في درب المَوْصِليّة، فقال أبي: كنتُ أصلّي بأهل السّجن وأنا مقيّد. فلمّا كان في رمضان سنة تسع عشرة حُوِّلْتُ إلى دار إسحاق بن إبراهيم.
وأمّا حنبل بن إسحاق فقال: حُبس أبو عبد الله في دار عُمارة ببغداد في إسطبلٍ لمحمد بن إبراهيم أخي إسحاق بن إبراهيم، وكان في حبْسٍ ضيّق؛ ومرِض في رمضان، فحُبِس في ذلك الحبْس قليلا، ثم حُوِّل إلى سجن العامّة، فمكث في السّجن نحوًا من ثلاثين شهرًا، فكنّا نأتيه. وقرأ عليَّ كتاب الإرجاء وغيره في الحبس، ورأيته يصلّي بأهل الحبْس وعليه القيد، فكان يُخْرج رِجْله من حلقة القيد وقت الصّلاة والنّوم.
رَجَعْنَا إِلَى مَا حَكَاهُ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ، عن أبيه، فَكَانَ يُوجَّهُ إِلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ بِرَجُلَيْنِ، أَحَدُهُمَا يُقَالُ لَهُ: أَحْمَدُ بْنُ رَبَاحٍ، وَالْآخَرُ أَبُو شُعَيْبٍ الْحَجَّامُ، فَلَا يَزَالانِ يُنَاظِرَانِي حَتَّى إِذَا أَرَادَا الانْصِرَافَ دُعِيَ بِقَيدٍ، فَزِيدَ فِي قُيُودِي. قَالَ: فَصَارَ فِي رِجْلِهِ أَرْبَعَةُ أَقْيَادٍ. قَالَ أَبِي: فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ دَخَلَ عَلَيَّ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ فَنَاظَرَنِي، فَقُلْتُ لَهُ: مَا تَقُولُ في علم الله؟ قال: علم الله مخلوق. [ص:1038]
فَقُلْتُ لَهُ: كَفَرْتَ. فَقَالَ الرَّسُولُ الَّذِي كَانَ يَحْضُرُ مِنْ قِبَلِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: إِنَّ هَذَا رَسُولُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ هَذَا قَدْ كَفَرَ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةِ وَجَّهَ، يَعْنِي الْمُعْتَصَمِ بِبُغَا الَّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ الْكَبِيرُ، إِلَى إِسْحَاقَ، فَأَمَرَهُ بِحَمْلِي إِلَيْهِ. فَأَدُخِلْتُ عَلَى إِسْحَاقَ فَقَالَ: يَا أَحَمْدُ، إِنَّهَا وَاللَّهِ نَفْسُكَ، إِنَّهُ لَا يَقْتُلُكَ بِالسَّيْفِ. إنه قد آلى إن لَمْ تُجِبْهُ أَنْ يَضْرِبَكَ ضَرْبًا بَعْدَ ضَرْبٍ، وَأَنْ يَقْتُلَكَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُرَى فِيهِ شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ. أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ عز وجل: " {إنا جعلناه قرآنا عَرَبِيًّا} [الزخرف 3]، " أَفَيَكُونُ مَجْعُولًا إِلَّا مَخْلُوقًا؟ فَقُلْتُ: قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل] " أَفَخَلَقَهُمْ؟ قَالَ: فَسَكَتَ فَلَمَّا صِرْنَا إِلَى الْمَوْضِعِ الْمَعْرُوفِ بِبَابِ الْبُسْتَانِ أُخْرِجْتُ وَجِيءَ بِدَابَّةٍ، فَحُمِلْتُ عَلَيْهَا وَعَلَيَّ الْأَقْيَادُ، مَا مَعِي أَحَدٌ يُمْسِكُنِي. فَكِدْتُ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنْ أَخِرَّ عَلَى وَجْهِي لِثِقَلِ الْقُيُودِ فَجِيءَ بِي إِلَى دَارِ المعتصم، فأدخلت حجرة، وأدخلت إلى بيت، وَأُقْفِلَ الْبَابُ عَلَيَّ، وَذَلِكَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ سِرَاجٌ. فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَمَسَّحَ لِلصَّلَاةِ، فَمَدَدْتُ يَدَيَّ، فَإِذَا أَنَا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ وَطَسْتٌ مَوْضُوعٌ، فَتَوَضَّأْتُ وَصَلَّيْتُ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَخْرَجْتُ تَكَّتِي مِنْ سَرَاوِيلِي، وَشَدَدْتُ بِهَا الْأَقْيَادَ أَحْمِلُهَا، وَعَطَفْتُ سَرَاوِيلِي. فَجَاءَ رَسُولُ الْمُعْتَصَمِ فَقَالَ: أَجِبْ. فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَدْخَلَنِي عَلَيْهِ، وَالتَّكَّةُ فِي يَدِي أَحْمِلُ بِهَا الْأَقْيَادَ. وَإِذَا هُوَ جَالِسٌ، وَابْنُ أَبِي دُؤَادٍ حَاضِرٌ، وَقَدْ جَمَعَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لِي، يَعْنِي الْمُعْتَصِمَ: ادْنُهُ، ادْنُهُ. فَلَمْ يَزَلْ يُدْنِينِي حَتَّى قَرُبْتُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ لِي: اجْلِسْ. فَجَلَسْتُ وَقَدْ أَثْقَلَتْنِي الْأَقْيَادُ، فَمَكَثْتُ قَلِيلًا ثُمَّ قُلْتُ: أَتَأْذَنُ لِي فِي الْكَلَامِ؟ فَقَالَ: تَكَلَّمْ. فَقُلْتُ: إِلَى مَا دَعَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ فَسَكَتَ هُنَيَّةً ثُمَّ قَالَ: إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَقُلْتُ: فَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. ثُمَّ قُلْتُ: إِنَّ جَدَّكَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوهُ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ محمدا رسول الله، وإقام الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُعْطُوا الْخُمْسَ مِنَ الْمَغْنَمِ. قَالَ أَبِي: قَالَ – يَعْنِي الْمُعْتَصِمَ – لَوْلَا أَنِّي وَجَدْتُكَ فِي يَدِ مَنْ كَانَ قَبْلِي ما عرضت لك. ثم قال: يا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنَ إِسْحَاقَ، أَلَمْ آمُرْكَ بِرَفْعِ [ص:1039] الْمِحْنَةِ؟ فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ إِنَّ فِي هَذَا لفرجا للمسلمين. ثم قال لهم: ناظروه، كلموه، يا عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَلِّمْهُ. فَقَالَ لِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ قُلْتُ لَهُ: مَا تقول في عِلْمِ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ. فَقَالَ لِي بَعْضُهُمْ: أَلَيْسَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد 16] " وَالْقُرْآنُ أَلَيْسَ هُوَ شَيْءٌ؟ فَقُلْتُ: قال الله: " {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} " [الأحقاف 25] فَدَمَّرَتْ إِلَّا مَا أَرَادَ اللَّهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء 2] أَفَيَكُونُ مُحْدَثٌ إِلَّا مَخْلُوقًا؟ فَقُلْتُ: قَالَ اللَّهُ: {ص والقرآن ذِي الذِّكْرِ} [ص] فَالذِّكْرُ هُوَ الْقُرْآنُ. وَتِلْكَ لَيْسَ فِيهَا أَلِفٌ وَلَامٌ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ عمران بن حصين أن الله خَلَقَ الذِّكْرَ. فَقُلْتُ: هَذَا خَطَأٌ، حَدَّثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الذِّكْرَ.
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ جَنَّةٍ وَلَا نَارٍ وَلَا سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ أَعْظَمَ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ». فَقُلْتُ: إِنَّمَا وَقَع الْخَلْقُ عَلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَلَمْ يَقَعْ عَلَى الْقُرْآنِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَدِيثُ خَبَّابٍ: «يَا هَنَتَاهْ، تَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ بِمَا اسْتَطَعْتَ فَإِنَّكَ لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كَلَامِهِ». قُلْتُ: هَكَذَا هُوَ.
قال صالح بن أحمد: وجعل ابن أبي دُؤَاد ينظر إلى أبي كالمُغْضَب، قال أبي: وكان يتكلَّم هذا، فأردّ عليه، ويتكلَّم هذا، فأردّ عليه، فإذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دُؤاد فيقول: يا أمير المؤمنين هو والله ضالّ مُضِلّ مُبْتَدِع، فيقول: كلِّموه، ناظروه، فيكلّمني هذا، فأّرد عليه، ويكلّمني هذا، فأردّ عليه، فإذا انقطعوا يقول لي المعتصم: ويْحك يا أحمد ما تقول؟ فأقول: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسول الله حتى أقول به، فيقول ابن أبي دؤاد: أنت لا تقول إلا ما في كتاب الله أو سنة رسول الله؟ فقلت له: تأوّلت تأويلا، فأنتَ أعلم، وما تأوّلتَ ما يُحْبَس عليه وما يُقَيَّد عليه.
