في هذا الحديث بشارة عظيمة لأهلها المستحقّين لها، وهم الذين حقَّقوا التوحيد، وقاموا بواجب الألوهية، فلم يبخسوا من حق الله شيئًا ولم ينقصوه، وهو كتفسير لقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82].
فالظُّلم هو انتقاص الحق وعدم إتيانه كاملاً، قال تعالى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا [الكهف: 33].
ولا ينقص الإنسان الحق إلا ممن ينتقصه ويَهون عليه شأنُه، ولا يقصر في الواجب إلا حين يستخف بالآمر، أو يغفل عنه، أو يفضل عليه سواه، فضْلاً عن الإعراض والجحود، وجميعُ ذلك مِن أنواع الشِّرك على اختلاف مراتِبه.
فالذين صدَّقوا أقوالهم بالأعمال، ولَم يبْخسوا مِن حقِّ الله شيئًا، ولم يخلطوا إيمانهم بشيء من الشرك – قليلاً أو كثيرًا – لهم الأمن الصحيح مِن عذاب الله وسخطه في الدُّنيا والآخرة.
والآية أعمُّ بالبُشرى مِن هذا الحديث من جهة، والحديث أعم في الإثبات والنفي من جهة، فيه بيان حق الله على عباده، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا على الإطلاق، كما في آية أخرى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء: 36].
فإن لفظ "شيء" من العام الذي لا أعم منه، يتناول جميع الأشياء؛ قديمها وحديثها، وجوهرها وعرضها، وسائر الموجودات، وما سيوجد إلى الأبد من صامتٍ أو ناطق، حي أو ميت، سواء كان من الأجسام أو من الأرواح، أو منَ النظريات الفلسفيَّة أو المادية والأغراض النفعيَّة من كل ما يتألهه الإنسان أو يقصده وينشغل به أو ينشغف بحبه من دون الله، فإن جميع ذلك شِرْك مخالف لتوحيد العبادة الواجب على جميع الجن والإنس إخلاصُه لله، ولما كان الإشراك يدخل في الجميع لَم يقل الله ورسوله: ولا تشركوا به صنمًا أو فلانًا، وإنما قالا: ((لا تُشركوا به شيئًا)).
وذلك أنَّ عبادة الله هي غاية حبه وتعظيمه وإجلاله والخوف منه ورجاء مثوبته، فالحبُّ بدون خوف وتعظيم لا يُسمَّى عبادة تامَّة، والإنسان يُحب ولده والده، وزوجته وصديقه، وماله وطنه وعصبته، ولا يسمى عابدًا لشيء من ذلك حتى يعظمه ويقَدِّسه، ويجعله غايته ومنتهى قصْده.
أما إذا آثر شيئًا من ذلك وفضَّله على حُبِّ الله ورسوله والعمل في سبيله، كان فيه شيء من الشِّرك بحسب ما حصل من آثار ذلك ونتائجه، وإذا فضل العمل من أجل ذلك وقدَّمه على العمل لله، ازداد شركُه بحسب ما أخَّره من حق الله ولو لم ينقله عن الملَّة، ويخشى عليه إذا تمادى أو خالطه اعتقاد تفضيل العمل مِن أجل المادة والتصنيع، أو مِن أجل الوطن والعشيرة، أو من أجل المذهب أو المبدأ الذي ينتحله ويتبناه، فإنه حينئذٍ يكون مُشركًا مع الله غيره؛ لأن المتبني لهذه الأشياء، والعامل من أجلها، والمتوجه إليها – تلزمه طرائقه أن يسلك مسلكًا في الشؤون الاجتماعية مخالفًا لوحي الله وحكمه، فيكون قد اتخذ مع الله إلهًا آخر في أحواله الاجتماعية، أو يسلك في الشؤون الاقتصادية مسلكًا مخالفًا لحكم الله، فيكون قد جعل مع الله إلهًا آخر في الأمور الاقتصادية، أو يسلك في شؤونه السياسيَّة مسْلكًا مُخالفًا لملَّة إبراهيم التي أوجب الله اتِّباعها، فيكون قد جعل مع الله إلهًا آخر في الشؤون السياسية، ويجعل لنفسه الخيَرة في ميدان القضاء والتشريع، فيسن الأنظمة والقوانين المخالفة لما أنزل الله ويحكم بها، فيكون قد جعل مع الله إلهًا آخر في هذا الميدان؛ إذ جريمته أعظم من جريمة مَن حكَم بغير ما أنزل الله أو تحاكَم إلى الطاغوت، أو يسلك في أحوال السلم والحرب مسْلكًا مُخالفًا لشريعة سيد المرسلين؛ فيكون قد اتَّخذ مع الله إلهًا آخر في هذا الميدان، أو يتخذ بطانة من دون المؤمنين وَلِيجَة من دون الله ورسوله، زاعمًا أنهم أهدى سبيلاً؛ فيكون مُشركًا في هذا الميدان بذلك الاعتقاد، ونحو ذلك مما عمَّت به المصائب، وتشعبت طرق المفرطين والمتنطعين ممن يزعمون الإسلام، وهم قد عطلوا حكم الله، وعدلوا بالله غيره من أهوائهم وأئمتهم وزعمائهم في المذاهب والمبادئ والنظريات المبتعدة عن صراط الله المستقيم، فإن سلوك أي نوع منها، وانتهاج أي خطة، هو مخالف لتوحيد العبادة، ومُوقِع في حبائل الإشراك وأنواعه المختلفة، ومهما اختلفتِ الأسماء والشعارات والألقاب، فإنَّ العبرةَ بالحقيقة واقع الأمر؛ من مجانبة وحي الله، وتعطيل حكمه، وتفضيل غيره عليه في الحبِّ والانقياد والاندفاع من أجله كما هو مُشاهَد.
