الإعجاب بالنفس والغرور مفتاح لكل أبواب الشرور
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم .
أما بعد:
لقد ذم الله تعالى الإعجاب بالنفس وجعله من محبطات الأعمال ، وأن الإعجاب بالنفس لا يغني من الله شيئا ، قال سبحانه وتعالى:{{ ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين }} [التوبة 25].
وغرور المرء بشخصيته يتأتى من إعجابه بنفسه وشكله ، أو بصورته وهيئته أو علمه وعمله ودينه أو قوته وجاهه ، أو سلطانه وجماله ، وهذا كله من وحي الشيطان الذي يعدهم ويمنيهم ، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا .
ولقد يعجل الله العقوبة للمعجب بنفسه المغرور بما عنده من الدنيا ، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :<< بينما رجل يتبختر في بردين وقد أعجبته نفسه خسف الله به الأرض فهو يتجلجل [1] فيها إلى يوم القيامة >>[2].
وإن الغرور والإعجاب بالنفس من المهلكات : وفي الحديث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:<< إذا سمعتم الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم >> [3] وقوله:<< أهلكهم >> جاءت بفتح الكاف على أنه فعل ماض ، بمعنى كان سببا في هلاكهم باعتلاله عليهم ، وسوء الظن بهم ، وتيئيسهم من روح الله تعالى ، وجاءت بضم الكاف أيضا ، والمعنى أشدهم وأسرعهم هلاكا بغروره وإعجابه بنفسه واتهامه لهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم ، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه وظنه أنه خير منهم .
قال إسحاق : فقلت لمالك : ما وجه هذا ؟ قال : هذا رجل حقر الناس وظن أنه خيرا منهم فقال هذا القول فهو أهلكهم ، أي أرذلهم ، وإما رجل حزن لما يرى من النقص من ذهاب أهل الخير فقال هذا القول ، فإني أرجو أن لا يكن به بأس [4].
وأن أبعد الناس من الدخول في دين الله ، وقبول النصيحة ، جاهل مغرور ، معجب بنفسه لأنه يرى نفسه على الصواب والناس حوله على باطل .
والغرور هو نوع جهل بالنفي يوجب اعتقاد الفاسد صحيحا ، والرديء جيدا، وسببه وجود شبهة أوجبت له الهلاك ، وفي الأثر :<< ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه .[5]
من أقوال السلف في العجب والغرور : قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : الهلاك في شيئين : العجب والقنوط ، وإنما جمع بينهما لأن السعادة لا تنال إلا بالطلب والتشمير، والقانط لا يطلب والمعجب يظن أنه قد ظفر بمراده فلا يسعى .[6].
وقال مطرف بن عبد الله رحمه: لأن أبيت نائما وأصبح نادما ، أحب إلي من أن أبيت قائما وأصبح معجبا .[7].
وقال ابن القيم رحمه الله:من رجا شيئا طلبه، ومن خاف شيئا هرب منه، ومن رجا الغفران مع الإصرار فهو مغرور.[8].
أين يكثر الغرور والإعجاب بالنفس؟يكثر العجب والاغترار عند خمسة أصناف منالناس [9] وهل الناس غير هؤلاء ؟ وكل من هذه الأصناف على نوعين ، نوع غرتهم الحياةالدنيا فقالوا : النقد خير من النسيئة ، والدنيا نقد والآخرة نسيئة ، وهذا محلالتلبيس عليهم ، ونوع آخر نظر إلى الآخرة فاجتمع لديهم الخوف والرجاء ، وهما سائقانيبعثان على العمل ، فسارعوا إلى العمل ومالا يبعث على العمل فهو غرور ، وهذا حالأكثر الخلق الذين غلّبوا جانب الرجاء الذي حملهم على البطالة وإيثار المعاصي.
والعجب أن القرن الأول عملوا وخافوا، ثم أهل هذا الزمان أمنوا مع التقصير واطمأنوا، أتراهم عرفوا من كرم الله تعالى ما لم يعرفه الأنبياء والصالحون، ولو كان هذا الأمر يدرك بالمنى، فلم تعب أولئك وكثر بكاؤهم .[10].
