أكثر ما شاع في روايات السيرة النبوية في الهجرة النبوية قصة نسيج العنكبوت والحمامتين في الغار، فهل وردت أخبار صحيحة حول قصة العنكبوت والحمامتين في غار ثور ؟
روى الإِمام أحمد رضي الله عنه في مسنده قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا مَعْمَر قال: وأخبرني عثمان الجزري أن مِقْسمًا مولى ابن عباس رضي الله عنهما أخبره عن ابن عباس في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} [الأنفال: من الآية 30]، قال: "تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، يريدون النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله عز وجل نبيه على ذلك. فبات عليٌّ على فراش النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الليلة .. فلما رأوا عليًا ردّ الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل خلط عليهم، فصعدوا في الجبل، فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن نسيج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال" (1).
من حسّن قصة العنكبوت
قال ابن كثير رحمه الله: "وهذا إسناد حسن وهو من أجود ما روي في قصة نسج العنكبوت على فم الغار (2)".
لكنه رحمه الله قال في (الفصول): "ويقال والله أعلم إن العنكبوت سدّت على باب الغار، وان حمامتين عششتا على بابه … (3) . فلم يحسنّها هنا، بل يفهم من كلامه خلاف ذلك.
وحسّنها الحافظ ابن حجر في (الفتح (4)) على أنه قال عن عثمان الجزري: "فيه ضعف (5)". وفي (التهذيب) أن أبا حاتم قال عنه: يُكتب حديثه ولا يحتج به. وقال العقيلي: لا يتابع في حديثه (6).
ولذا ضعّف الحديث الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على المسند فقال: "في إسناده نظر، من أجل عثمان الجزري (7) . وقال الشيخ الألباني رحمه الله بعد أن ضعّف الحديث: "ثم إن الآية المتقدمة: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} التوبه : 40 فيها ما يؤكد ضعف الحديث؛ لأنها صريحة بأن النصر والتأييد إنما كان بجنود لا تُرى، والحديث يُثبت أن نصره -صلى الله عليه وسلم- كان بالعنكبوت، وهو مما يُرى، فتأمّل.
والأشبه بالآية أن الجنود فيها إنما هم الملائكة، وليس العنكبوت ولا الحمامتين، ولذلك قال البغوي في تفسيره (4/ 147) للآية: (وهم الملائكة نزلوا يصرفون وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته) ا. هـ كلام الشيخ الألباني (8).
وقال في موضع آخر: "واعلم أنه لا يصح حديث في عنكبوت الغار والحمامتين (9)".
فتحسين الحافظيْن ابن كثير وابن حجر إنما هو لنسيج العنكبوت فقط. أما بيض حمامتين على الغار فلم أر -حسب علمي- من صحّحه. والله أعلم.
من ضعّف قصة العنكبوت والحمامتين
وقد أورده الهيثمي في (المجمع) بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان ليلة بات في الغار أمر الله تبارك وتعالى شجرة فنبتت في وجه الغار .. وأمر .. العنكبوت فنسجت على وجه الغار، وأمر .. حمامتين وحشيتين فوقعتا بفم الغار، وأتى المشركون من كل فجّ .. وتقدم رجل منهم فنظر فرأى الحمامتين فرجع فقال لأصحابه: ليس في الغار شيء، رأيتُ حمامتين على فم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد، فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله فعلم أن الله تبارك وتعالى قد درأ بهما عنه، فسمّت (دعا بالخير والبركة) عليهما وفرض جزاءهما، واتخذ في حرم الله تبارك وتعالى فرخين أحسبه قال: فأصل كل حمام في الحرم من فراخهما". ثم قال اليهثمي: "رواه البزار والطبراني وفيه جماعة لم أعرفهم (10)".
وأخرجه أيضًا أبو القاسم الأصبهاني في (دلائل النبوة) من طريق عبد الرزاق، كسند الإِمام أحمد، قال: محقق الدلائل، مساعد الحميد: "في إسناده ضعف".
وأعله -كمن قبله- بعثمان الجزري، ثم قال: "ثم إن في الإسناد علة أخرى لا تقل أهمية عما سبق، فقد أخرج الحديث عبد الرزاق في (المصنف) (5: 389) وفي التفسير (ل95) عن مَعْمَر به، دون ذكر ابن عباس، وينبغي أن يكون هذا هو المحفوظ عن عبد الرزاق إذ هو ثابت بهذا الأداء في مؤلفاته (11).
