وُلد أكرم بتشوهات خلقية جعلت حياته جحيما منذ الطفولة إلى مرحلة شبابه،لأنه في مرحلة شبابه،تمكن من التغلب على الألم الذي يحس به كلما نظر إليه شخص ما بنظرة استغراب أو شفقة او ضاحكا على خلقه…تمكن من تجاوز ألمه و عذابه، بطريقة محزنة…
كازيمودو، الوحش، البومة…أسماء تعود هذا الطفل الصغير على سماعها…لقد كان في بعض الأحيان ينسى إعاقته فيندمج من جديد مع محيطه لمدة من الزمن قبل ان يُذكره أحدهم بأنه ليس كغيره من البشر، فيعود الى انطوائه و عزلته…
عندما التحق أكرم بالثانوية، و كغيره من المراهقين وقع في الحب…لكنه كان يعلم جيدا بأن امثاله لا يحق لهم الحب، لا يحق لهم التعبير عن مشاعرهم،لا يجب أن يحبوا أصلا، لأنهم غرباء عن الآخرين…تلك العقلية التي رباه المجتمع عليها،و التي نُقشت في دماغه مذ كان طفلا…
والدا أكرم لم يتزوجا عن حب، فقد كانت حياتهما جحيما، و انتقل هذا الجحيم لأكرم و إخوته الثلاثة…كل يوم صراخ و شجار و تكسير للأواني و ضرب الأبواب، كل يوم ضوضاء و فوضى في المنزل، الأم تركت واجباتها المنزلية و الأب مهمل لعائلته…أكرم و إخوته الثلاثة يبقون في غرفتهم، يستمعون إلى شجار الوالدين، صراخ الأب و صوت الصفعات و الضربات التي تتلقاها الأم، ثم صراخ الأم استنجادا بالجيران…لتنتهي المعركة بخروج الأم من البيت في قلب الليل،متجهة إلى أحد الأقارب…
ثم يأتي الأب إلى غرفة الأطفال و يبدأ بالكلام عن أمهم مستعملا أقذر الكلمات على مسمع أطفاله الأبرياء، مؤكدا أنه سيطلقها و يأتي بامراة جديدة.لكن أحمد ،الأخ الأصغر لأكرم كان يتدخل دائما،مدافعا عن أمه رغم سنه الذي لم يتجاوز التسع سنوات،و بكل جرأة يرد على أبيه كلما وصف أمه بوصف قذر، لكن الوالد و لغضبه الشديد، كان يضرب أحمد و بقوة ،أحيانا يسقط أحمد الطفل الصغير أرضا و يبدأ في الكح عاجزا حتى عن البكاء…
أما أصغرهم ذات الست سنوات، حنان، فدائما تغمض عينيها باكية ،منذ بداية الشجار بين الوالدين إلى غاية تلقي أحمد ضربة مؤلمة ثم سقوطه أرضا، و كانت حدة بكائها تزداد كلما سمعت صرخة ألم أو صوت ضربة نحو أمها أو أخيها أحمد…
أما أكرم فلم يكن يحرك ساكنا،أحيانا يفتعل النوم و أحيانا أخرى يحمل كتابا أو مجلة ويتظاهر بالقراءة،لكن دمعاته كانت تسيل و بغزارة بدون أن يصدر أي صوت، كلما بدأ أحمد بالتكلم ،لأن أكرم يعلم جيدا ما مصير أخيه الأصغر بعد قليل..
يتحول الأب إلى وحش ضاري كلما غضب، و لكنه سرعان ما يهدأ عندما يرى أحد أبنائه يتألم، لقد كان يخرج من الغرفة مسرعا كلما ضرب أحمد ،و يتجه إالى غرفته،ثم يأتي من جديد بعد ساعة أو أكثر ،عندما يتأكد من نوم أطفاله، و يغطيهم، و يجتهد في تعديل أفرشتهم و عندما يتأكد من دفء أطفاله يُقبل الجميع قبلات حارة،نابعة من قلبه ،و أحيانا يكلم ابنه أحمد اثناء نومه قائلا له :"سامحني يا إبني" ،أو "أحبك إبني" ثم يذهب الى غرفته، ولكن أكرم كان يستمع لكل ما يحدث لأنه يعجز عن النوم ليلا…
كان أكرم في كل ليلة يفكر في ميساء ،زميلته في الثانوية، و يتخيلها أمامه، لطالما كان يحدثها في خياله و أحيانا يتناسى نفسه حتى تدخل أمه و تسأله عما إذا كان يتحدث، لكنه سرعان ما ينفي ذلك مفتعلا أسبابا ساذجة تجعل أمه تخرج مبتسمة لأنها تعلم ما يحدث مع ابنها…
لقد كانت أم أكرم تعود صباحا باكرا كلما خرجت من البيت غاضبة،لكنها لا تجد زوجها في المنزل لأنه يخرج للعمل باكرا،ما يؤجل المعركة القادمة لأجل مسمى،فتوقظ أطفالها بسرعة و ترسلهم للدراسة،أحيانا بدون أن يأكلوا شيئا لأن الوقت لا يكفي…
يذهب الإخوة الى الدراسة ، و هنا يبدأ عذاب من نوع آخر لأكرم، فكلما يدخل القسم يبدأ الجميع بالتغامز عليه، لكبر حجم رأسه و لونه الشاحب مع الصلع الظاهر في بعض المناطق من رأسه،لقد كان خجولا جدا، و لا يدافع عن نفسه إطلاقا، لكنه دائما ينظر إلى ميساء ليعرف رأيها مما يحدث، فقط بالنظر إلى عينيها، لكنه لم يفهم أبدا ماذا كانت تحس ميساء، لم يفهم أبدا ماذا كانت تعني نظراتها:هل هي شفقة عليه،أو تعاطف معه،أو أمر آخر…؟؟؟
