التصنيفات
منوعات

الجاذبيّة الإسلاميّة والطائفيّة

د. أسامة عثمان

تُرى، لماذا ينجذب كثير من أبناء الأمة إلى إفرازات الثقافة الغربيّة، من قبيل الديموقراطيّة، والدولة المدنيّة، والحريّات العامة، والعدالة، والمساواة، وغيرها؟ على الرغم من انبثاقها من رؤية للحياة مختلفة، عن رؤيتنا، وعلى الرغم من معرفة الكثيرين منهم بأن لكل مجتمع، سيرورته الثقافيّة والشعوريّة التي تحكمه، والتي تخضع لمساره التاريخي المتراكم، ولحظته الراهنة.

هل هو الانفصال عن بناء الأمّة الإسلاميّة الفكري بالكليّة؟ أو التخلّي عنه؟

قد يصحُّ ذلك على فئة من أولئك المنجذبين، لكنها، بالملاحظة، والاستقراء، قليلة، تلك التي تعادي الدين، أو تراه عاجزًا عن توفير معطيات فكريّة ضروريّة للحياة الإنسانيّة المعاصرة.

لكن الفئة الباقية ربما تكون انجذبت إلى تلك المفاهيم الغربيّة، لمَّا رأتها تلبي الحاجات الإنسانيّة الطامحة إلى الرقيّ في العلاقات، والتعالي على الرغبات الأنانيّة، والتعصّب الديني، والظلم، وغيرها.

فالإنسان مفطور على حبّ العدل، والسّلام، وينفر من الحدَّة، والتطرّف، وامتهان الإنسان؛ فهل افْتُقدتْ هذه المعاني المرغوبة في الخطاب الإسلامي المعاصر؟

ليس من الإنصاف القول بذلك، ولكن ثمة خطابات طغت على هذا الخطاب الإنساني، وليس بالضرورة أن يكون هذا الطغيان بسبب اتساع دائرة النشر لتلك الخطابات الطاغية، أو علامةً على كثرة المؤمنين بها، ولكن مثل هذا النوع من الخطابات الحادّة، والعنيفة والمتعصبة قادر، مهما ضاق نطاقُه، على لفت الأنظار، والرسوخ ببشاعة في الذاكرة والمخيلة. كذلك، فإن ما رافق هذا الخطاب، أو صدر عنه، من أعمال ماديّة ملموسة، كالقتل، والعنف المادي، يترك أثرًا بالغًا، ولا سيما، على أولئك البعيدين عن الخطاب الإسلامي الصحيح، والمتوازن.

ومن يستقري النصوص الشرعيّة، وسيرة النبي، عليه الصلاة والسلام، ومن يتفكّر في فلسفة الرسالة الإسلاميّة، يتوصّل، دون عناء، إلى الطبيعة الإنسانيّة القَارَّة في هذا الدين.

ومِنْ أعمِّ النصوص، وأدلِّها على حكمة الرسالة الإسلاميّة قولُه تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ). فالرسول والرسالة، بعقيدتها، وشريعتها، وبمقاصدها، محكومةٌ بالرحمة، ليس للعرب، وحدهم، ولا للمسلمين، ولكنها، رحمة للناس كافة، للإنسانيّة جمعاء، تريد لهم المصالح، وتدرأ عنهم المضار.

وأما الرسول الأعظم، وسيرته فغنيَّةٌ بالدلائل على تقدّم الإنساني على سواه، ومواقفُه تلك سطَّرها التاريخ، وخلَّدها تاريخُ الإنسانيّة، في أنصع صفحاته، وأبقاها… مِنْ تعامله مع الذين أخرجوه من بلده، وآذَوْه، واتّهموه بالسحر والجنون، وعرَّضوه لأنواع الإهانات، وهو النبي الشريف في نسبه، والرفيع في صفاته… فكانت عبارتُه الخالدة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".

وفي سيرته العطرة العديد من المواقف المضيئة بالإنسانيّة الرحيمة، حتى مع الأسرى، وحتى في الحرب، وهي أبعد ما تكون عن الرحمة، كما عنَّف أسامة بن زيد، حين قتل ذلك الرجل الذي نطق بالشهادتين؛ فقد أراد النبي الكريم، أن يرسي قاعدة في حسن الظن، وأنَّ الأصل حملُ الأمور على المَحْمل الحسن، والأخذ بالظاهر، دون المبالغة في التشدّد، وافتراض الخديعة… كان على أسامة أن يتلمس هذه الشهادة، فورًا، وأن ينعطف عن مشاعر الغضب السابقة التي تُولِّدها الحرب… فنزلت آية النساء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

وقد جاء في الأحاديث: (أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وآله وسلَّم ـ رأى ناسًا مجتمعين على شيء فسأل، فقالوا: هذه امرأة قتيلة، قال عليه السلام: ما كانت هذه لتقاتِل) فالقتال لمن يُقاتِل، ولا يُعمَّم بذاته، ولا بروحه… في المجتمعات، والحياة المجتمعيّة..

وثمة ما يربو على نطاق هذا المقال من حوادث عمليّة، وأقوال نبويّة شريفة، تؤكد معاني الإنسانيّة الكلية في هذه الشريعة، ومن الأقوال:(ما كان الرفق في شيء إلاّ زانه …الحديث

والحديث: حُرِّم على النار: كل هيّن ليّن سهل، قريب من الناس).