قال حنبل: قال أبو عبد الله: لقد احتجّوا عليَّ بشيء ما يقوى قلبي ولا ينطلق لساني أنْ أحكيه. أنكروا الآثار، وما ظننتهم على هذا حتّى سمعتُ [ص:1040] مقالتهم، وجعلوا يرغون، يقول الخصم: كذا وكذا. فاحتججت عليهم بالقرآن بقوله: " {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم] " فذمَّ إبراهيم أباه بأن عبد مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ، وَلا يُغْنِي عنه شيئا، فهذا مُنْكَرٌ عندكم؟ فقالوا: شبَّه يا أمير المؤمنين، شبَّه يا أمير المؤمنين.
وقال محمد بن إبراهيم البُوشنْجيّ: حَدَّثَنِي بعض أصحابنا أنّ ابن أبي دؤاد أقبل على أحمد يكلمه فلم يلتفت إليه حتى قال المعتصم: يا أحمد ألا تُكلم أبا عبد الله؟ فقال أحمد: لست أعرفه من أهل العلم فأكلمه.
وقال صالح بن أحمد: وجعل ابن أبي دؤاد يقول: يا أمير المؤمنين، والله لئن أجابك لَهُو أحب إليَّ من مائة ألف دينار، ومائة ألف دينار، فيعد من ذلك ما شاء الله أن يَعُدّ، فقال المعتصم: والله لئن أجابني لأطلقنّ عنه بيدي، ولأركبنّ إليه بجُنْدي، ولأطأنّ عَقِبَه. ثمّ قال: يا أحمد، والله إنّي عليك لشَفيق، وإنّي لأشفق عليك كشفقتي على هارون ابني. ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئا من كتاب الله وسنة رسوله. فلمّا طال المجلس ضجر، وقال: قوموا. وحبسني، يعني عنده، وعبد الرَّحْمَن بْن إسحاق يكلمني. وقال: ويْحك أجِبْني. وقال: ما أعرفك، ألم تكن تأتينا؟ فقال له عبد الرَّحْمَن بْن إسحاق: يا أمير المؤمنين أعرفه منذ ثلاثين سنة يرى طاعتك والجهاد معك والحج. فيقول: والله إنّه لعالم، وإنّه لَفَقيه، وما يسوءني أن يكون معي يردّ عنّى أهل المِلَل. ثُمَّ قال لي: ما كنت تعرف صالحًا الرّشيديّ؟ قلت: قد سمعت باسمه. قال: كان مؤدبي، وكان فِي ذلك الموضع جالسًا، وأشار إلى ناحيةٍ من الدّار، فسألته عن القرآن فخالفني، فأمرت به فوطئ وسُحب. ثُمَّ قال: يا أحمد أجِبْني إلى شيءٍ لك فِيهِ أدنى فرج حَتَّى أطلق عنك بيدي. قلت: أعطُوني شيئًا من كتاب اللَّه وسنة رسوله. فطال المجلس وقام، ورُددت إلى الموضع الَّذِي كنتُ فِيهِ، فلمّا كان بعد المغرب وجّه إليّ رجلين من أصحاب ابن أبي دؤاد يبيتان عندي ويناظراني ويقيمان معي، حَتَّى إذا كان وقت الإفطار جيء بالطعام، ويجتهدان بي أن أُفِطر، فلا أفعل. ووجّه إليَّ المعتصم ابن أبي دؤاد في بعض الليل فقال: يقول لك أمير المؤمنين: ما تقول؟ فأردّ عليه نحوًا مما كنت أردّ. فقال ابن أبي دؤاد: والله لقد كتب اسَمك فِي السَّبْعة، يحيى بْن مَعِين، وغيره، فمحوته. [ص:1041]