قال أبو محمد ابن حزم الأندلسي رحمه الله :[11] فصل في مداواة ذوي الأخلاق الفاسدة العجب . وهو فصل ماتع سأنقله باختصار .
قال رحمه الله : ومن امتحن بالعجب فليفكر في عيوبه ، فإن أعجب بفضائله فليفتش ما فيه من الأخلاق الدنيئة ، فإن خفيت عليه عيوبه جملة حتى أنه لا عيب فيه فليعلم أن مصيبته إلى الأبد ، وأنه أتم الناس نقصا ، وأعظمهم عيوبا ، وأضعفهم تميزا ، وأول ذلك أنه ضعيف العقل جاهل ، ولا عيب أشد من هذين ، لأن العاقل : هو من ميز عيوب نفسه فغالبها ، وسعى في قمعها ، والأحمق هو الذي يجهل عيوب نفسه ، إما لقلة علمه ، وتميزه وضعف فكرته ، وإما لأنه يقدر أن عيوبه خصال [12] وهذا أشد عيوب أهل الأرض ، وفي الناس كثير يفخرون بالزنى واللياطة [13 ] والسرقة والخمر ، والظلم ، فيعجب بتأتي هذه النجوس له ، وبقوته على هذه المخازي.
واعلم يقينا أنه لا يسلم أنسي من نقص ، حاشا الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين فمن خفيت عليه عيوب نفسه فقد سقط ، وصار من السخف والضعف والرذالة والخسة ، وضعف التميز والعقل وقلة الفهم ، بحيث لا يتخلف عنه متخلف من الأراذل ، وبحيث ليس تحته منزلة من الدناءة ، فليتدارك نفسه بالحث عن عيوبه ، والاشتغال بذلك عن الإعجاب بها ، وعن عيوب غيره التي لا تضره لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وما أدري لسماع عيوب الناس خصلة إلا الاتعاظ بما يسمع المرء منها فيجتنبها ، ويسعى في إزالة ما فيه منها بحول الله تعالى وقوته .
وأما النطق بعيوب الناس فعيب كبير لا يسوغ أصلا ، والواجب اجتنابه إلا في نصيحة من يتوقع عليه الأذى بمداخلة المعيب ، أو على سبيل تبكيت المعجب ، فقط في وجهه لا خلف ظهره .
ثم نقول للمعجب : ارجع إلى نفسك ،فإذا ميزت عيوبها فقد داويت عجبك .ولا تمثل بين نفسك وبين من هو أكثر عيوبا منها، فتستسهل الرذائل ، وتكون مقلدا لأهل الشر ، وقد ذم تقليد أهل الخير ؛ فكيف بتقليد أهل الشر ؟ لكن مثل بين نفسك وبين من هو أفضل منك. فحينئذ يتلف عجبك وتفيق من هذا الداء القبيح ، الذي يولد عليك الاستخفاف بالناس وسوء الظن بهم ، وفيهم بلا شك من هو خير منك ، فإذا استخفت بهم بغير حق استخفوا بك بحق لأن الله تعالى يقول :{{ وجزاء سيئة سيئةٌ مثلها }} [الشورى :40] فتولد في نفسك الاستخفاف بك ، بل على الحقيقة مع مقت الله عز وجل ، وطمس ما فيك من فضيلة.
فإن أعجبت بعقلك ، فكر في حل فكرة سوء تمر بخاطرك وفي أضاليل الأماني الطائفة بك ، فإنك تعلم نقص عقلك حينئذ .
وإن أعجبت بآرائك ، فتفكر في سقطاتك ولا تنسها ، وفي كل رأي قدرته صوابا فخرج بخلاف تقديرك ، وأصاب غيرك وأخطأت أنت ، فإنك إن فعلت ذلك فأقل أحوالك أن توازن سقوط رأيك بصوابه ، فتخرج لا لكَ ، ولا عليك ، والأغلب أنّ خطأك أكثر من صوابك ، وهكذا كل أحد من الناس بعد النبين صلوات الله عليهم.
وإن أعجبت بخيرك ، فتفكر في معاصيك وتقصيرك ، وفي معايبك وجُوهه ، فوالله لتجدن من ذلك ما يغلب على خيرك، ويعفى على حسناتك ، فليطل همك حينئذ وأبدل من العجب نقصا لنفسك.