قال أبو تراب الظاهري-رحمه الله: "وقد ورد أن حمامتين وحشيتين عششتا على بابه، وأن شجرة نبتت، وكل ذلك فيه غرابة ونكارة من حيث الرواية .. وفي رواية فيها غرابة ونكارة أن الحمامتين أفرختا، وأن حَمَام الحرم المكي من نسل تينك الحمامتين، وكل ذلك بأسانيد واهية (12)".
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- معلقًا على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا): "وفيه دليل على أن قصة نسج العنكبوت غير صحيحة، فما يوجد في بعض التواريخ أن العنكبوت نسجت على باب الغار، وأنه نبت فيه شجرة، وأنه كان على غصنها حمامة .. كل هذا لا صحة له؛ لأن الذي منع المشركين من رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه ليست أمورًا حسية تكون لهما ولغيرهما بل هي أمور معنوية وآية من آيات الله عز وجل" (13).
وقال -رحمه الله- في موضع آخر: "ما كان عشٌّ كما يقولون، ولا حمامة وقعت على الغار، ولا شجرة نبتت على فم الغار، ما كان إلا عناية الله عز وجل؛ لأن الله معهما (14)".
فائدة
أورد الشيخ الألباني -رحمه الله- في السلسلة الضعيفة (3/ 337) حديثًا عزاه إلى مسند الفردوس للديلمي وهو: "جزى الله عَزَّ وَجَلَ العنكبوت عنا خيرًا فإنها نسجت علي وعليك يا أبا بكر في الغار، حتى لم يرنا المشركون، ولم يصلوا إلينا"، وقال -رحمه الله- عن الحديث: منكر، ثم ختم كلامه بقوله: "واعلم أنه لا يصح حديث في عنكبوت الغار والحمامتين على كثرة ما يُذكر ذلك في بعض الكتب والمحاضرات .. ".
فائدة أخرى
أخرج الحاكم في المستدرك (3/ 4) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إليّ فأسكني أحب البلاد إليك" فأسكنه الله المدينة. ثم قال الحاكم: "هذا حديث رواته مدنيّون من بيت أبي سعيد المقبري". وتعقبه الذهبي بقوله: "لكنه موضوع، فقد ثيت أن أحب البلاد إلى الله مكة" ا. هـ.
وسئل شيخ الإِسلام -رحمه الله- عن هذا الحديث فقال: "هذا حديث باطل كذب". (الفتاوى 18/ 124) وقال في (18/ 378): "هذا باطل، بل ثبت في الترمذي وغيره أنه قال لمكة: "والله إنكِ لأحبّ بلاد الله إلى الله" وقال: "إنك لأحبّ البلاد إليّ" فأخبر أنها أحبّ البلاد إلى الله وإليه. وقال -رحمه الله- في (27/ 36): "فهذا حديث موضوع كذب لم يروه أحد من أهل العلم" أ. هـ.
ومن إنصاف الإِمام الكبير أبي عمر ابن عبد البر -رحمه الله- قوله: "واني لأعجب ممن يترك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ وقف بمكة على الحَزْورة وقيل على الحجون وقال: "والله إني أعلم أنك خير أرض الله .. " وهذا حديث صحيح .. فكيف يُترك مثل هذا النص الثابت ويُمال إلى تأويل لا يُجامع متأوله عليه؟ " (التمهيد 2/ 288)، وابن عبد البر -رحمه الله- مالكي، والمشهور عن المالكية تفضيل المدينة على مكة.
(1) المسند (5/ 87).
(2) البداية والنهاية (3/ 181).
(3) الفصول في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-. ص 52.
(4) 7/ 236.
(5) التقريب (2/ 13).
(6) التهذيب (7/ 145).
(7) (5/ 87).
(8) سلسلة الأحاديث الضعيفة (3/ 263) وضعفها أيضًا في تعليقه على فقه السيرة، ص 163.
(9) سلسلة الأحاديث الضعيفة (3/ 339).
(10) مجمع الزوائد (6/ 152 – 153) وانظر: تخريج أحاديث الكشاف (2/ 76).
(11) دلائل النبوة للأصبهاني، تحقيق مساعد بن سليمان الحميد، دار العاصمة، النشرة الأولى، 1412 هـ (2/ 576)
(12) الأثر المقتفى لقصة هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ص 13.
(13) شرح رياض الصالحين، ط الأولى 1415، دار الوطن، ج 2، ص 525.
(14) المرجع السابق ص 303.
د. محمد بن عبدالله العوشن