المطبخ الهندي أحد أعرق وأهم المطابخ المعروفة حول العالم، التي أثرت تاريخيا في الكثير من المطابخ الأخرى في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا وأميركا بعد الحربين العالميتين القرن الماضي. ولمعرفة حجم هذا التأثير لا بد من إلقاء نظرة على الأرقام التي تشير إلى أن المطاعم الهندية في بريطانيا وحدها تطعم
كما يعرف المطبخ الهندي جيدا في جنوب شرقي أسيا، وله تأثير كبير على المطبخ الماليزي منذ سنوات طويلة. والحال نفسها مع المطابخ الفيتنامية والإندونيسية والتايلاندية. ولطالما اعتبر انتشار المآكل النباتية في هذه البلدان نتيجة انتشار الفلسفة البوذية في الهند منذ قديم الزمان.
وبالطبع، ينطبق الأمر على العالم العربي، إذ يحب العرب بشكل عام الأكل الهندي وهناك الكثير من المآكل العربية والاستخدامات المطبخية الهندية الأصل حتى أسماء بعض أنواع البهارات والتوابل وغيرها.
وأشهر ما في المطبخ الهندي في المطاعم بالخارج هو طبق ال«كاري» (curry) بالطبع لطعمه الحار القوي. ولا تقل شهرة الكاري عن شهرة البيتزا أو الهامبرغر. ويقال إن اسم الكاري يعني «صلصة». ومع هذا يقال إن هناك الكثير من الأطباق المعروفة في عالم الكاري كأطباق ال«تندوري» (مثل «تشيكن تيك» Chicken tikka) لا تعود إلى أصول هندية. فمثلا هذا الطبق المشهور جدا من أصول بنجابية، وقد انتشر منذ فترة طويلة في جنوب أسيا. وهو عبارة عن قطع من الدجاج الخالي من العظام منقوعة ومغموسة في البن والبهارات والفلفل الحار، تطبخ في فرن «التندور» المصنوع من الطين. وتعني كلمة «تيكا» «قطع صغيرة». وفضلا عن أن أهل البنجاب يستخدمون حاليا لحم الدجاج بالعظام، فإنهم أيضا يلجأون إلى شوي الدجاج أحيانا على الفحم. ويقدم الطبق عادة مع البصل والحامض والكزبرة. ويبدو أن العرب والأفغان والإيرانين يستخدمون أطباقا مشابهة وبأقل حدة من ناحية طعم الحار.
على أي حال، فإن المطبخ الهندي من المطابخ المعروفة بتقنياتها العالية والمهمة في استخدام عشرات الأنواع من التوابل والمطيبات والخضار الطازجة، ولهذا ربما تضم الهند أكبر عدد من النباتين في العالم. ويقال إن 35 في المائة من الهنود نباتيون وأقل من 30 في المائة يأكلون الحوم.
ومع هذا فإن المطبخ الهندي من أكثر المطابخ المتنوعة في العالم، وينقسم إلى عدة أقسام جغرافية، حسب المناطق والأقاليم، وحسب التقسيمات الإثنية أو العرقية. ومن المعروف جيدا أن الأفكار الدينية والفلسفية التقليدية، لعبت دورا كبيرا في تطور المطبخ الهندي. وقد تمكن المطبخ الهندي لبساطته من التأقلم مع الكثير من مطابخ الشرق الأوسط والقارة الأسيوية. وقد استلهم الطباخون الهنود الكثير من الأفكار الغربية أثناء الوجود البريطاني واستوعبوها في مطبخهم من دون أي ضجة. فالبندورة والفلفل الأحمر الحار والبطاطا والقرع من العناصر الغذائية الجديدة التي تبناها الهنود من العرب والإيرانين والأوروبين لاحقا واعتبروها جزءا لا يتجزأ من طعامهم اليومي.
ويبدو أن الهجرات الكثيرة التي كانت تحدث بين شتى الأقاليم ومع البلدان المحاذية عبر التاريخ لعبت دورا كبيرا في إغناء المطبخ الهندي، حيث أصبح في بعض المناطق مزيجا من مطابخ أخرى تماهت مع بعضها البعض لتحصل على هويتها الجديدة. كما ساهم التنوع الجغرافي والبيئي أو الزراعي في الهند أيضا في إغناء المطبخ الهندي وإعطائه مواصفاته الحالية الخاصة بالتنوع (من ناحية المواد والمكونات)، إذ مكن الطباخ من خيارات لا تحصى ولا تعد.
