هذه المرحلة التي نعيشها وتعيشها الدعوة هي أخطر مرحلة مرت بها في التاريخ الحديث. وإن كنا في غفلة عما يراد بنا ويخطط لنا, فإن العالم من حولنا ليس غافلاً عنا, وإنما نحن نعتصم بحبل الله ونحن نتوكل عليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكلنا نثق بأن الله سوف ينصر هذا الدين, ويظهره على الدين كله ولو كره الأعداء من الكافرين والمنافقين والمجرمين والمرجفين.
ونحن بفضل الله نعيش بلا ريب صحوة إسلامية مباركة, وهذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بكل المعايير والموازين مهما تكالب الأعداء فهي يقظة عجيبة, وهي ما لم يكن أحد يتوقعه ولا يحسبه.
ولكن لا تزال الصحوة تعاني من عدم تكافؤ الجهد المبذول لدعوة المرأة وتربيتها مع الواجب تجاهها، والمسؤولية المنوطة بها، ولقد تأخرت الصحوة في دعوة المرأة مما جعل الثمرات المرجوة في هذا المجال لا تزال دون المستوى المأمول، إلا أنه علينا قياس هذا النجاح بالموارد المتاحة التي امتلكتها الصحوة وسخرتها لدعوة المرأة، لقد كانت إمكانيات محدودة وضئيلة ويمارس في حقها نوع من التضييق والإحجام، ويراد لها أن تكون بصورة تقليدية، مقارنة بالمجال الرحب المؤيد من قبل المفسدين، ومقارنة أيضا بما هو متاح للبرامج الدعوية في أوساط الشباب و الرجال.
ومع ذلك وبفضل الله نرها حققت نجاحا باهرا، واستطاعت الوقوف في وجه دعاوى التغريب والإفساد ومحاربة ذلك، مما أكسب الداعيات اليقين بالله تعالى والثقة بأنفسهن، وأصاب القوم بهزيمة نكراء وانهيار رهيب.
لكن سرعان ما فطنوا لذلك وأعدوا العدة وأجلبوا بخيلهم وركبهم، ولا نخوض فيما يطمحون ويسعون إليه، وإنما فيما يخصنا نحن في المواجهة، وما طرأ من متغيرات تتطلب منا الإعداد لها.
والجديد هنا أن المعارك السابقة كانت معركة غالب ومغلوب، منتصر ومهزوم، أما حاليا فهي معركة وجود أو لا وجود، ومن هنا فالاستماتة فيها لا بد أن تكون نهائية، وليس غريباً ولا خفياً ولا سراً أن نراهم يخططون بجد وبوضوح للتدخل بقضايا نساء المسلمين وبناتهم، بعد نصبوا أنفسهم المناضلين المحامين لهن.
وإن مما أفزعهم كما افزع أسيادهم، مظاهر الصحوة واليقظة التي أخذت طابعاً شعبياً وجماهيرياً، -وكما يقولون- أقظّت مضاجعهم.
فلا يسوغ لنا أن نظل على سابق عهدنا، فذلك النجاح كان مناسبا في مرحلة معينة، ونحن الآن أمام مرحلة جديدة، ينبغي أن نتفهما ونعيها ..!؟
إن مما يتعين علينا نحن الداعيات أولا؛ الارتقاء بالوعي في أوساط النساء ارتقاءا يتجاوز مجرد الشعور بأن هناك مؤامرة على المرأة، فمستوى الوعي في داخل مجتمع الصحوة لا يزال عاجزا نوعا ما عن استيعاب متغيرات العصر، ولا يزال متدنيا ودون التحديات، وخاصة في دائرة المرأة.
إن نرى المرأة التي تسمى بالمثقفة، أو الغير متدينة, تكتب في الصحف والمجلات، وتتحدث إلى المجتمع، وعبر القنوات الإعلامية، وربما بأسلوب مقنع وخبث يخفي وراءه عفن التغريب والإفساد، وربما وجدنا تلك المرأة فعلا لديها قراءات وإطلاعا واسعا، وانفتاحا على المجتمع. بينما الداعيات يفرضن بحق أنفسهن نوعا من العزلة، وفقدانا للتوازن بين واجب النفس وواجب الأمة، ويحصرن أنفسهن في إطار اجتماعي ضيق، في إطار الصالحات، ويتكلمن بخطاب دعوي قاصر في لغته ومحتواه.
إن الأمر يتطلب ضرورة أن يكون عملها وفكرها وتطلعاتها على مستوى نساء الأمة جميعاً، وهذا ما كان عليه الأسوة والقدوة نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة, وكذلك نسائهم فقد كن دعاة خير ويعرفن زمانهم، مع قلة الأخبار والاتصال، وقلة وسائل المعرفة والاطلاع، ومع ذلك فقد كانوا يحيطون بما تستدعي الحاجة أن يحيطوا به بحسب ما تقتضيه الدعوة في مرحلتها وفي طبيعتها.