ولقد ساءني أخْذُهم إيّاك. ثُمَّ يقول: إنّ أمير المؤمنين قد حلف أن يضربك ضربًا بعد ضرب، وأن يُلْقيك فِي موضعٍ لا ترى فِيهِ الشّمس، ويقول: إن أجابني جئت إليه حَتَّى أطلق عَنْهُ بيدي. وانصرفت، فلمّا أصبح جاء رسوله فأخذ بيدي حَتَّى ذهب بي إليه، فقال لهم: ناظروه وكلَّموه، فجعلوا يناظروني، فأردّ عليهم، فإذا جاءوا بشيء من الكلام ممّا ليس فِي الكتاب والسنة قلت: ما أدري ما هذا، قال: يقولون: يا أمير المؤمنين إذا توجهت له الحُجّة علينا ثبت. وإذا كلّمناه بشيءٍ يقول: لا أدري ما هذا. فقال: ناظروه. فقال رَجُل: يا أحمد أراك تذكر الحديث وتنتحله. قلت: ما تقول فِي {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء 11]؟ قال: خصّ اللَّه بها المؤمنين. قلت: ما تقول: إن كان قاتلا أو عبدًا؟ فسكت. وإنّما احتججت عليهم بهذا لأنّهم كانوا يحتجّون بظاهر القرآن، وحيث قال لي: أراك تنتحل الحديث احتججت بالقرآن. فلم يزالوا كذلك إلى قرب الزّوال فلمّا ضجر قال لهم: قوموا؛ وخلا بي وبعبد الرحمن بْن إسحاق. فلم يزل يكلّمني. ثُمَّ قال أبي: فقام ودخل، ورُددت إلى الموضع. قال: فلمّا كان فِي اللّيلة الثالثة قلت: خليقٌ أن يحدُث غدًا من أمري شيء، فقلت لبعض من كان معي الموكَّل بي: ارتَدْ لي خيطًا. فجاءني بخيط، فشددتُ به الأقياد، ورددتُ التّكّة إلى سراويلي مخافةَ أن يحدث من أمري شيء فأتعرّى.
فلمّا كان من الغد فِي اليوم الثّالث وجَّه إليَّ، فأُدْخلت، فإذا الدَّار غاصّة، فجعلت أدخل من موضعٍ إلى موضع، وقوم معهم السّيوف، وقوم معهم السّياط، وغير ذلك. ولم يكن فِي اليومين الماضيين كبيرٌ أحدٍ من هؤلاء. فلمّا انتهيت إليه قال: اقعد. ثُمَّ قال: ناظِروه، كلموه. فجعلوا يناظروني، ويتكلم هذا فأردّ عليه، ويتكلَّم هذا فأردّ عليه، وجعل صوتي يعلو أصواتهم، فجعل بعض مَن على رأسه قائم يومئ إليَّ بيده، فلمّا طال المجلس نحّاني، ثُمَّ خلا بهم. ثُمَّ نحّاهم وردّني إلى عنده فقال: ويْحك يا أحمد، أجبني حَتَّى أطلق عنك بيدي. فرددت عليه نحوا مما كنت أرد، فقال لي: عليك، وذكر اللَّعْن. وقال: خذوه واسحبوه وخلعوه. قال: فَسُحِبْتُ ثُمَّ خلعتُ. قال: وقد كان صار إليّ شعرٌ مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُمّ قميصي، فوجّه إليّ إسحاق بْن إبراهيم: ما هذا المصرور فِي كُمّ قميصك؟ قلت: شَعرٌ مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وسعى بعض القوم إلى القميص ليخرّقه عليّ، فقال لهم، يعني [ص:1042] المعتصم: لا تخرقوه. فنزع القميص عنّي. قال: فظننت أنه إنما درئ عن القميص الخرقَ بسبب الشَّعْر الَّذِي كان فيه.
قال: وجلس على كرسي؛ يعني المعتصم، ثُمَّ قال: العُقابين والسِّياط. فجيء بالعقابين، فَمُدَّت يداي، فقال بعض من حضَر خلفي: خُذْ ناتئ الخشبتين بيديك وشُدّ عليهما. فلم أفهم ما قال، فتخلّعت يداي.
وقال محمد بْن إبراهيم البُوشَنْجيّ: ذكروا أنّ المعتصم لان فِي أمر أحمد لما عُلّق فِي العُقابين، ورأى ثُبوته وتصميمه وصلابته فِي أمره، حَتَّى أغراه ابن أبي دُؤاد وقال له: إن تركْتَه قيل: إنّك تركت مذهبَ المأمون وسخطتَ قوله. فهاجه ذلك على ضربه.