وهذه الحكمة التي جاءت الرسالة، والرسول لها، وهي الرحمة العامة، لا تنفصل عن فلسفة الإسلام ومبتغى عقيدته، إنها إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وفي ثنايا النور العلمُ والتفكيرُ، والرؤية الإرادية الحرة، غير المنصاعة للتقاليد، والموروثات، أو الأعراف الفاسدة المُكرَّسة.

هذا النور هو الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، هي الحاجة الراسخة، والدائمة، إلى الخالق المعبود: الله، عز وجلَّ…

والمسلم الذي رأى أنه اهتدى إلى هذا النور يريد بكل محبة أن يعمّمه، على أكبر قدر ممكن من الناس، لا يريد، ولا يرغب، في احتكاره، والاستئثار به، أو التفوّق به، على الناس، والاستعلاء عليهم.

ومَنْ لا يحب ذلك؛ فلا يُكرَه عليه، ولا يُفتن عن دينه، ولا يُضطهد، ولا يُهان، في معتقده، وإن كان ذلك، لا ينفي مجادلتَه بالتي هي أحسن، كلّما رغب، في ذلك، أو قَبِل به.

أما تلك المعاني الجاذبة من الثقافة الغربيّة المعاصرة فإن الإسلام ينطوي على تحقيق ما ترمي إليه، على أكمل وجه، ولو أنه خالفها في الاسم، أو في الإجراءات… فالدولة الإسلاميّة دولة إنسانيّة، وليست ثيوقراطيّة؛ فالحاكم يستمد سلطانه من الناس بالبيعة والرضا، ولا يدَّعي أنه ظلّ الله، على الأرض، ولا يترفع عن المحاسبة، والمساءلة.. دولة تأخذ بالمعطيات البشرية، ولا تحكمها طبقة من الكهنة، أو (أنصاف الآلهة)…

والعدالة الاجتماعيّة التي تسعى إلى تقليل الفوارق الاقتصاديّة بين الطبقات في المجتمع، وتهدف إلى تكافؤ الفرص… وقد جيء بها لتخفيف حدة الظلم الناشئ عن الرأسماليّة، هذه العدالة الاجتماعيّة جاء الإسلام بما هو أسمى منها، حين قامت تشريعاته، ابتداء على منع تكوُّن الطبقات، وعلى توزيع الثروة توزيعًا عادلاً..وحين لم تجعل العقيدة الإسلاميّة، ولا الفكرة الأساسيّة في الدين المالَ أساس التفاضل، بين الناس …

وقد يقول قائل: فما بالُ المحرّمات، والقيود التي يفرضها الإسلام، وتحدُّ من حرية الفرد؟

فنقول إن هذه الأحكام هي في الأغلب لمن آمن بعقيدة الإسلام، وارتضى الخضوع لأحكامه.. وفيما تبقى قوانين تسري على الجميع، بمن فيهم غير المسلمين الذين يعيشون في ظل الإسلام، ولا توجد دولة بلا قوانين تتفق ووجهة نظرها، تفرضها على الجميع، ولو لم يحملوا معتقدها.

ثم إن غالبيّة الناس، لا تستهويهم من الحضارة الغربيّة الحريّةَ المنحلة، بقدر ما يجذبهم احترامُ الإنسان، وتنفيذ القانون على الجميع، وتمكين المواطنين من المشاركة في الدولة والمجتمع، والمساءلة.. وكذلك يطمحون إلى عدالة في الثروات، وتكافؤ في فرص العمل، وفي التعليم… وما شابه.

وعلى هامش التوتر القائم في مصر، بين المسلمين وغيرهم، من الأقباط، فإن استحضار هذه المعاني الإنسانيّة العامة، واللازمة لكل أهل مصر، وغيرها، من شأنه أن يخفّف من استشعار الكراهية، أو التناقض؛ فثمّة ما يجمع، وما يهم الجميع تحقيقُه، وما يلمس البسطاء من الناس أثرَه…وكثيرًا ما ينسى الإنسان، إذا ما أسره موقف إنساني تلك الفروق، فليس بالضرورة أن تظل العلاقة محكومة بالمعتقد: تؤمن؛ فتكون مني، أو تكفر؛ فتكون ضدّي… هذا لا يعني الرضا بالكفر، ولا الكفّ عن دعوة من يتقبلها منهم.

وهذا لا يعني الاستغناء عن حلول للمشاكل المتراكمة، والجزئيّة، في العلاقة بغير المسلمين في مصر، ولكن، من منظور الخطاب الإسلامي، من الممكن تفعيل هذا الوجه الأساس من الإسلام، وهو الذي طالما كان الجاذب لغير المسلمين، من خلال سلوك المسلمين، ومواقفهم المتفرّدة، غير المأخوذة بردودّ الأفعال، ولا المحكومة بالنظرة الثأريّة، وهاجس التغلُّب؛ فالإسلام قوي بذاته، قبل أن يكون قويًّا بأبنائه، وهو يملك قدرة فائقة على التأثير، دون انفعال، أو تشدّد، أو معاملة بالمثل، ولو كان هذا المِثْل غير لائق.




جزاك الله كل خير ع المعلومات الرائعه
ليس جديد عليك التميز والابداع والرقى بمواضيعك فدآآئما مواضيعك بغايه الجمال والتميز وبها كل الابداع ….نستفيد ونتعلم منها الكثير الله لا يحرمنا من مواضيعك وتواجدك المميز بيننا مننتظره كل جديد لكِ

دمتي بحفظ الرحمن
خليجية




شكرا لكم



جزاك الله خيرا وبارك الله فيك



شكرلكم



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.