والمرأة المسلمة اليوم أحوج ما تكون إلى تلك النماذج، التي تتكامل فيها جوانب الشخصية المسلمة، فتستطيع أن تعبد ربها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتقوم بالواجب على النفس، ثم تقوم بالواجب العام من الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم تعرف كيف توازن بين هذه الواجبات، وكيف توفق بين العلم وبين الدعوة، وكيف توائم بين العصر الذي يصعب استيعابه بأحداثه وبأفكاره وبآرائه وبين تاريخها وماضيها وتراثها، وبين العلم الشرعي وغيره من العلوم العصرية.
فكيف يكون للداعية المصلحة، التي تهدف لتغير وإصلاح الأمة أن تكون ذات نطاق محدود وضمن إطار ضيق واهتمام محصور؟؟!!.
وهذا مما يجعل رسالتنا الدعوية المقدمة للمرأة، – سواء كانت خطابا دعويا أو برنامجا عمليا-، محدودة المرامي، فغاية ما ترمي إليه نقل فئات وشرائح النساء والفتيات من دائرة الكفر إلى الإيمان بالله ومن المعصية إلى الاستقامة والصلاح من خلال التربية والتوجيه.
إن هذا الهدف هدف أصيل ومهم، ومن صميم منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وسيبقى هكذا،.
لكن تلافيا للقصور والتفريط، والإخلال برسالتنا الماثل في بعض الجوانب ينبغي أن نوسع من دائرة اهتماماتنا الدعوية، فنضم إلى هذا الهدف أهدافا أخرى أصيلة، تكمل جوانب النقص.
هناك شرائح من نساء المجتمع وهن الأكثر عدادا غير محسوبات على تيار وإطار الدعوة، نعم إنهن لا يحبذن أن يوصفن بأنهن متدينات، ولا يتحمسن لأي وصف يوحي بأنهن مصنفات في داخل هذا الإطار، لكنهن قريبات من الخير بدرجة كبيرة، فهن محافظات لا يرضين بالفساد والفجور. علينا استيعاب هذه الشريحة المحافظة التي ترابط في الدائرة الوسطى، حتى نكون أقرب إليها من أولئك المفسدين، وحتى نستفيد منها في خدمة الهموم الإصلاحية المشتركة، خدمة لقضايا الأمة؟
وفي المقابل نجد أن هذه الفئة تستغل من قبل الفساد وأهله، بوسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية النسائية التي تملك كثيرا من الخبرات والملكات الضرورية، تستغل في الغالب للإفساد والانفتاح أكثر من التعليم، ولا تسلم من مخالفات شرعية.
فلماذا لا يكون من برامج مؤسساتنا التربوية النسوية بأي شكل وتحت أي مسمى –دورات، برامج، أنشطة- نتناول قضايا البناء والإصلاح الاجتماعي، والتربية بمفهومها الواسع، ونتناول القضايا المتعلقة بالمرأة من حيث هي، بكافة أبعادها وجوانبها، من الناحية الاجتماعية والصحية والاستقرار النفسي والأسري باعتبار أنها تمس المرأة وتؤثر على تدينها واستقامتها، وبالتالي يمتد التأثير للمجتمع.
إنّنا حينما نقوم بذلك، نجد من يقول مستغرباً: أنتم لا تحسنون الحديث إلا في الحلال والحرام، وبيان الأحكام الفقهية كالطهارة والصلاة، إن هذه اللغة ليست لغتكم. ولستم من فرسان هذا الميدان. بل فرسانه أولئك الذين يهتمون ويتفاعلون مع قضايا المرأة.
إن مثل هذا المفهوم ليس بالغريب أن يصدر من عامة المجتمع، الذي ترسخت في ذهنه تلك النظرة. والسبب عائد إلى إيهامهم بأنهم أنصار المرأة، والمناضلون لأجل حقها الذي حصروه في قيادتها للسيارة، مع فقدان دور الصحوة في معالجة قضايا المرأة.
وعندها فلابدّ أن ندرك أهمية دورنا للقيام بخطاب دعوي وجهود ومشاريع عمليّة كفيلة بمحو وإزالة هذه النظرة من ذهن المجتمع، وتبرز دور الصحوة في معالجة قضايا المرأة على كافة الأصعدة، وفي جميع المجالات. وتستهدف المحافظة على الشريحة الثانية الواسعة التي تعيش في الوسط.
كما أنه يجب علينا ننطلق من الاحتياجات أكثر من الأخطاء والانحرافات، فالمرأة بحاجة لتناول قضيتها بصورة واسعة ومتكاملة، باعتبارها مربية ذات دور مهم، فهي تحتاج إلى تربية وبناء، حتى تعي الكثير عن هذا الدور، وتتعرف على القيام به.
والأمر الآخر مع تلك التوعية؛ الاعتناء بتربية وإعداد الداعيات.
فأي إمرأة تمارس الدعوة بحاجة إلى تربية وإعداد، بغض النظر عن الإطار الذي تنطلق منه.