قال صالح: قال أبي: لما جيء بالسياط نظر إليها المعتصم فقال: ائتوني بغيرها. ثُمَّ قال للجلادين: تقدَّموا. فجعل يتقدَّم إليَّ الرجل منهم فيضربني سوطين، فيقول: شد، قطع الله يدك، ثم يتنحى، ويتقدم الآخر فيضربني سَوْطين وهو يقول فِي كلّ ذلك: شدّ، قطع اللَّه يدك، فلمّا ضُربتُ تسعة عشر سوطا قام إلي، يعني المعتصم، فقال: يا أحمد، علامَ تقتل نفسك؟ إنّي والله عليك لَشَفيق. قال: فجعل عُجَيْف ينْخسني بقائمة سيفه وقال: أتريد أن تغلب هؤلاء كلَّهم، وجعل بعضهم يقول: ويْلك، الخليفة على رأسك قائم. وقال بعضهم: يا أميرَ المؤمنين دَمُهُ فِي عُنُقي، اقتُلْه. وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين أنت صائم وأنت فِي الشّمس قائم. فقال لي: ويْحك يا أحمد ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئا من كتاب الله أو سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقول به. فرجع وجلس، وقال للجلاد: تقدَّم وأوجع، قطع اللَّه يدك، ثُمَّ قام الثانية فجعل يقول: ويْحك يا أحمد أجِبْني. فجعلوا يُقْبلون عليَّ ويقولون: يا أحمد إمامك على رأسك قائم. وجعل عبد الرحمن يقول: مَن صنع مِن أصحابك فِي هذا الأمر ما تصنع؟ وجعل المعتصم يقول: ويْحك أجِبْني إلى شيءٍ لك فِيهِ أدنى فرج حَتَّى أطلق عنك بيدي. فقلت: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئا من كتاب الله فرجع. وقال للجلادين: تقدَّموا، فجعل الجلاد يتقدَّم ويضربني سَوْطين ويتنحّى، وهو في خلال ذلك يقول: شُدّ، قطع اللَّه يدك.
قال أبي: فذهب عقلي، فأفقت بعد ذلك، فإذا الأقياد قد أطلقت عني. فقال لي رَجُل ممّن حضر: إنّا كَبَبْناك على وجهك، وطرحنا على ظهرك بارية ودُسْناك. قال أبي: فما شعرت بذلك، وأتوني بسَوِيق فقالوا لي: اشرب وتقيأ. [ص:1043]
فقلت: لا أُفْطر. ثُمَّ جيء بي إلى دار إسحاق بْن إبراهيم، فحضرت صلاة الظُّهر، فتقدَّم ابن سماعة فصلّى، فلمّا انفتل من الصّلاة قال لي: صلّيتَ والدّم يسيل فِي ثوبك؟! فقلت: قد صلّى عُمَر وجرحه يَثْعَب دمًا.
قال صالح: ثُمَّ خلي عَنْهُ، فصار إلى منزله. وكان مَكْثه فِي السّجن منذ أُخِذ وحمل إلى أن ضُرِب وخُلّي عَنْهُ ثمانية وعشرين شهرًا. ولقد أخبرني أحد الرجلين اللَّذَين كانا معه قال: يا ابن أخي، رحمة اللَّه على أَبِي عبد الله، والله ما رَأَيْت أحدا يُشْبهه. ولقد جعلت أقول له فِي وقت ما يوجّه إلينا بالطّعام: يا أَبَا عبد الله، أنت صائم وأنت فِي موضع تقيّة. ولقد عطش، فقال لصاحب الشراب: ناولني. فناوله قدحًا فِيهِ ماء وثلج، فأخذه ونظر إليه هُنيّة ثُمَّ رده ولم يشرب، فجعلت أعجب من صبره على الجوع والعطش وهو فيما هُوَ فِيهِ من الهَول.
قال صالح: كنتُ ألتمس وأحتال أن أُوصِل إليه طعامًا أو رغيفًا فِي تلك الأيام، فلم أقدر. وأخبرني رَجُلٌ حضره أنّه تفقّده فِي هذه الأيام الثّلاثة وهم يناظرونه، فما لَحَن فِي كلمة. قال: وما ظننت أنّ أحدًا يكون فِي مثل شجاعته وشدّة قلبه.
وَقَالَ حَنْبَلٌ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: ذهبَ عقلي مرارًا، فكان إذا رُفِع عنّي الضَّرب رجعتُ إلى نفسي. وإذا استرخيت وسقطتُ رُفع الضَّرب. أصابني ذلك مرارا، ورأيته، يعني المعتصم، قاعدًا فِي الشمس بغير مِظَلّة، فسمعته وقد أَفَقْتُ يقول لابن أبي دؤاد: لقد ارتكبتَ فِي أمر هذا الرجل. فقال: يا أمير المؤمنين، إنّه والله كافر مشرك، قد أشرك من غير وجه. فلا يزال به حَتَّى يصرفه عمّا يريد. وقد كان أراد تخليتي بغير ضرب، فلم يدعْه ولا إسحاق بْن إبراهيم، وعزم حينئذٍ على ضرْبي.
