ثالثًا: الميزان( )
قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
والمعنى: أن الموازين يوم القيامة عدلٌ لا يظلم بها أحدٌ شيئًا.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «والأكثر – يعني من العلماء – على أنه ميزانٌ واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه»( ).
وجاء النصُّ على الميزان بما يوجب الإيمان به، في قوله تعالى من سورة الأعراف: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 8، 9].
وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 6-11].
وحيث أن المبتدعة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم أنكروا الميزان، وزعموا أنه عبارةٌ عن العدل، مخالفين بذلك الكتاب والسُّنَّة، نصَّ أئمة أهل السُّنَّة والجماعة على الميزان في مصنفاتهم، وأوضحوا أنه حقٌ يجب الإيمان به، كما صنع الأئمة أحمد والالكائي وابن أبي زمنين وابن أبي عاصم وعبد القاهر البغدادي وابن بطة العكبري وابن تيمية وابن ناصرالدين وغيرهم –رحم الله الجميع-.
ومن الأدلة في ذلك – أيضًا – ما رواه الترمذي وابن ماجه( ) وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : «إن الله يستخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعةً وتسعين سجلاً، كل سجل بمثل مدِّ البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذرٌ؟ فقال: لا يا رب. فيقول: بل إنَّ لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقةٌ فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء».
وفي هذا التوحيد ما يبين فضل الإخلاص وتحقيق التوحيد للرب سبحانه، فإن هذه البطاقة لكل مسلم، ومع ذلك فمنهم من يدخل النار لخلل في تكميلهم لها، ولكن لمَّا كان ذلك الرجل المذكور في هذا الحديث قد قام بحقوق التوحيد وحماه من شوائب الشرك عظمت بطاقته، وثقلت بتلك السجلات العظيمة.
ومن فقه الإمام العلامة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إيراده هذا الحديث في كتاب «التوحيد» وبوَّب عليه: بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب.
قال العلامة ابن القيم: الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب ( ).
وهذا النصُّ في وزن السجلات التي يدون فيها العمل.
وجاء النص على وزن صاحب العمل كما جاء في «صحيح البخاري»( ) عن أبي هريرة عن رسول الله قال: «وإنها ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرؤوا إن شئتم: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]».
وفي «مسند الإمام أحمد»( ) عن ابن مسعود أنه كان يجنتي سواكًا من الأراك، وكان دقيق الساقين فجعلت الريح تكفؤُه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله : «مم تضحكون؟» قالوا: يا نبي الله! من دقه ساقيه، فقال: «والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أُحُد».
وردت الأحاديث بوزن الأعمال أنفسها كما في «صحيح مسلم»( ) عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله : «الطُّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان..» الحديث.
وفي «الصحيحين»( ) – وهو خاتمة صحيح البخاري – قوله : «كلمتان خفيفتان على السان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم».
فدلَّت هذه النصوص على أن الموزون يوم القيامة في الميزان قد يكون الأعمال، وقد يكون كتاب الأعمال وهي السجلات، وقد يكون فاعلها أي صاحب العمل من المكلفين، وإلى هذا نبَّه الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره( )، والعلامة ابن أبي العز الحنفي في شرحه «العقيدة الطحاوية» السلفية( ).
وقال سماحة شيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز( ): «الجمع بين النصوص الواردة في وزن الأعمال والعاملين والصحائف: أنه لا منافاة بينها، فالجميع يوزن، ولكن الاعتبار في الثقل والخفة يكون بالعمل نفسه لا بذات العامل ولا بالصحيفة»( ).
قال الحافظ القرطبي رحمه الله في كتابه «التذكرة»( ): قال العلماء: وإذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال، لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقرير الأعمال والوزن لإظهار مقاديرها، ليكون الجزاء بحسبها، قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47].
وهل يكون الوزن لكل الناس: السعداء والأشقياء؟
هذا هو ظاهر النصوص الواردة كما اختاره الحافظ ابن كثير رحمه الله وقال: «وقد توزن أعمال السعداء وإن كانت راجحةً لإظهار شرفهم على رءوس الأشهاد، والتنويه بسعادتهم ونجاتهم، وأما الكفار فتوزن أعمالهم، وإن لم يكن لهم حسنات تنفعهم ويقابل بها كفرهم، لإظهار شقائهم وفضيحتهم، على رءوس الأشهاد»( ).
ومما جاء فيما يبيِّن عظم الميزان: ما رواه الحاكم في «المستدرك»( ) عن سلمان عن النبي قال: «يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السموات والأرض لوسعت، فتقول الملائكة: يا رب! لمن يزن هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة: سبحانك، ما عبدناك حق عبادتك…» الحديث. صحه الشيخ الألباني( ).
وبما تقدم يتبين مشهد من المشاهد التي سيوافيها الناس يوم القيامة، ألا وهو الميزان، والواجب على المسلم والمسلمة الإيمان به وفق ما جاءت به النصوص الشرعية، كما ألمحنا إلى ذلك آنفًا. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: فأما الميزان المذكور في يوم القيامة فقد تواترت [به] الأحاديث وهو ظاهر القرآن( ).