وإن أعجبت بعلمك ، فاعلم أنه لا خصلة لكَ فيه ، وأنه موهبة من الله مجردة وهبك إياها ربك ، فلا تقابلها بما يسخطه ، فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها تولد عليك نسيان ما علمت وحفظت ، ولقد أخبرني عبد الملك بن طريف – وهو من أهل العلم والذكاء واعتدال الأحوال وصحة البحث – أنه كان ذا حظ من الحفظ عظيم لا يكاد يمر على سمعه شيء يحتاج إلى استعادته ، وأنه ركب البحر فمر به فيه هول شديد أنساه أكثر ما كان يحفظ ، وأخل بقوة حفظه إخلالا شديدا ، ولم يعاوده ذلك الذكاء بعد ، وأنا أصابتني علة فأفقت منها، وقد ذهب ما كنت أحفظ ، إلا ما لا قدر له يذكر ، فما عاودته إلا بعد أعوام .
واعلم أن كثيرا من أهل الحرص يجدون في القراءة والإنكباب على الدّرس والطلب ثم لا يرزقون منه حظا ، فليعلم ذو العلم أنه لو كان بالإنكباب وحده لكان غيره فوقه فصح أنه موهبة من الله تعالى فأي مكان للعجب هنا ؟ ما هذا إلا موضع تواضع ، وشكر لله تعالى واستزادة من نعمه ، واستعاذة من سلبها.
ثم تفكر أيضا في أن ما خفي عليك وجهلته من أنواع العلوم ، ثم من أصناف علمك الذي تختص به والذي أعجبت بنفاذك فيه؛ أكثر ممّا تعلم ُمن ذلك ، فاجعل مكان العجب استنقاصا لنفسك واستقصارا لها فهو أولى.
وتفكر فيمن كان أعلم منك تجدهم كثيرا ، فلتَهُن نفسك عندك حينئذ ، وتفكر في إخلالك بعلمك كثيرا ، وأنت لا تعمل بما علمت منه ، ولقد كان أسلم لك لو لم تكن عالما ، واعلم أن الجاهل حينئذ أعقل منك وأحسن حالا واعذر، فليسقط عجبك بالكلية .
ثم لعل علمك الذي تعجب بنفاذك فيه من العلوم المتأخرة التي لا كبير خصلة فيها كالشعر والفلسفة ، والعلوم التجريبية وما جرى مجراها ، وانظر حينئذ إلى من هو علمه أجل من علمك في مراتب الدنيا والآخرة فهون نفسك عليك .
وإن أعجبت بشجاعتك ، فتفكر فيمن هو أشجع منك ثم أنظر في تلك النجدة التي منحك الله تعالى ، فيما صرفتها فإن كنت صرفتها في معصية فأنت أحمق لأنك بذلت نفسك فيما ليس ثمنا لها ، وإن كنت صرفتها في طاعة فقد أفسدتها بعجبك ، ثم تفكر في زوالها عنك بالشيخوخة ، وأنك إن عشت فستصير من عداد العيال وكالصبي ضعفا . وعلى أني ما رأيت العجب في طائفة أقل منه في أهل الشجاعة ، واستدلت بذلك على نزاهة أنفسهم ورفعتها وعلوها .
وإن أعجبت بجاهك في دنياك ، فتفكر في مخالفيك وأندادك ونظرائك ، ولعلهم أخِسّاء ، وضعفاء سُقّاط ، فاعلم أنهم أمثالك فيما أنت فيه ، ولعلهم ممن يستحى من التشبه بهم لفرط رذالتهم وخساستهم في أنفسهم وأخلاقهم ، ومنابتهم ، فاستحصن بكل منزلة شاركك فيها من ذكر ، وإن كنت مالك الأرض كلها ولا مخالف عليك ، وهذا بعيد جدا في الإمكان ، فما نعلم أحدا ملك معمور الأرض كلها على قلته وضيق ساحته بالإضافة إلى غيرها ، فكيف إذا أضيف إلى ذلك الفلك المحيط ، فتفكر فيما قال ابن السماك للرشيد ، وقد دعا بحضرته بقدح فيه ماء ليشربه فقال له : يا أمير المؤمنين ، فلو منعت هذه الشربة بكم ترضى أن تشتريها ؟ فقال له الرشيد : بمكلي كله .قال يا أمير المؤمنين ، فلو منعت خروجها منك بكم كنت ترضى أن تفتدي من ذلك ؟ قال بملكي كله . فقال يا أمير المؤمنين ، أتغتبط بملك لا يساوي بولة ، ولا شربة ماء ؟ وصدق ابن السماك رحمه الله .