قال حنبل: وبلغني أنّ المعتصم قال لابن أبي دؤاد بعدما ضُرِب أبو عبد الله: كم ضُرِبَ؟ فقال ابن أبي دُؤاد: نيّف وثلاثين أو أربعة وثلاثين سوطًا. وقال أبو عبد الله: قال لي إنسان ممّن كان: ثُمَّ ألقينا على صدرك بارية، وأكببناك على وجهك ودُسْناك. [ص:1044]
قال أبو الفضل عُبَيْد الله الزُّهْريّ: قال المروذي: قلت وأحمد بين الهنبازين: يا أستاذ، قال الله تعالى: " {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء 29]. " قال: يا مَرُّوذيّ، أخرج انظُر، فخرجت إلى رَحْبة دار الخليفة، فرأيت خَلْقًا لا يحصيهم إلا الله، والصُّحُف في أيديهم، والأقلام والمحابر. فقال لهم المَرُّوذيّ: أيّ شيء تعملون؟ قالوا: ننتظر ما يقول أحمد فنكتبه. فدخل إلى أحمد فأخبره، فقال: يا مَرُّوذيّ أضلّ هؤلاء كلُّهم؟
قلت: هذه حكاية منقطعة لا تصحّ.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن محمد بن الفضل الأسدي، قال: لمّا حُمِل أحمد ليُضْرَب جاءوا إلى بِشْر بن الحارث فقالوا: قد حُمِل أحمد بن حنبل وحُمِلت السِّياط، وقد وَجَبَ عليك أن تتكلَّم. فقال: تريدون منّي مقام الأنبياء؟ ليس ذا عندي. حفظ الله أحمد مِن بين يديه ومِن خلفه.
وقال الحسن بن محمد بن عثمان الفَسَويّ: حدَّثني داود بن عرفة، قال: حدثنا ميمون بن الأصْبغ، قال: كنت ببغداد، فسمعتُ ضجّة، فقلت: ما هذا؟ قالوا: أحمد يُمتحن. فأخذت مالا له خطر، فذهبت به إلى من يدخلني إلى المجلس، فأدخلوني، فإذا بالسّيوف قد جُرِّدت، وبالرماح قد رُكِّزت، وبالتِّراس قد صُفِّفت، وبالسِّياط قد طُرِحت، فألبسوني قِباءً أسود ومنطقة وسيفًا، ووقّفوني حيث أسمع الكلام. فأتى أمير المؤمنين، فجلس على كرسيّ، وأُتِيَ بأحمد بن حنبل، فقال له: وقرابتي مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأضربنّك بالسّياط، أو تقول كما أقول. ثم التفت إلى جلاد فقال: خُذْهُ إليك، فأخذه، فلمّا ضُرِب سوطًا قال: بسم الله. فلمّا ضُرِب الثّاني قَالَ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ. فلمّا ضُرِب الثّالث قال: القرآن كلام الله غير مخلوق. فلما ضرب الرابع قال: " {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة 51]. " فضربه تسعة وعشرين سوطًا. وكانت تكّة أحمد حاشية ثوب، فانقطعت، فنزل السّراويل إلى عانَتِه، فقلت: السّاعة ينهتك. فرمى بطرْفه إلى السّماء، وحرّك شفتيه، فما كان بأسرع من أن بقي السّراويل لم ينزل. فدخلت عليه بعد سبعة أيّام، فقلت: يا أبا عبد الله رأيتك وقد انحلّ سراويلك، فرفعت طرفك نحو السّماء، فما قلت؟ [ص:1045] قال: قلت: اللّهم إنّي أسألك باسمَك الّذي ملأت به العرش إنْ كنت تعلم أنّي علي الصّواب، فلا تَهْتِكْ لي ستْرًا.
وقال جعفر بن أحمد بن فارس الأصبهاني: حدثنا أحمد بن أبي عُبَيْد الله قال: قال أحمد بن الفَرَج: حضرت أحمد بن حنبل لمّا ضُرِب، فتقدّم أبو الدَّنّ فضربه بضعة عشر سَوطًا، فأقبل الدّم من أكتافه، وكان عليه سراويل، فانقطع خيطه، فنزل السراويل، فَلَحظْتُه وقد حرَّك شفتيه، فعاد السّراويل كما كان، فسألته عن ذلك فقال: قلت: إلهي وسيّدي، وقَفْتَني هذا الموقف، فَتَهْتِكُنِي على رُؤوُسِ الخَلائِقِ!