الجزء الثاني
يعود الأب كل يوم مساءا، حاملا معه،أحيانا فاكهة ما و أحيانا أخرى حلويات أو كتب و غيرها، ثم ينادي أطفاله الثلاث ،و يسألهم عما إذا أحسنوا التصرف اليوم ،لكن هدفه الحقيقي هو افتعال شجار صغير مع أولاده بعد ذلك يقدم لهم أغراضهم،لكنه طبعا لا يقدمها لهم بل يرميها و يذهب قائلا:"لقد سأمت منكم كل يوم مشاكل "،"أريد الإرتياح منكم"و أمور مماثلة…لكنه في الليل يعود و يقبل أبناءه و يغطيهم، أحينا يغطيهم أكثر من مرة في الليلة الواحدة…
لقد كان عمي عبد المنير،أو كما يناديه أطفال الحي، يتميز بشخصية فريدة من نوعها، فهو يحب أولاده حبا كبيرا ،لكنه لا يُظهر لهم هذا الحب، ربما كان معقدا و لكن بتميز…أحيانا يحضر هدية لزوجته و يضعها في فناء البيت ، و تبقى هذه الهدية لأيام عديدة في فناء البيت حتى تسأله زوجته :"لمن أحضرت تلك الهدية يا عبد المنير؟" لقد كانت أم أكرم تسأله و هي تعرف مسبقا بأن الهدية لها، لكنها كانت تحب احراجه بسؤالها ذلك، لأن عبد المنير يجيب بطرقية عجيبة في كل مرة تسأله، فمثلا كان يقول: "آه تلك الهدية،نعم نعم، هي لأحد أصدقائي،تركها عندي، لكن لا أعتقد أنه سيأتي ليأخذها" ثم يضيف:" يمكنك أن تأخذيها إذا أردت". تبتسم أم أكرم و تأخذ الهدية، و تذهب لغرفتها، و أحيانا يغلبها الضحك،فتقهقه قهقهة صغيرة يسمعها عبد المنير فيصدر صوتا بحنجرته ثم يخرج من البيت ،و لا يعود قبل نوم الجميع ليتفادى الإحتكاك معهم، لم يكن أبو أكرم يحسن الكذب كما أنه كان يعلم جيدا بأن تلك القهقهات سببها علم زوجته بأن الهدية كانت لها منذ البداية…
حنان تحب أحمد كثيرا، لذلك فقد كانت تجالسه كثيرا عندما يكونون في البيت، لتسمع قصصه و مغامراته اليومية، و كان الجزء الأحب الى قلبها هو عندما يصف لها معاركه مع أطفال الحي أو زملائه في المدرسة، فترتسم ابتسامة واضحة على شفتيها و تنفتح عيناها ،لقد كان أحمد الصغير في نظر حنان البطل الحقيقي، و كان أحمد يلاحظ شغف أخته بسماع مغامراته ،فيزيد و ينقص ،و يُلمع قصصه و يزركشها كي يصبح البطل المغوار الذي لا يقهر، و الذي يدافع عن الحق و ينتصر دائما…
أما أكرم فيلازم غرفته و يغلق الباب، يجلس في مواجهة المرآة الضخمة في غرفته ،و يبقى ينظر إلى وجهه و شكل جسمه لساعات عديدة،مفكرا في ميساء و والديه، و الدراسة،و معاناته مع زملائه…يذرف دمعات حارة كلما تحسس شكل أنفه أو فراغ شعره أو ضعف جسمه، أحيانا يضرب نفسه حتى الألم، ثم يبتعد عن المرآة لأنها مصدر ألم حقيقي لأشخاص مثل أكرم…
يبقى أكرم في غرفته حتى تناديه أمه للعشاء.لقد كانت أم أكرم طباخة ماهرة، تحب تزيين المائدة و التجمع حولها و التلذذ بمأكولاتها، كما أنها تحب أن تُمدح لطبخها اللذيذ، لكن الجميع يأكل في صمت ،لأن الأب و منذ صغر أبنائه ، يحثهم على الصمت أثناء الأكل، و لكن أم أكرم و لأنها لا تخرج من البيت كثيرا ، و لا تقابل الناس، فقد كانت تفتح مواضيع عدة أثناء العشاء، و تخاطب خاصة زوجها الذي لا يكترث لكلامها، فإذا رد لا يزيد عن كلمة "نعم" لا"أو "أوكي"…لكن أم اكرم تغضب في الأخير عندما تحس أنها تتكلم لوحدها ، فتقوم من المائدة متجهة إلى غرفتها متمتمة بأقوال و كلمات تكون بداية للشجار المعتاد بينهما، فيتوقف الجميع عن الأكل و احيانا يقلب الأب طاولة الأكل، فيهرب الأبناء إلى غرفتهم ، أحيانا يمسك أحمد برجل أبيه و يبدأ بالبكاء لعل أباه يهدأ و يتجنب الشجار، لكن تمتمة أم أكرم فجرت غضب عمي عبد المنير، فيمسك أبو أكرم بزوجته من شعرها و يجرها لغرفتها، فتتعالى الاصوات و الصرخات، حتى ينتهي الشجار بفرار الأم من البيت حتى طلوع الشمس أو بخروج الأب من البيت، ليعود بعد أن يهدأ غضبه…
يتبع…
ومتابعة معك
شكرا الك