وإن كنت ملِك المسلمين كلهم ، فاعلم أن ملِك السودان وهو رجل أسود مكشوف العورة جاهل يملك أوسع من ملك فإن قلت : أنا أخذته بحق ، فلعمري ما أخذته بحق إذا استعملت فيه رذيلة العجب ، وإذا لم تعدل فيه فاستحي من حالك في رذالة ، لا حالة يجب العجب فيها .
وإن أعجبت بمالك ، فهذه أسوأ مراتب العجب ، فانظر في كل ساقط خسيس فهو أغنى منك فلا تغتبط بحالة يفوقك فيها من ذكرت .
واعلم أن عجبك بالمال حمق لأنه أحجار لا تنتفع بها إلا أن تخرجها عن ملك بنفقتها في وجهها فقط ، والمال أيضا غاد ورائح وربما زال عنك ورأيته بعينه في يد غيرك ولعل ذلك يكون عدوك فالعجب بمثل هذا سخف والثقة به غرور وضعف .
وإن أعجبت بحسنك ، فكر فيما يولد عليك ما نستحي نحن من إتيانه ، وتستحي أنت منه إذا ذهب عنك بدخولك في السن وفيما ذكرنا كفاية .
وإن أعجبت بمدح إخوانك ، فكر في ذم أعدائك إياك ، فحينئذ ينجلي عنك العجب ، فإن لم يكن لك عدو فلا خير فيك ، ولا منزلة اسقط من منزلة من لا عدو له ، فليست إلا منزلة من له لله تعالى عنده نعمة يحسد عليها – عافانا الله – فإن استحقرت عيوبك فكر فيها، ولو ظهرت إلى الناس ، و اطلاعهم عليها فحينئذ تخجل ، وتعرف قدر نقصك إن كان لك مسكة من تميز .
واعلم بأنك إن تعلمت كيفية تركيب الطبائع وتولد الخلاق من امتزاج عناصرها المحمولة في النفس، فستقف من ذلك وقوف يقين، على أن فضائلك لا خصلة لك فيها،وأنها منح من الله تعالى لو منحها غيرك لكان مثلك ، وأنك لو وكلت إلى نفسك لعجزت وهلكت فاجعل بدل عجبك بها شكرا لواهبك إياها، وإشفاقا من زوالها فقد تتغير الأخلاق الحميدة بالمرض وبالفقر ، وبالخوف ، وبالغضب وبالهرم ، وارحم من مُنعَ ما مُنحتَ ، ولا تتعرض لزوال ما بك من النعم بالمعاصي ؛ وهي الجرأة على واهبها تعالى ، وبأن تجعل لنفسك فيما وهبك خصلة أو حقا أنك استغنيت عن عصمته فتهلك عاجلا وآجلا .
وإن أعجبت بقوة جسمك ، فتفكر أن البغل والحمار والثور أقوى منك ؛ وأحمل للثقال ، وان أعجبت بخفتك فاعلم أن الكلب والأرنب يفوقانك في هذا الباب ، فمن العجب العجيب إعجاب ناطق بخصلة يفوقه فيها غير ناطق .
واعلم أنّ من قدّر في نفسه عُجبا أو ظنّ لها على سائر الناس فضلا ؛ فلينظر إلى صبره عندما يدهمُهُ همٌ أو نكبةٌ أو وجعٌ أو دُمَّلٌ أو مصيبةٌ ، فإن رأى نفسه قليلة الصبر فليعلم أن جميع أهل البلاء من المجذومين ، وغيرهم من الصابرين أفضل منه على تأخر طبقتهم في التميز ، وإن رأى نفسه صابرة فليعلم أنه لم يأت بشيء لم يسبق إليه ، بل هو إما متأخرا عنهم في ذلك أو مساوٍ لهم ولا مزيد.
