على هامش المؤتمر الثالث للأوقاف، والذي انعقد في رحاب الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الأسبوع الماضي، تحدث الدكتور سلمان العودة في محاضرته عن الأسرة والعولمة، وكيف أن العولمة، في نظره "تشكل طوفاناً مدججاً بأحدث الأسلحة يحاول أن يأخذ من سلطة الدول وسلطة المجتمعات لصالح سلطة عالمية". ومما ذكره الدكتور العودة في محاضرته الجميلة أيضاً هو أن "الأسرة تحمي الإنسان من السهام الموجهة إليه" وأن "الأسرة المستقرة تكون وراء نجاح أفرادها". كما رأى كذلك "أن مفهوم الأسرة مفهوم متوازن لا يصالح شخصية الفرد لصالح الأسرة ولا يلغي الأسرة لصالح الفرد… غير أننا نجد أن كثيراً من مجتمعاتنا اليوم يغلب على الناس فيها روح تسلطية على الأولاد و البنات". كما ندد بسوء تعامل بعض الأفراد في الأسرة مع حيث قال: "آن الأوان لأن نغير ما يقوم به البعض من ازدراء الأنثى ولا بد أن نعرف أن لها شخصية.. وأن الإساءة لها هو نقص في الرجولة ونقيض المروءة والأخلاق".
بالتأكيد لم تكن هذه أول إشارة إلى ما يعتري بعض الأسر في مجتمعنا من تفكك وعنف يصل إلى حد هروب الفتيات من أسرهن وعنف الذكور على الإناث داخل الأسرة جسدياً ومعنوياً، لكنها كانت إشارة ذات مدلول كونها أتت من قبل الدكتور سلمان العودة وهو رجل دين يمثل رأيه وحديثه ثقلاً وانعكاساً تفاعلياً إيجابياً خاصة على الذكور في أسرنا. ومن المسلم به أنه عندما يتحدث رجال الدين عن واقع الأسرة السعودية ومشاكلها المعاصرة في ظل الانفتاح والعولمة فإن الحديث يحمل ثقلاً وتأثيراً أكبر وقد يكون مفصلياً في التصدي لظاهرة العنف الأسري الذي أصبح ظاهرة تحتاج لقوانين وجهات رسمية تتعامل معها بحزم وجدية. ومن الطبيعي أننا لا يمكننا الحديث عن أسرة مستقرة بينما تعصف حولنا حالات التمزق الأسري من طلاق وتشرد وتزداد في المجتمع حالات تعذيب الصغيرات والتي قد تصل إلى حد الموت كما حصل في حالات الطفلات البريئات "غصون" و"أريج" و"كلثوم" وغيرها من حالات التعذيب الوحشية.
واحدة من أعنف وأبشع هذه الحالات التي تداولها الإعلام مؤخراً هي حالة الطفلة "سعيدة" التي لم تجد من السعادة ذرة تبدد قلقها وتشردها. سعيدة لمن لم يعرف عن حالتها المأساوية هي فتاة في السادسة عشرة من عمرها، (وهي طفلة حسب التعريف القانوني) تعرضت لأبشع أنواع العنف الأسري وسوء المعاملة منذ كانت في الخامسة من عمرها. هربت من منزل والدها بعد أن لاقت أصنافا من العذاب من قبل زوجة أبيها وتعرضت للتحرش من قبل أبيها وإخوتها حسب ما روته لوسائل الإعلام منذ سنتين. هربت "سعيدة" إلى الشارع، والذي وضعها بدوره في دار الحماية. لم تجد الحماية في الدار كما كانت تتوقع. حاولت الانتحار ثماني عشرة مرة. في خضم معركتها مع البحث عن أسرة مستقرة قبلت بالزواج وهي في سن الرابعة عشرة. تزوجت تلك القاصر في هذا العمر المبكر بحثاً عن منفذ للسعادة والاستقرار الأسري لتصطدم بعنف الزوج الذي لم يجد فيها إلا وعاء للمتعة الجنسية، رافضاً حتى مجرد تحقيق غريزتها كي تكون أماً. حملت مرة أخرى فلم تجد مفراً من ذلك الزوج الرافض لفطرتها في الأمومة إلا الهرب إلى حيث استقرت في الشارع كما تقول، ووضعت طفلتها في الشارع في غياب المجتمع ومؤسسات الحماية عن معاناتها.
قصة سعيدة باختصار هي قصة فتاة لبست ثوب الشقاء منذ طفولتها لسببين: عدم وجود أسرة مستقرة ترعاها، وعدم وجود قوانين حماية ضد الإيذاء وهذا هو الأهم في نظري. فالعنف الأسري وحالات التشرد والهروب من الأسر ليست جديدة كما أنها ليست مقتصرة على مجتمعنا فقط. إلا أننا تأخرنا كثيراً في سن قوانين الحماية من الإيذاء وتفعيلها بشكل يمنع حالة مثل حالة سعيدة من التفاقم. ومن البدهي أن استمرار حالة اللامبالاة إزاء مثل هذه الحالات المفجعة هو مؤشر على فشلنا جميعاً في التعامل مع قضايا الأسرة ومشاكلها بشكل إنساني كريم.
وفي هذا الصدد فإن من الواجب الإشادة بمحاضرة الدكتور العودة كونها تصب في وجهة التثقيف المجتمعي بظاهرة انعدام الاستقرار الأسري وبأهمية مجابهتها، ونتطلع إلى أن تلقى هذه الظاهرة ما تستحقه من صدى في خطب الجمعة وأحاديث رجال الدين في المساجد والمدارس والإعلام. إلا أننا في الوقت نفسه نتطلع إلى دور أكبر من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية ودور الحماية. كما نتطلع إلى صدور نظام الحماية من الإيذاء من مجلس الشورى وتفعيله على الواقع. فمن غير المقبول شرعاً أو إنسانياً أو حضارياً أن تستمر حالات الظلم والإيذاء دون رادع قانوني صارم. ومؤسسة الزواج، كما يقول الدكتور العودة بحاجة إلى إنقاذ وهذا يتطلب جهوداً كبيرة والتزاما من قبل الدولة والأفراد. ولعل طرح الدكتور العودة يدشن لمرحلة جديدة في خطاب رجال الدين بحيث يصبح الخطاب الديني منطلقاً من اعتبارات وقضايا إنسانية في طرحه مثل حالات العنف الأسري وتشرد الأطفال وزواج القاصرات بدل التركيز على التخويف والترهيب والسيطرة الشكلية على المجتمع. قد تكون قصة "سعيدة" هذه مبالغا في بعض جوانبها نظراً للحالة النفسية المضطربة التي وصلت إليها والتي بدت واضحة لمن يستمع إليها، ولكن هناك بكل تأكيد كثيرات مثل "سعيدة" لم يجدن طعماً للسعادة في بيوت تفتقر إلى أبسط وسائل الأمان لكي تكون مصدراً لاستقرار أفرادها بينما يشدد المجتمع على أهمية الترابط الأسري والأسرة المستقرة.
مشكوره قلبي