إننا مطالبون بتقديم جهد تربوي، يعتني بالفتاة على أسس تربوية سليمة، فيبنيها بناءا صحيحا، حتى تكون مؤهلة للقيام بدورها في التربية والإصلاح.
فلابد لتحقيق الوعي وتربية الداعيات هو مراجعة خطابنا الدعوي وبرامجنا التربوية، بحيث ترموا لأهدافها.
فما زال المجتمع ينفتح على عوامل ومؤثرات كثيرة، فنحن مطالبون بالتعامل مع هذه المستجدات التي فرضت نفسها على الساحة، بزيادة مساحة الإقناع، وإيجاد رؤية واضحة للتعامل معها بواقعية وموضوعية، فقد تصبح مرتعا خصبا لدعاة تحرير المرأة، ومنطلقا لنشر فكرهم المشبوه.
كما علينا أن نتجاوز لغة الإملاء وأن نقلل من أسلوب التوجيه المباشر، فإن المرأة بحاجة إلى خطاب تشعر عند سماعه أنّه يتناسب مع ثقافتها، ويحترم عقلها، وطريقة تفكيرها، بعيداً عن أساليب الإملاء والإلزام.
إن الخطاب الدعوي السائد المتعلق بالمرأة يتسم بلغة وأسلوب يزيد من مساحة التركيز على العاطفة، مع قلة في الخطاب المنطقي والموضوعي المقنع.
والشريط الذي ينتشر اليومَ ويلقى رواجاً واسعاً، وإقبالا من المستمعين، هو الذي يخاطب العواطف ويلامسها، معتمداً على ملكات الصوت، كالنبرة وفنون الإلقاء ونحو ذلك، ويدعم أحياناً بقصة مؤثرة، قد تكون شاذة وغريبة. فهناك فرق بين قناعات الخطاب المنطقي الموضوعي الراسخة، وبين قناعات الخطاب العاطفي سريعة التلاشي والاضمحلال تزول بزوال المؤثر.
وفرق أيضا بين أن إبراز صورة مثالية، نطالب الناس أن يتطلعوا للإقتداء والتشبه بها، وبين أن نطالب المجتمع كله بالوصول إليها، ونجعلها محكا ومقياسا نحاكم به الناس. إن الصورة المثالية التي نرسمها، صورةٌ قد لا يطيقها كثيرٌ من الناس، مع أنّنا قد نعرف أنّهم في قرارة أنفسهم قد يتطلعون إليها. لكنّ التمنّيَ شيءٌ والتطبيق العمليّ شيءٌ آخر.
وهذا الأمر يدعونا إلى ضرورة إيجاد صياغة متوازنة، من أجل تقديم طرح واقعي وموضوعي يلائم حاجات المرأة بعيدا عن الإجحاف والخلل.
إننا غالبا في حديثنا للمرأة نقتصر على القضايا الخاصة بها، فمثلاً لو دعونا ضيفا ليتحدث أمام مجمع نسائي، في الغالب سيتحدث عن الحجاب، والسفور، وطاعة الزوج…وإلى آخر ذلك مما يخص المرأة، فيندر أن يأتي محاضر يتحدث عن الخشوع في الصلاة، أو عن السلوك والأخلاق كالإخلاص والتقوى وغيرها من الجوانب، التي لا تخص المرأة وإن كانت تعنيها بدرجة أساسية.
وكثيرا ما نبالغ، ونجعل الصغيرة كبيرة، ونجعل الذريعة حراما لذاتها. فلنقل عن المنكر انه منكر، ولنقل عن الذريعة أنها ذريعة، ولكن ينبغي ألا نبالغ في تصوير حجم المشكلة ومدى انتشارها، ولا في الحكم الشرعي المتعلق بها.
ودائما تأسرونا المظاهر ونخدع بها ونبني عليها أحكامنا واتهاماتنا، إن تلك المرأة التي تتشبه وتغير من خلق الله وترتكب بعض المعاصي الظاهرة والتي قد تنبذ وتحتقر من أخواتها الصالحات، ربما تكون محافظة على صلاتها وصيامها محصنة لفرجها مطيعة لزوجها يقال لها يوم القيامة: "ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت". وتلك الصالحة ربما تكون مقصرة في حق زوجها وأبنائها !!؟
ونشير لطابع جديد في هذه المرحلة وبالذات أنه لا مجال لإثارة مشكلات ومعارك على الساحة الإسلامية، لكن بقدر ما يتعرض المرجفون أو المخدوعون لتعمية مسيرة الصحوة الإسلامية، نوقفهم، ولا نوافقهم.
فالذي نريده هو أن هذه المرحلة تقتضي أن ندرأ عن هذه الصحوة الطيبة المباركة كل ما يعكر عليها مباركتها، ولذلك دائماً نركز أن يتحلين الداعيات بالحكمة، ويتحرين مناطات الأحكام، ومقاصد الشريعة، والموازنة بين الواجبات العامة والخاصة.
اعلم أن الموضوع أكبر حجما مني، والله الموفق
اللهم اجعل علمنا صالحا ولوجهك خالصا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.