قال العلامة ابن أبي العز الحنفي رحمه الله بعد أن أورد النصوص الواردة في الميزان: «فثبت وزن الأعمال والعامل وصحائف الأعمال، وثبت أن الميزن له كفتان، والله تعالى أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات، فعلينا الإيمان بالغيب كما أخبرنا الصادق المصدوق من غير زيادةٍ ولا نقصان، ويا خيبة من ينفي وضع الموازين القسط ليوم القيامة، كما أخبر الشارع، لخفاء الحكمة عليه، ويقدح في النصوص بقوله: لا يحتاج إلى الميزان إلا البقال والفوَّال!! وما أحراه بأن يكون من الذين لا يقيم الله لهم يوم القيامة وزنًا، ولو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عدله سبحانه لجميع عباده، فلا أحدَ أحبُّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فكيف وراء ذلك من الحكم ما لا اطلاع لنا عليه»( ).اه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأما كيفية تلك الموازين فهو بمنزلة كيفية سائر ما أخبرنا به من الغيب».اه( ).
قال الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله: ونصبُ الميزان الحق يوم القيامة بين الخلق لفوائد عظيمة، وحِكَم بهية اقتضتها الحكمة الإلهية، مع علم الله العليم الخبير، بمقادير الأعمال الصغير والكبير، لا يغيب عن نظره غائب، ولا يفوته هارب، ولا يؤوده حفظ ما خلق وهو رب العرش العظيم، ولا يَعْزُبُ عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، وإنما الحكمة في وزن أعمال العباد أن ذلك لامتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا، وقيل: لإظهار علامة السعادة والشقاوة يوم القيامة، وقيل: ليعرف العباد ما لهم من خير وشر، وقيل: لإقامة الحُجة عليهم، وقيل: للإعلام بأن الله جل جلاله عادلٌ لا يظلم من خلقه أحدًا متفضلٌ يُربي الحسنات لصاحبها ويضاعفها( ).
والميزان وعرض الناس عليه أمر عظيم يذهل العقول ويفزع النفوس، يوضح هذا ما رواه أبو داود( ) عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذكرتُ النار فبكيت، فقال رسول الله : «ما يبكيك؟» قلت: ذكرت النار، فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ قال: «أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحدٌ أحدًا: عند الميزان حتى يعلم أَيَخِفُّ ميزانه أم يثقل، وعند تطاير الصحف حتى يعلم أين يقع كتابه: في يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره، وعند الصراط إذ وضع على ظهرتي جهنم [حتى يجوز]».
قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
والمعنى: أن الموازين يوم القيامة عدلٌ لا يظلم بها أحدٌ شيئًا.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «والأكثر – يعني من العلماء – على أنه ميزانٌ واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه»( ).
وجاء النصُّ على الميزان بما يوجب الإيمان به، في قوله تعالى من سورة الأعراف: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 8، 9].
وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 6-11].
وحيث أن المبتدعة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم أنكروا الميزان، وزعموا أنه عبارةٌ عن العدل، مخالفين بذلك الكتاب والسُّنَّة، نصَّ أئمة أهل السُّنَّة والجماعة على الميزان في مصنفاتهم، وأوضحوا أنه حقٌ يجب الإيمان به، كما صنع الأئمة أحمد والالكائي وابن أبي زمنين وابن أبي عاصم وعبد القاهر البغدادي وابن بطة العكبري وابن تيمية وابن ناصرالدين وغيرهم –رحم الله الجميع-.
ومن الأدلة في ذلك – أيضًا – ما رواه الترمذي وابن ماجه( ) وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : «إن الله يستخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعةً وتسعين سجلاً، كل سجل بمثل مدِّ البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذرٌ؟ فقال: لا يا رب. فيقول: بل إنَّ لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقةٌ فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء».
وفي هذا التوحيد ما يبين فضل الإخلاص وتحقيق التوحيد للرب سبحانه، فإن هذه البطاقة لكل مسلم، ومع ذلك فمنهم من يدخل النار لخلل في تكميلهم لها، ولكن لمَّا كان ذلك الرجل المذكور في هذا الحديث قد قام بحقوق التوحيد وحماه من شوائب الشرك عظمت بطاقته، وثقلت بتلك السجلات العظيمة.
ومن فقه الإمام العلامة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إيراده هذا الحديث في كتاب «التوحيد» وبوَّب عليه: بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب.
قال العلامة ابن القيم: الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب ( ).
وهذا النصُّ في وزن السجلات التي يدون فيها العمل.
وجاء النص على وزن صاحب العمل كما جاء في «صحيح البخاري»( ) عن أبي هريرة عن رسول الله قال: «وإنها ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرؤوا إن شئتم: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]».
وفي «مسند الإمام أحمد»( ) عن ابن مسعود أنه كان يجنتي سواكًا من الأراك، وكان دقيق الساقين فجعلت الريح تكفؤُه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله : «مم تضحكون؟» قالوا: يا نبي الله! من دقه ساقيه، فقال: «والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أُحُد».