هذه حكاية لا تصحّ. ولقد ساق فيها أبو نُعَيْم الحافظ من الخُرافات والكذِب ما يُسْتحى من ذكره.
وأضعف منها ما رواه أبو نعيم في الحلية: حدثنا الحسين بن محمد، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن إبراهيم القاضي قال: حدثني أبو عبد الله الجوهري قال: حدثني يوسف بن يعقوب قال: سمعت عليّ بن محمد القُرَشيّ قال: لما قُدِّمَ أحمد ليُضْرب وجُرِّد وبقي في سراويله، فبينا هو يُضرب انحلّ سراويله، فجعل يحرّك شفتيه بشيء، فرأيت يدين خرجتا من تحته وهو يُضرب، فشدَّتا السّراويل. فلمّا فرغوا من الضَّرب قلنا له: ما كنتَ تقول؟ قال: قلت: يا من لا يعلم العرش منه أين هو إلا هو، إن كنتُ على الحق فلا تُبْدِ عورتي.
قلت: هذه مكذوبة ذكرتها للمعرفة. ذكرها البيهقيّ، وما جسر على تضعيفها. ثُمَّ روى بعدها حكاية في المحنة، عن أبي مسعود البَجَليّ إجازةً، عن ابن جَهْضَم، وهو كَذُوب، عن النّجّاد، عن ابن أبي العوّام الرّياحيّ، فيها من الركاكة والخبط ما لا يروج إلا على الْجُهّال. وفيها أنّ مئزره اضطّرب، فحرَّك شفتيه، فما استتمّ الدّعاء حتى رأيت كفّا من ذهب قد خرج من تحت مئزره بقُدرة الله، فصاحت العامّة.
وقال محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة: سمعتُ شاباص التّائب يقول: [ص:1046] لقد ضربت أحمد بن حنبل ثمانين سوطًا، لو ضربتُه فيلا لَهَدَّتُه.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: قال إبراهيم بن الحارث العُباديّ: قال أبو محمد الطُّفاويّ لأحمد: يا أبا عبد الله، أَخْبِرْنِي عما صَنَعوا بك، قال: لمّا ضُرِبت جاء ذاك الطّويل اللّحية، يعني عُجَيفًا، فضربني بقائم سيفه فقلت: جاء الفَرَج يُضرب عنقي وأستريح. فقال ابن سماعة: يا أمير المؤمنين اضرب عُنقه، ودَمُهُ في رقبتي. قال ابن أبي دُؤاد: لا يا أمير المؤمنين، لا تفعل، فإنّه إن قُتِل أو مات في دارك قال النّاس: صبر حتّى قتل، واتّخذوه إمامًا، وثبتوا على ما هم عليه. ولكن أطلقه الساعة، فإنْ مات خارجًا من منزلك شكّ النّاس في أمره.
قال ابن أبي حاتم: وسمعت أبا زرعة يقول: دعا المعتصم بعمّ أحمد بن حنبل ثم قال للناس: تعرفونه؟ قالوا: نعم، هو أحمد بن حنبل. قال: فانظروا إليه أليس هو صحيح البدن؟ قالوا: نعم. ولولا أنّه فعل ذلك لكنتُ أخاف أن يقع شيء لا يُقام له، قال: فلمّا قال: قد سلّمته إليكم صحيح البَدَن. هَدأ النّاس وسكنوا.
قال صالح: صار أبي إلى المنزل ووجّه إليه من السِّحَر من يُبْصر الضرب والجراحات ويعالج منها. فنظر إليه فقال لنا: والله لقد رأيت مَن ضُرِب ألف سوط، ما رأيت ضربًا أشدّ من هذا. لقد جرّ عليه من خلفه ومن قُدّامه، ثُمَّ أدخل ميلا في بعض تلك الجراحات وقال: لم ينقب. فجعل يأتيه ويعالجه، وكان قد أصاب وجهه غير ضربة؛ ثم مكث يعالجه ما شاء الله. ثم قال: إن هاهنا شيئًا أريد أن أقطعه. فجاء بحديدة، فجعل يعلق اللّحم بها ويقطعه بسكّين، وهو صابر يحمد الله، فبرأ. ولم يزل يتوجّع من مواضع منه. وكان أثر الضرب بيّنا في ظهره إلى أن تُوُفّي.
