إن نصيب الإنسان من الدنيا عمره.. فإن أحسن الاستفادة منه فيما ينفعه في دار الخلود..فقد ربحت تجارته وإن استغله في المعاصي والسيئات حتى لقي الله على تلك الخاتمة السيئة.. فهو من الخاسرين والعاقل من حاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله..
وخاف من ذنوبه قبل أن تكون سبباً في هلاكه.. والإنسان يعيش على ما نشأ عليه.. ويموت على ما عاش عليه.. ويحشر على ما مات عليه
والأعمال بالخواتيم..
والسعيد من وفقه الله إلى عمل صالح ثم يقبضه عليه.. والشقي من حرم ذلك
ومن هؤلاء الأشقياء.. هاجر القرآن، المعرض عنه
القرآن..
هو كلام الله..أشرف الكلام وأفضله ومن شرفِهِ أنه نَزلَ على أشرف الأنبياء ومن شرفه.. أن كُلفت به أشرف أمة.. أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا يتطرق إليه شيء من الشك أو الريب (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الواقعة/75 – 80
لقد تمسك السلف الصالح بالقرآن الكريم.. وحولوا تلك الآيات إلى منهج حياة متكامل.. بأوامره يأتمرون.. وبنواهيه ينتهون.. فكان القرآن مصدر عزهم وشرفهم وسيادتهم.. صاروا به قادة وسادة للأمم بعد أن كانوا رعاة للإبل والغنم
ذاقوا طعمه وحلاوته.. ولذة مناجاة الله تعالى.. فجاهدوا في سبيله ليلاً ونهاراً.. وسراً وجهاراً.. غير مكترثين بأنفسهم وحياتهم الدنيوية..
هؤلاء عرفوا فضائل كلام الله التي لا تحصى ولا تعد.. التي لو عرف الناس في عصرنا هذا ما في تلاوته من فضاءل.. لما تركوا كتاب الله من بين أيديهم.. يتلونه آناء الليل وأطراف النهار.. ومن فضائل تلاوة كلام الله: تحصيل للأجر العظيم..ونزول البركة والسكينة على من تلاه.. وكرامة لقارئ القرآن: في الدنيا، في القبر ويوم القيامة
في صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران ، وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال : كأنهما غمامتان أو ظلمتان سوداوان بينهما شرق ، أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما
تفكر إذن..
في يوم القيامة.. في ذل الخلائق وانكسارهم واستكانتهم انتظاراً لما يقضى عليهم من سعادة أو شقاوة.. وأنت فيما بينهم منكسراً كانكسارهم.. متحيراً كتحيرهم.. فكيف حالك وحال قلبك هنالك وقد بُدِّلت الأرض غير الأرض والسموات.. وطمس الشمس والقمر.. وأظلمت الأرض.. واشتبك الناس وهم حفاة عراة.. وازدحموا في المواقف شاخصة أبصارهم.. منفطرة قلوبهم.. فتأمل.. في طول هذا اليوم وشدة الانتظار فيه.. منتظر ما يجرى عليك القضاء بالسعادة والشقاوة.. يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد
وفي أثناء هذه الشدائد العظام تأتي سورة البقرة وآل عمران في صورة سحابة عظيمة تظلان صاحبهما.. ويأتي القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب.. يأتي وقد أخذ بيد صاحبه ليشفع له عند الله.. ويقول: يا رب.. إني أشهد لهذا الرجل بالصلاح والتقى.. فقد كان في الدنيا لا يشغله شيء عن ذكرك وتلاوة كتابك.. فقد كان يتلوه آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك..
يا رب.. لقد منعته من النوم بالليل فشفعني فيه.. وعندها يأذن الله جل وعلا للقرآن أن يشفع في صاحبه.. في تلك اللحظات التي يتخلى فيها عن الإنسان أقرب الناس إليه (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) عبس/ 34..37
فيا حسرة على أولئك المحرومين الذين حرمهم الله من شفاعة القرآن.. لأنهم حرموا أنفسهم من تلاوته في الدنيا..
واللبيب من استعد لهذا اليوم العظيم شأنه.. القاهر سلطانه.. القريب أوانه..
ولكننا اليوم.. نشهد هجراً للقرآن بشتى الأشكال.. هجراً للتلاوة والاستماع والتدبر والعمل والتحاكم والتداوي والاستشفاء به..
حتى صدق على الكثير منا قوله تعالى : (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) الفرقان/30
لقد هجر القرآن استماعاً .. وأقبل الناس على سماع اللهو والغناء والمزمار وهجروا قرآن العزيز الغفار لقد هجر القرآن تدبراً .. فلم تعد تُسمع آيات الوعد والوعيد.. قلوب قاسية.. وأبدان جامدة.. وعيون متحجرة.. فلا قلب يخشع.. ولا بدن يخضع.. ولا عين تدمع..
لقد هجر القرآن عملاً .. فإذا بالقرآن الذي هو منهاج حياة متكامل يصير في واقع الناس آيات تقرأ عند القبور.. ويهدى ثوابها للأموات.. أو تصنع منه التمائم والأحجبة تعلق على صدور الغلمان والصبيان.. أو يوضع في البيوت والمحلات والسيارات للحفظ والبركة!!