وبدأ مشوار المطبخ الهندي كما يبدو منذ 7000 سنة قبل الميلاد، مع استخدام السمسم والباذنجان. وبعد ذلك تم إدخال حب الهال ونبتة التورمريك (Turmeric) التي يستخدم مسحوقها لمنح الأطباق لونها الأصفر – البرتقالي الجميل، والفلفل الأسود الحار والخردل. وفي القرن السادس قبل الميلاد، (حيث كانت الهند مليئة بالأحراج) تشير الوثائق المتوفرة إلى أن الناس كانوا يجمعون بين حياة الصيد وحياة الزراعة وكانوا يعرفون بكثرة الفاكهة والخضار والحم والحبوب والألبان والجبن والعسل.
ومع الوقت، كما سبق أن ذكرنا، تحول الكثير من الهنود، بسبب انتشار الفلسفة الهندوسية ولاحقا البوذية، إلى نباتين، وتم لأسباب دينية وفلسفية تقسيم المواد أو الخضار أو الأطعمة إلى أقسام محددة تعتمد على تأثيرها على الجسم والعقل.
وأيام المد الإسلامي في القرن السابع، تطور المطبخ الهندي بشكل لم يسبق له مثيل، إذ أدخل المسلمون المرق المكثف أو الصلصة وما يعرف بأطباق ال«بيلاف» (من الأرز والخضار والحم أحيانا). والأهم من هذا أنهم أدخلوا ال«كباب» أو الحم المشوي والمشمش والدراقن والبطيخ والخوخ إلى الهند، ويعتبرون من مؤسسي مطبخ المغول الفاخر. ويبدو أن ما حدث في غرناطة في إسبانيا وعالمها المطبخي الباهر والفاخر والمذهل، حدث مع المغول في الهند، حيث انتشرت الأطباق الفاخرة والمتنوعة التي تجمع بين الخضار والحم في حلة ملكية نفيسة. ومن الأطباق التي انتشرت آنذاك وما زالت أشهر من نار على علم، هو طبق «البرياني» (Biryani) الذي يشمل لحم الغنم والتوابل وأرز الباسماتي الطيب الرائحة والمذاق. ويعود أصل الطبق إلى مدينة وأعيان حيدر أباد في الجنوب.
يعتمد المطبخ الهندي أولا على الأرز («أتا» بالهندي)، على أنواعه، وشتى أنواع الحبوب وخصوصا العدس الأحمر المعروف ب«ماسور» (masoor) والحمص البنغالي (chana) و«بازيلا الحمام» (pigeon pea) المعروف ب«تور» (toor) وفاصولياء أوراد السوداء الصغيرة. ويستخدم الهنود الزيت بكثرة كما هو معروف في صناعة أطباق الكاري وغيره. ويبدو أن المناطق الشمالية والغربية تلجأ إلى زيت جوز الطيب وفي المناطق الشرقية تلجأ إلى زيت الخردل أكثر من غيره، أما في الجنوب فيكثر استخدام زيت جوز الهند. لكن في السنوات الأخيرة تم دخول زيت دوار الشمس وزيت الصويا وسمنة زيت النبات على الخط، على الرغم من أن الكثير من الهنود لا يزالون يفضلون سمنتهم التقليدية المعروفة بال«غي» (ghee) (زبدة صافية). والأهم من هذا بالطبع التوابل أو البهارات بالدراج، وخصوصا الفلفل الحار على أنواعه وأشكاله: الخردل الأسود (rai) والكمون (jeera) ومسحوق التورمريك (manjal) والزنجبيل (inji) والكزبرة والثوم وخليط من التوابل مع مسحوق «غارام ماسالا» (وهو خليط أيضا من عدة توابل حارة وقوية حسب المنطقة ويعني الاسم حرفيا «توابل حارة») والنعناع والهال والزعفران والزهر وجوز الطيب وغيرها.
في المناطق الجنوبية يتم التركيز على الأرز والمخللات والاستخدام المكثف لجوز الهند وزيته وأوراق شجرة الكاري الحلوة المذاق.
ويعرف في الجنوب أنواع كاري «كوزامبو» (Kozhambu) التي تعتمد على الخضار والتوابل الحارة والتمر الهندي. ومن الأطباق الهندية التقليدية التي تعود إلى أصول جنوبية أيضا طبق «دوسا» (Dosa) المصنوع من الأرز والعدس، وخبز البوري (poori) المقلي بالسمن أو الزيت، بالإضافة إلى ما يعرف بال«باجي» (bhaji) وخلطة البصل المقلي المعروفة وهي نوع من أنواع ما يعرف بال«باكورا» (Pakora) في العربية والأردية. وهي أيضا خليط مقلي من التوابل والبصل أو القرنبيط أو البندورة أو الدجاج والبطاطا أو السبانخ وغيرها.