ثم لينظر إلى سيرته وعدله أو جوره فيما خوله الله من نعمة أو مال أو أتباع أو صحة أو جاه ، فإن وجد نفسه مقصرة فيما يلزمه من الشكر لواهبه تعالى ، وجدها حائفة في العدل ، فليعلم أن أهل العدل والشكر والسيرة الحسنة من المخوّلين أكثر مما هو فيه ، وأفضل منه ، فإن رأى نفسه ملتزمة للعدل ، فالعدل بعيد عن العجب البتة ، لعلمه بموازين الأشياء ومقادير الأخلاق والتزامه التوسط الذي هو العدل بين الطرفين المذمومين، فإن أعجب فلم يعدل ،بل قد مال إلى جنابة الإفراط المذمومة .
واعلم أن التَّعسُّفَ وسوءَ الملكةِ ، لمن خولك الله تعالى أمره من رقيق أو رعية يدلان على خساسة النفس ، ودناءة الهمة ، وضعف العقل ، لأن العاقل الرفيع النفس العالي الهمة إنما يغالب أكفاءه في القوة ، ونظراءه في المنعة ، وأما الاستطالةُ على من لا يمكنه المعارضةُ فسقوطٌ في الطبع ، ورذالة في الخلق ، وعجز ومهانة ، ومن فعل ذلك فهو بمنزلة
من يتبجح بقتل جرد [14] ،أو بقتل برغوث أو بفرك قملة ، وحسبك بهذا ضعة وخساسة.
والعجب أصل يتفرع عنه التيه ، والزهو والتكبر والنخوة ، والتعالي، وهذه أسماء واقعة على معان متقاربة ، ولذلك صَعُبَ الفرقُ بينها على أكثر الناس ، فقد يكون العجب لفضيلة في المعجب ظاهرة ، فمن معجب بعمله فيكفهر ويتعلق على الناس ،[أي يتفاخر عليهم] ومن معجب بعلمه فيترفع ويتعالى ، ومن معجب برأيه فيزهو على غيره ، ومن
معجب بنفسه فيتيه ، ومن معجب بجاهه وعلو حاله فيتكبر وينتخي ، بمعنى يفتخر ويتعاظم .
وأقل مراتب العجب أن تراه يتوفر عن الضحك في مواضع ، وعن خفة الحركات ، وعن الكلام إلا فيما لا بد له منه من أمور دنياه ، وعيب هذا أقل من عيب غيره [15] .
علاج الغرور والإعجاب بالنفس.
فإن قيل : فما ذكرته من مداخل الغرور والإعجاب لا يكاد يسلم منه أحد ؟ فالجواب :أن مدار الآخرة على معنى واحد وهو علاج القلب وتقويمه من هذا الداء ، ولا يعجز عن ذلك إلا من لم تصدق نيته وطغى عليه الغرور.فقد يكون العجب دفينا في نفس المعجب حتى إذا حصل على أدنى جاه أو مال ، أو علم ، أو خصلة ظهر ذلك عليه ، وعجز عقله عن قمعه وستره ..
ولا يستطيع أن يدفع ذلك عنه إلا أن يهتم بأمر الآخرة كما يهتم بأمر الدنيا لينالها، وأكثر ، وقد فعل ذلك السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان، ويستعان على التخلص من الغرور والعجب بأربعة أشياء :
1- العقل : وهو النور الذي يكشف به حقائق الأشياء ، والتكريم الأصلي الذي يدرك به الإنسان الحق والباطل.وعليه أن يتفكر في الآيات الكثيرة التي خاطب الله فيها العقل ، فليروض نفسه عليها ، وليقرأ ما جاء في روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان البستي فهو مفيد .
2 – المعرفة – ويقصد بها العلم – وهي التي يعرف بها الإنسان ربه ،ونبيه ، ودينه ، ونفسه ، ودنياه ،وآخرته ، ولماذا خلق في هذا الوجود ؟فلا شك ان من عرف الحق والجزاء عليه سلبا وإيجابا ثوابا وعقابا خاف العواقب فترك الغرور والعجب بالنفس ، فازدراها واحتقرها .