وسمعت أبي يقول: والله لقد أعطيتُ المجهود من نفسي، وودِدْتُ أنّي أنجو مِنْ هَذَا الأَمْرِ كَفَافًا لا عَلَيَّ وَلا لي. ودخلت على أبي يومًا فقلت له: بلغني [ص:1047] أنّ رجلا جاء إلى فضل الأنْماطيّ فقال له: اجعلني في حل إذ لم أقم بنُصْرتك. فقال فضل: لا جعلت أحدًا في حِلّ، فتبسّم أبي وسكت. فلمّا كان بعد أيّام قال: مررت بهذه الآية: " {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى 40] " فنظرت في تفسيرها، فإذا هو ما حَدَّثَنِي أبو النضر قال: حدثنا ابن فضالة المبارك، قال: حَدَّثَنِي من سمع الحَسَن يقول: إذا جَثَتِ الأمم بين يدي الله ربّ العالمين نودوا: ليقُم من أجرُه على الله. فلا يقوم إلا من عفا في الدّنيا، قال أبي: فجعلت الميت في حِلّ من ضربه إيايّ. ثُمَّ جعل يقول: وما علي رجل ألا يعذّب الله بسببه أحدًا.
وقال حنبل بن إسحاق: لمّا أمر المعتصم بتخلية أبي عبد الله خلع عليه مُبطّنة وقميصًا وطيلسانًا وخُفًّا وقَلَنْسُوَة، فبينا نحن على باب الدّار والنّاس في الميدان والدُّرُوب وغيرها، وأُغلقت الأسواق، إذ خرج أبو عبد الله على دابة من دار أبي إسحاق المعتصم، وعليه تلك الثّياب، وابن أبي دُؤاد عن يمينه، وإسحاق بن إبراهيم، يعني نائب بغداد، عن يساره، فلمّا صار في دِهْليز المعتصم قبل أن يخرج قال لهم ابن أبي دُؤاد: اكشفوا رأسه. فكشفوه، يعني من الطيلسان، وذهبوا يأخذون به ناحية الميدان نحو طريق الحبس. فقال لهم إسحاق: خذوا به هاهنا، يريد دِجْلة. فَذُهب به إلى الزَّورق، وحُمِل إلى دار إسحاق، وأقام عنده إلى أن صُلِّيت الظُّهْر. وبعث إلى أبي وإلى جيراننا ومشايخ المحالّ، فجُمِعوا وأدخِلوا عليه، فقال لهم: هذا أحمد بن حنبل إن كان فيكم من يَعرفه، وإلا فلْيعرفه.
وقال ابن سماعة حين دخل الجماعة: هذا أحمد بن حنبل، فإنّ أمير المؤمنين ناظَرَه في أمره، وقد خلّي سبيله، وها هو ذا. فأُخرج على دابّة لإسحاق بن إبراهيم عند غروب الشّمس، فصار إلى منزله ومعه السلطان والناس، وهو منحنٍ. فلمّا ذهب لينزل احتضنْتُه ولم أعلم، فوقعت يدي على موضع الضَّرْب فصاح، فنحّيت يدي، فنزل متوكِّئا عليّ، وأغلق الباب ودخلنا معه، ورمى بنفسه على وجهه لا يقدر يتحرّك إلا بجهد، وخلع ما كان خلع عليه، فأمر به فبيع، وأخذ ثمنه وتصدق به. وكان المعتصم أمر إسحاق بن إبراهيم أن لا يقطع عنه خبره، وذلك أنّه تُرِك فيما حُكي لنا عند الإياس منه. وبَلَغَنا أن المعتصم ندم وأُسقط في يده حتى صلح. فكان صاحب خبر إسحاق يأتينا كل يوم يتعرف خبره حتى صح، وبقيت إبهاماه منخلعتين يضربان عليه في [ص:1048] البرد حتّى يُسَخّن له الماء. ولمّا أردنا علاجه خِفنا أن يدسّ ابن أبي دُؤاد سما إلى المعالج، فعملنا الدواء والمرهم في منزلنا. وسمعته يقول: كلّ من ذكرني في حِلّ إلا مبتدع. وقد جعلت أبا إسحاق، يعني المعتصم، في حِلّ. ورأيت الله تعالى يقول: " {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور 22] " وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بكر بالعفو في قصّة مِسْطح. قال أبو عبد الله: العفو أفضل، وما ينفعك أن يعذب أخوك المسلم في سببك



يجزيك الله ألف خير على هالمقال المفيد اللي عنوانه مقصده أنا . ماإلي الا اقول لك جزاك الله الجنه وجعلنا من العافين عن الناس .



ردي عالخااااااااص بلييييييز



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.