فمَن تدبَّر أحوال الناس في سائر الأزمنة والأمكنة من جميع الأمم والشُّعوب والجماعات والأفراد، عرَف قيمة هذا الحديث الشريف الذي هو من جوامع كلمه – صلى الله عليه وسلم – وعرف السبب الذي مِن أجْله كتب الله على نفْسه ذلك الحق، تكرُّمًا منه وفضلاً لِمن لَم يشركْ به شيئًا، وأن هذا الأمن العظيم منَ العذاب لا يناله إلا من لَم يسلك مسالك الظلم بانتقاص أي حق من حقوق الله، وأنه لا يقوم بحقِّ الله من إخلاص توحيد العبادة إلا من أخلص له المحبة والقصْد؛ ذلك أنَّ المحبَّة الصَّحيحة تستلزم مُوافقة المحبوب في جميع ما يُحبه ويبغضه، وما يرضيه ويسخطه، بأن يعمل ما يحبه محبوبه، ويهجر ما يبغضه أبدًا، ويرضى بما يرضاه محبوبه، ويسخط على كل ما يسخطه ويعاديه، وأن يسارع في مرْضاته وامتثال أوامره، وتنفيذ وصاياه ورغباته، متَشرفًا بما يسُره ويرضيه، متَنَعِّمًا بذلك صابرًا على ما يُلاقي فيه، وأن يحب أحبابه ويُواليهم ويُساندهم، ويُعادي أعداءه ويحاربهم ويقصيهم، وكذلك تستلزم المحبة من المحب إكرامَ رسول محبوبه وحسن التلقِّي عنه، فمَن لَم يكنْ في مُعاملته على هذه الحال، فإنه ليس صادقًا في محبته، كما هو معلوم بالعقل والوجدان.
فهذه شُرُوط المحبَّة ولوازمها التي لا تتحقَّق بدونها، بل تنقلب نفرة وعداوة إذا اختلتْ أو عكستْ حتى في شأن الإنسان المخلوق، فكيف بالخلاَّق العليم، مالك المُلك، ذي الجلال والإكرام، وصاحب الجود والفضل، ودائم المعروف والإحسان؟! وهو الذي يجب أن تكون محبته أعلى من كل شيء، وأغلى من كل شيء؛ بحيث لا يقدم المسلم ولا يُؤْثِر ولا يفضِّل شيئًا أبدًا على حبِّ الله ورسوله وطاعته وطاعة رسوله، والجهاد في سبيله بجميع ما أمكن من الطرق والوسائل، دون أن يعوقه عائقٌ عن ذلك، وأن يكون حبه لأي شيء من الأشياء لله وفي الله، لا أن يكون مع الله ومن دون الله، وإذا كان الحبُّ مع الله شِرْكًا، فكيف بمن يؤْثر وغير الله عليه في الحب والطاعة؟
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 23 – 24].
فمن فضَّل محبة شيء مِن هذه الأصناف الثمانية على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله، فقد أشرك في توحيد العبادة، وحرَم نفسه من الأمن الصحيح الذي نصَّ عليه الرسول في هذا الحديث.
ولَمَّا كانتْ عواقبُ الإخلال بعبودية الله وخيمة، وطرُق الإشْراك كثيرة مُتَشَعِّبة مُفسدة للقلوب والجوارح، ومُخلَّة بدعائم المجتمع الإنساني، حرَّم الله الجنَّة على مَنْ أشْرك به، وأوْجب عليه النار، وكَتَب على نفسه الأمن الصحيح لِمَن قام بعبوديته ولَم يشركْ به شيئًا مع الفوْز بجنات النَّعيم.
وفي هذا الحديث تنصيص على أنَّ العبادة هي التوحيد، الذي هو تحقيق "لا إله إلا الله"، المرَكَّبة من النفي والإثبات، والتي وقعت الخصومة في تحقيق مدْلولها بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وبين المشركين؛ لأنَّ مدْلولها يقتضي أن يكفر بكل ما سوى الله من آلهة مُخترعة؛ لتخلص العبادة له، وهو الذي خلق الخلق من أجلها.
وفي هذا الحديث – إضافة إلى ما تقدَّم منَ الفوائد – كتْمانه البُشرى عن الصحابة؛ خشية أن يتكل ضعفاء الفقه منهم فيتكاسلوا عن الجهاد؛ اعتمادًا على ما فيه، وجواز الكتمان للمصلحة، واستحباب بشارة المسلم بما يسرُّه، وتأكيد حق الله علينا، ومعرفة حقنا عليه الذي تكرم به إذا وفينا بعهده وأدَّينا حقه، وجواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض، والخوف مِن الاتكال على سعة رحمة الله، والتنويه بعِظَم هذه المسألة.
ومِنْ فوائدِه أيضًا بيان تواضُعه – عليه الصلاة والسلام – بركوبه الحمار مع رديف له علَيْه، وحسن صحبته بإيناسه الرفيق… إلى غير ذلك، فما على المسلمين إلا أن يعتبروا وينفِّذوا أوامر الله؛ ليخلصوا دينهم لله.
——————————————————————————–
[1] أخرجه البخاري (13/ 300) في التوحيد، باب: ما جاء في دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – أمته إلى توحيد الله – تبارك وتعالى – ومسلم برقم: (30) في الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، وأحمد في "المسند"، (5/ 238)، والتِّرمذي برقم: (2645) في الإيمان، باب: ما جاء في افتِراق هذه الأمة.
——————————————————————————–