وعوضا عن البرياني، فإن مدينة أودوبي (Udupicuisine) في مقاطعة كرناتاكا، لها مطبخ خاص بها معروف في جميع المناطق، ويركز هذا المطبخ النباتي على أطباق الحبوب والخضار وخصوصا الفاصولياء والفاكهة، ويتبع هذا المطبخ تقاليد «الفيدا» (Vedic) الخاصة بالمآكل النباتية، ولذا لا يضم المطبخ على تنوعه أطباق الحوم أو الأسماك.
ويمكن القول إن كل منطقة أو مدينة في الجنوب لها مطبخها وذوقها الخاص بها من أندرا إلى تاميل إلى حيدر أباد وكيرالا.
أما في الشمال فيكثر استخدام الألبان والجبن وزبدة أو سمنة ال«غي» وجبنة ال«بانير» (Paneer)، بالإضافة إلى الزعفران والمكسرات والفلفل الحار لكن معظم الصلصات تعتمد على الحليب أو البن.
ويستخدم أهل الشمال ما يعرف بال«تاوا» (tawa) لصناعة خبز البراثا (paratha) المخلوط بالخضار والمقلي بالسمن، وخبز النان (Naan) أو خبز التنور العادي وال«كولشا» (Kulcha) المقلي والمخلوط بالبصل والتوابل والمطبوخ في أفران الفخار وخبز ال«بوري» نسبة إلى مدينة بوري القديمة وخبز ال«روتي» (Roti) الرقيق الذي يطبخ بسرعة على حديد التاوا.
ومهما يكن، فإن سكان الشمال يفضلون أيضا لحم الغنم والماعز على غيره من أنواع الحوم ويستخدمونه بكثرة. وهناك الكثير من الأطباق التي تعتمد عليه. كما يعود أصل فطيرة ال«ساموزا» (samosa) الحارة التي تضم الكثير من الخضار والتوابل – أحيانا الحم المفروم مع التوابل وهي معروفة جيدا من كأحد المآكل السريعة في لندن – إلى الشمال أيضا. كما يحب أهل الشمال العدس على أنواعه والحبوب بشكل عام والخضار والمخللات والحلاوة.
كم يعرف أهل الشمال ال«كباب» أو الحم المشوي الذي انتشر مع انتشار الإسلام في البلاد.
أما شرق الهند ومناطقه فهي معروفة بحلوياتها وسكاكرها ومعظم الوصفات من أصول بنغالية. ومن هذه الحلويات المعروفة جيدا حلوى «راسغولا» (Rasgulla)، وهي عبارة عن عجينة من الجبن والقطر وال«سانديش» (Sandesh) المصنوع من السكر وجوز الهند وال«كاهير» (Kheer) الذي يشبه الأرز بالحليب وال«رازابالي» (Rasabali) الذي يعتمد على الجبن أيضا.
وفي المناطق الشمالية الشرقية التي تشمل شمال البنغال، يختلف المطبخ هناك عن المطابخ الهندية الأخرى تماما، كما هو الحال مع طبيعة السكان والأقليات العرقية والتراث الشعبي والتقاليد واللغات المستخدمة. فهذه المناطق من المناطق التي ضمت إلى الهند أيام الإمبراطورية البريطانية وهي قريبة جدا من مينمار وأسام والصين نيبال وبوتان وبنغلاديش أيضا. وهذا يعني أن المطبخ في هذه المناطق أكثر ارتباطا بهذه الجذور من الجذور الهندية، وعلى سبيل المثال لا يستخدم السكان الفلفل الحار بنفس النسب وبنفس القوة التي تستخدمها المناطق الأخرى في شتى الأطباق وخصوصا الكاري، كما يفضل أهل هذه المناطق على العكس من غيرها لحم العجل المعروف ب«ياك».
ومهما يكن، فإن توابل الهند كما يؤكد المؤرخون غيرت مجرى التاريخ بطريقة أو بأخرى، إذ كانت من أهم المواد التجارية لقرون طويلة مع العالم الخارجي، وأدت التجارة مع أوروبا قديما إلى سيطرة التجار العرب على هذا القطاع المهم، الأمر الذي أزعج الأوروبين ودفعهم إلى إرسال الإسباني كريستوفر كولومبوس والبرتغالي فوسكا دا غاما لإيجاد طرق بحرية وبرية جديدة للإتجار مع الهند بشكل مباشر ومن دون تدخل العرب. وكما هو معروف أدت رحلات كولومبوس الكثيرة إلى اكتشاف ما يعرف بالعالم الجديد، أي أميركا، نهاية حكم المسلمين في غرناطة عام 1492.