3- الاستعانة على معرفة الدنيا والآخرة بذم الدنيا وذكر الموت، فإذا حصلت هذه المعرفة ثار من القلب بمعرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته ، فوقر فيه حب الله تعالى ،فتواضع وتذل له ، وبمعرفة الآخرة حبُ شدة الرغبة فيها ، وبمعرفة الدنيا حبُ شدة الرغبة عنها فيصير أهم أمور إليه ما يوصله إلى الله تعالى ، وينفعه في الآخرة وإذا غلبت هذه الإرادة على القلب، صحت نيته في الأمور كلها واندفع الغرور، وبطل سوء ظنه بالناس .[16].
4 – القراءة في سير السلف الصالح الماضين ، وكيف كانت معرفتهم بربهم ونبيهم ، وكيف كانت عبادتهم ، ورغبتهم الشديدة في الآخرة ، وزهدهم في الدنيا ، وصفاء سرائرهم ، وإخلاص نياتهم ، حتى مدحهم الله بذلك :{{لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأثابهم فتحا قريبا }} وقال :{{ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين ، والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم }} فمن عرف حال القوم وسار على نهجهم ونزع ما في قلبه من غل ،معترفا بسابقتهم وفضلهم ، موقرا للكبار وخاصة ذوي الفضل منهم ، معظما لحقوقهم ، محترما لمثله متجاوزا عنهم ، راحما لمن كان أصغر منه واضعا كل نصاب في نصابه ، وكل مقال في مقامه، فهذا قد عالج نفسه من العجب والغرور . والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
الهوامش.
1- يتجلجل : معناها يغوص في الأرض حين يخسف به – الجلجلة الحركة مع الصوت ،قال محمد فؤاد عبد الباقي اللؤلؤ والمرجان [ج3/46] يتجلجل أي يتحرك ، أو يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد ، ويندفع من شق إلى شق .
2- متفق عليه اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان [ح1351].
3- رواه مسلم [ح 6642- 6643 ] والبيهقي في كتابه الآداب [ص227].
4- الآداب للبيهق [227] وآفات اللسان للقحطاني [149].
5- أخرجه الخطيب في المشكاة [ج3/ 1416] قال الشيخ الألباني في التعليق عليه : الحديث حسن لطرقة ، وشواهده . وقال في الصحيحة :[ ج4/ 412] وبالجملة فالحديث بمجموع هذه الطرق حسن على أقل الدرجات – إن شاء الله – وبه جزم المنذري .
6- مختصر منهاج القاصدين [254].
7- مختصر منهاج القاصدين [254]و [259] بتصرف .
8- مدارج السالكين [ج2/ 58].
9- هم العباد،وأعظمهم شيوخ الطرق،والعلماء وطلبة العلم، وخاصة رؤساء الفرق، والحكام والملوك ، والصوفية والأغنياء .
10- مختصر منهاج القاصدين [254]و [259] بتصرف .
11- مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل لابن حزم [47 – 72].
12-[أي صفات حسنة ، والخصلة :الخلة ،فضيلة كانت أو رذيلة ،لكن قد غلب على الفضيلة كما في استعمال المصنف ].
13- [ لاطة جمع لوطي ، من لاط الرجل لواطا ، ولاوط، أي: عَمِل عَمَل قوم لوط ،الذين كانوا ياتون الرجال شهوة دون النساء فهد النسبة لفعلهم ، قال الليث : لوط كان نبيا بعثه الله إلى قومه فكذبوه ، وأحدثوا ما أحدثوا ، فاشتق الناس من اسمه فعلا لمن فَعَل فِعلَ قومه .[ اللسان مادة لوط ]ولم يرد – فيما أعلم – استعمال هذه النسبة في حديث
صحيح مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم ، لكن ثبت ذلك عن بعض الصحابة فيما قرأت ثم استعمله أئمة التفسير، والحديث ، والفقه ، واللغة وأدخلوه في مصنفاتهم ].
14- الجرذ : نوع من الفئران .
15- مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل لابن حزم ، تحقيق أبو حذيفة إبراهيم بن محمد [ص57-67] بتصرف .
16- مختصر منهاج القاصدين للمقدسي ، تحقيق زهير الشاويش [270-271] بتصرف
ومشكورة على الموضوع يا الغلا…
:sdgsdg:
موضوعك رائع