وردت الأحاديث بوزن الأعمال أنفسها كما في «صحيح مسلم»( ) عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله : «الطُّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان..» الحديث.
وفي «الصحيحين»( ) – وهو خاتمة صحيح البخاري – قوله : «كلمتان خفيفتان على السان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم».
فدلَّت هذه النصوص على أن الموزون يوم القيامة في الميزان قد يكون الأعمال، وقد يكون كتاب الأعمال وهي السجلات، وقد يكون فاعلها أي صاحب العمل من المكلفين، وإلى هذا نبَّه الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره( )، والعلامة ابن أبي العز الحنفي في شرحه «العقيدة الطحاوية» السلفية( ).
وقال سماحة شيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز( ): «الجمع بين النصوص الواردة في وزن الأعمال والعاملين والصحائف: أنه لا منافاة بينها، فالجميع يوزن، ولكن الاعتبار في الثقل والخفة يكون بالعمل نفسه لا بذات العامل ولا بالصحيفة»( ).
قال الحافظ القرطبي رحمه الله في كتابه «التذكرة»( ): قال العلماء: وإذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال، لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقرير الأعمال والوزن لإظهار مقاديرها، ليكون الجزاء بحسبها، قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47].
وهل يكون الوزن لكل الناس: السعداء والأشقياء؟
هذا هو ظاهر النصوص الواردة كما اختاره الحافظ ابن كثير رحمه الله وقال: «وقد توزن أعمال السعداء وإن كانت راجحةً لإظهار شرفهم على رءوس الأشهاد، والتنويه بسعادتهم ونجاتهم، وأما الكفار فتوزن أعمالهم، وإن لم يكن لهم حسنات تنفعهم ويقابل بها كفرهم، لإظهار شقائهم وفضيحتهم، على رءوس الأشهاد»( ).
ومما جاء فيما يبيِّن عظم الميزان: ما رواه الحاكم في «المستدرك»( ) عن سلمان عن النبي قال: «يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السموات والأرض لوسعت، فتقول الملائكة: يا رب! لمن يزن هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة: سبحانك، ما عبدناك حق عبادتك…» الحديث. صحه الشيخ الألباني( ).
وبما تقدم يتبين مشهد من المشاهد التي سيوافيها الناس يوم القيامة، ألا وهو الميزان، والواجب على المسلم والمسلمة الإيمان به وفق ما جاءت به النصوص الشرعية، كما ألمحنا إلى ذلك آنفًا. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: فأما الميزان المذكور في يوم القيامة فقد تواترت [به] الأحاديث وهو ظاهر القرآن( ).
قال العلامة ابن أبي العز الحنفي رحمه الله بعد أن أورد النصوص الواردة في الميزان: «فثبت وزن الأعمال والعامل وصحائف الأعمال، وثبت أن الميزن له كفتان، والله تعالى أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات، فعلينا الإيمان بالغيب كما أخبرنا الصادق المصدوق من غير زيادةٍ ولا نقصان، ويا خيبة من ينفي وضع الموازين القسط ليوم القيامة، كما أخبر الشارع، لخفاء الحكمة عليه، ويقدح في النصوص بقوله: لا يحتاج إلى الميزان إلا البقال والفوَّال!! وما أحراه بأن يكون من الذين لا يقيم الله لهم يوم القيامة وزنًا، ولو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عدله سبحانه لجميع عباده، فلا أحدَ أحبُّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فكيف وراء ذلك من الحكم ما لا اطلاع لنا عليه»( ).اه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأما كيفية تلك الموازين فهو بمنزلة كيفية سائر ما أخبرنا به من الغيب».اه( ).
قال الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله: ونصبُ الميزان الحق يوم القيامة بين الخلق لفوائد عظيمة، وحِكَم بهية اقتضتها الحكمة الإلهية، مع علم الله العليم الخبير، بمقادير الأعمال الصغير والكبير، لا يغيب عن نظره غائب، ولا يفوته هارب، ولا يؤوده حفظ ما خلق وهو رب العرش العظيم، ولا يَعْزُبُ عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، وإنما الحكمة في وزن أعمال العباد أن ذلك لامتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا، وقيل: لإظهار علامة السعادة والشقاوة يوم القيامة، وقيل: ليعرف العباد ما لهم من خير وشر، وقيل: لإقامة الحُجة عليهم، وقيل: للإعلام بأن الله جل جلاله عادلٌ لا يظلم من خلقه أحدًا متفضلٌ يُربي الحسنات لصاحبها ويضاعفها( ).
والميزان وعرض الناس عليه أمر عظيم يذهل العقول ويفزع النفوس، يوضح هذا ما رواه أبو داود( ) عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذكرتُ النار فبكيت، فقال رسول الله : «ما يبكيك؟» قلت: ذكرت النار، فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ قال: «أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحدٌ أحدًا: عند الميزان حتى يعلم أَيَخِفُّ ميزانه أم يثقل، وعند تطاير الصحف حتى يعلم أين يقع كتابه: في يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره، وعند الصراط إذ وضع على ظهرتي جهنم [حتى يجوز]».
* * *
مشكورة حبيبتي