الغياب مسموح في حدود الصبر، ومبرّرٌ حتى زوال الظرف، ومكررٌ كدورةِ قمرٍ حولَ وجه الأرض، متجددٌ كشمس غروب ترتمي في حضن بحر.
الغياب مسبارُ الشوقِ ومقياسُ شدّة الحب وميزانُ حرارةِ الترقّب وتأخيرٌ قدريٌّ للقاءٍ غير موعود.
الغيابُ ملهم الشعراء، حلاّل عقد الألسن، مبدع الأدعية، مُفْرِغ الأمكنة، مالئ الصمت، ميقاتُ البطء، الماشي على حافة العصب، مخزن الهواجس، مصنع الوساوس، مبتكر الأسباب، خالق الأعذار، مونتير المشاهد السابقة، مصوّر المشاهد المحتملة، كاتب سيناريو ممتاز لكل ما لم يحدث بعد…
الغياب مشعوذ يجعلك تبلل كل ورقة تخطها بأثره لتبتلع ماءها، وتطحن أصابع الندم على ما فات من حضور لم يُستغلّ، وتهرس شفاه الألم عضاّ على ذكرى لاذعة، تلملم آثار الغائب لتملأ حجابَ الجلب في التوّ والحال، تخيطه بجلدك، تحت القلب وفوق جنبك الأيسر، بحيث ينغزك دبوس التثبيت إن تململت شكّاً بسرّه فيكون سهلاً أن يمزّق شغاف قلبك ويثقب الخاصرة قاضياً عليك لهفةً وتيهاً..
الغياب يرمّمُ اهتراء العلاقة، يفسّر مواقف الالتباس، يكسر أنف الكبرياء، يدعم ملاك الاعتذار، يتفّه أسباب الزّعل، يسفّه شيطان النزق، ينشّط هرمون الأحلام، يستدرّ حليب الصفاء ليبيّض أجنحة قلبك الرمادية، فيلثغ لسانك باسم واحد كأنك قبله لم تنطق إلا بصرخة الحياة الأولى. يغسلك الغياب من ذنوبك الكبرى ويغفر لك ذنوبك الصغرى، فتغادر موقع الوثبة وتتربع في العتبة، حولك حلقة الوقت المفرغة من الأحداث، وبذراعيك تلف كتفيك، عينك على المنتظر القد يأتي من هنا أو من هناك، وكل جهةٍ لا تجودُ بعطره لا تصحّ فيها صلاة.
الحضور مدين للغياب، الغياب ملحُ الحضور وطعمه الحرّيف، تاج عرشه وصولجانه. حضور بلا غياب مللٌ واعتياد وسباحةٌ لزجة بالتفاصيل، فقاعة مفرغة من الهواء، اختناق كثيف، أنفاس تتزاحم للانفلات، وتكلّسٌ قديم يسد الثقوب. الغياب يؤخر التراكمات، يوسّع المساحات، يفتح الاختناقات، ويضيء إشارات المرور، وينبهنا إلى زواريب جديدة لعبور مختصر ينعش دهشةَ الآخر.
الغياب تمهُّلٌ لشهيق شجاع، يستجمع الأنفاس لثبات التصويب آنَ تحين الساعة، وجعبةٌ حبلى بسهام قرارات لا رجوع فيها. قدرٌ آتٍ استجابة لحمّى الطاقة الروحية، تعال تعال تعـــال، صمتا ولهجاً وأدعية ورغبة.
الغيابُ زينة الحضور، واستعداد كاملٌ للإبهار، وثقل العواطف المحمّلة بالكبرياء، ألق الكبرياء النازل عن عرشه، وخفة الإطلالة من باب الرحمة، كنسمة تجدد الهواء، وترتب فوضى القلب بأسرار ربيعٍ مفاجئ.
لا تبخل في الحضور ولا تبخل في الغياب، فكلما كنت ملكاً في الغياب توجتك ملكاً للحضور.
يسلمو غلاتي
يعطيك الف عافيه
تقبلي مروري
دلوعه حمودي
طرحت فابدعت
دمت ودام عطائك
ودائما بأنتظار جديدك الشيق
لك خالص حبي وأشواقي