لقد هجر القرآن تحاكماً .. ووقع المنكر الأعظم بتنحية كتاب الله عن الحكم بين الناس.. واتهام الشريعة الإسلامية بالضعف والعجز والقصور والتخلف والرجعية .. وحل محلها القانون الوضعي وأقوال الرجال تحكم في الدماء والأموال والأعراض !!
لقد هجر القرآن استشفاءً وتداوياً .. ولجأ بعض الناس إلى السحرة والعرافين والدجالين يطلبون منهم الشفاء والدواء لأمراضهم !!
فما هي عاقبة من هجر القرآن؟.. وأعرض عن تلاوته وسماعه وتدبره..
* فقد ظلم نفسه.. بأن جعل الله على قلبه الأكنة فلا تفقه الحق.. وعلى أذنيه الوقر فلا يهتدي إلى الرشد..
* جعله الله من الضالين ولا يهده الله أبداً إلى الحق.. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا) الكهف/ 57
* يعرض نفسه لانتقام الله وهؤلاء المنتقم منهم وصفهم الله بالمجرمين (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ) السجدة/ 22
* المعرض عن القرآن كالحمار (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ) المدثر/ 49-50-51
* ينذر الله من هجر القرآن ويتوعده بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.. (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) فصلت/13
* يتوعده الله بالمعيشة الضنك في الدنيا.. (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) طه/124
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في بيان حال من هجر القرآن: ( في الدنيا فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك فلا يزال في ريبه يتردد فهذا من ضنك المعيشة..)
* يحشر يوم القيامة أعمى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} طه/124-126
هذا لمن لم ينظر للقرآن في الدنيا بعينيه البصيرتين فتلاه.. ولم يعمل بمقتضاه.. ولكنه أعرض عنه.. وهجره.. فكان جزاءه من جنس عمله
* يسلكه الله عذاباً صعداً (وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا) الجن/17 فمَنْ منا يقوى على هذا العذاب؟
* يقيض الله له قريناً من الشيطان (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) الزخرف/36 فهذا الذي هجر الذكر.. قيض له الله شياطين تضله وتهديه إلى صراط الجحيم
* الحسرة والندامة يوم القيامة (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا) الفرقان/28-29
* وقوعه تحت شكوى النبي صلى الله عليه وسلم (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) الفرقان/30 وهي شكوى عظيمة وفيها أعظم تخويف لمن هجر هذا القرآن
* حرمان شفاعة القرآن يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) صحيح مسلم وهذا المحروم حقيقة.. من حُرِمَ شفاعة القرآن يوم القيامة.. فهل يشفع القرآن في رجل هجره.. وأعرض عنه.. وأقبل على غيره من كلام البشر يقرأه.. أو يسمعه ؟
* يختم لمن هجر القرآن بسوء الخاتمة فهل تريد أن تكون مع هؤلاء ؟.. وتحشر معهم يوم القيامة ؟ هل تريد أن تكون في الدنيا.. ظالماً، ضالاً، مجرماً، كالحمار، قريناً للشيطان، تعيش معيشة ضنكاً، ثم الخاتمة السيئة ؟
أم تريد أن تكون في الآخرة.. ممن يعذب في القبر.. ويحشر أعمى يوم القيامة.. ويكون من أهل الحسرة والندامة والحزن والأسف.. وممن يشكو منه النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو عليه.. أو ممن يحرم من شفاعة القرآن.. ثم العذاب الصعد الصعب الشاق..
أنت منذ الآن تستطيع أن تختار مكانتك ومكانك في الدنيا والآخرة.. كما تستطيع أن تتمثل الرائحة والطعم الذي ترتضيهِ لنفسك..
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كالتمر لا ريح لها وطعمها حلو ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر" صحيح مسلم
فمن أي الأقسام نحن.. وما هو حالنا مع كتاب الله؟.. هل من توبة؟ يغفر الله بها الذنوب.. ويستر بها العيوب.. ويصلح بها فساد القلوب.. ويبدل بها السيئات حسنات.. (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر/53
يا مَنْ هجرت القرآن.. تب إلى الله.. والحق قافلة العائدين إليه.. ورافق أهل القرآن حتى تكون منهم.. تفز بالسعادة في الدارين
جعلنا الله من المهتمين بكتابه.. المقبلين عليه.. المجتهدين فيه المستمعين لقراءته مهما تيسر.. المرتلين المجودين في تلاوته.. المحتسبين الأجر في حفظه
همســـــــــة
ذكر أحد الشيوخ قصة رجل كان لا يصلي، ومدمناً للغناء وذكره جار له مراراً فلم يتذكر فلما نام على فراش الموت صعد إليه هذا الجار، ولا زال الغناء يسمع في البيت فقال لأهله : اتقوا الله أبوكم يحتضر والغناء لا ينقطع ! ضعوا شريطاً للقرآن قال هذا الجار: فلما أخرجت شريط الغناء من الكاسيت، ووضعت شريطاً للقرآن.. كشف الرجل الغطاء عن وجهه ونظر إليَّ، وقال: دع الغناء، فإنه ينعش قلبي ومات عليها