عنوان هذا المقال يصلح وسما للسيات التدبيرية التي يقودها المتحكمون في هذا البلد في مجال حيوي هو القلب النابض لدى الأمم التي تعرف قدره، هو مجال التعليم.
من الارتجال إلى الاستعجال عبارة لو قرأتها هكذا أو قلبتها لأعطت الدلالات نفسها والمعاني ذاتها، ارتجال ينتج استعجالا واستعجال يثمر ارتجالا.
وها هو دخول مدرسي جديد يطل شاهدا آخر على استمرار آليات الارتجال وتقنيات الاستعجال. يطل هذا الدخول المدرسي الجديد وهو يجر وراءه ذيول الخيبة التي أكدتها مجموع التقارير العامة التي صدرت عن هيئات دولية وطنية، كلها تجمع على الواقع المتأزم لقطاع التعليم في بلادنا، مما فرض اتخاذ خطوات أخرى استعجاليه ومذكرات توجيهية تفتل في نسج مزيد من استمرارية العبث بمصير أمة ومستقبل أمة وحياة أمة دون أن تطرف للعابثين عين حياء.
1- تاريخ التعليم: تاريخ "الإصلاحات الفاشلة"
منذ 1957 تناسلت بالمغرب سلسلة من الإصلاحات تأست لها لجان، وعقدت لأجلها مناظرات، ونشرت بسببها بيانات. إصلاحات متواترة ينسي بعضها بعضا، وينسخ بعضها بعضا، بل ويسب بعضها بعضا. عنوانها الأساسي الارتجال المتسارع نحو تقديم شيئا ما كيفما كان يصلح أن يدبج في صفحات تسمى إصلاحا للتعليم. وفي مجموع هذه الإصلاحات ضاعت البوصلة الموجهة والمنظور المتكامل والرؤية الواضحة.
تارة يعتمد التعريب ويمجد التعريب،وطورا يتوجه نحو التغريب والافتخار بالتغريب، وحينا يسعى نحو المغربة ثم يتراجع عنها وهكذا دواليك من ارتجال إلى ارتجال منت دون مراعاة لمصالح الأمة، كل هذا بسبب:
– الاستجابة للإملاءت الخارجية التي ترهن مصير الأمة بقرارات دولية.
– غياب مشروع مجتمعي واضح الأهداف والغايات لدى الحاكمين.
– النظرة المزعجة للحاكمين للتعليم حيث يعتبرونه في نظرهم السديد مجالا لتفريخ المعارضين سواء كانوا يسارين راديكالين أو إسلامين متطرفين.
– رهن التعليم بالقرار السياسي دون اهتمام بالتربية ومقتضياتها.
– غياب إشراك حقيقي للفاعلين التربوين ولعموم الأمة في قضية حيوية هي من مقتضيات الشأن العام.
2- تقرير المجلس الأعلى للتعليم: اعتراف بالفشل
بعد مرور ما يقرب من عقد الزمن على انطلاق ما سمي بعشرية التعليم التي جعلها الحاكمون من أولويات العهد الجديد، وبعد سنوات من التجريب والتجريب المضاد في عقول وأجسام الطاقة الحيوية لأي مجتمع يحترم نفسه -نقصد "الإنسان"- يأتي المتنفذون في هذا البلد ليعلنوا بأنفسهم نعي إصلاحهم -رحمه الله وغفر له-، وليبدوا لنا جني ثمار أيديهم -خاب والله الجني أسفا لا شماتة- منادين بحصائد ألسنتهم: ما عدنا قادرين -نحن أهل العروس- أن نشكر عروسنا… إنه الفشل الذريع والتام للمنظوة التعليمية.
هكذا صرح من كانوا بالأمس يمتدحون طبخة مزيان بلفقيه ومن وراءه بأن منظومتنا التعليمية تعاني من اختلالات بسبب إجهاض الإصلاحات الماضية قبل أوانها- وهذه قمة الارتجال والاستعجال-وبسبب التطبيق الانتقائي، والتقاطبات الإيديولوجية.
وعوض أن يعترف القائمون على شؤون التعليم بمسؤوليتهم التاريخية في ما تردت فيه الأوضاع، راحوا يلقون باللائمة إما على نظام الحكامة أو على ضعف تعبئة المجتمع نحو المدرسة، وكذا على ضعف انخراط الأسرة التربوية خاصة المدرسين في سيرورة الإصلاح – رمتني بدائها وانسلت. وكانت تصريحات بعض المسؤولين مخجلة محرجة في إلقاء اللوم على رجال التعليم دون غيرهم.
وإذا كان التقرير قد عرض لبعض المداخل المهمة التي يمكن أن تكون منطلقات للإصلاح فإنه لم يضع اليد على مكمن الداء الذي هو غياب البنية العدلية المجتمعية الصالحة لأن تكون أرضية للارتقاء بأي مجال من مجالات المجتمع بسبب استبداد الحاكمبن استبدادا يرهن كل المجالات الحيوية للمجتع بالإرادة الفردية للمخزن الحاكم.
3- المخط الاستعجالي: استمرارية الارتجال
أصدرت الوزارة الوصية على التعليم في دجنبر 2022 برنامجا استعجاليا يمتد من 2022 إلى 2022، جاء هذا المخط ليعلن بالملموس فشل الحاكمين في الاستجابة للشعارت التي رفعوها من قبل. لم نعد ندري هل هذا البرنامج ملحق ألحق بالميثاق أم هو طبعة مزيدة منقحة له؟!. فيتأكد بالتالي الطابع الارتجالي والاستعجالي لمخطات المسيرين حيث لا ينتهي إصلاح حتى يسطو عليه آخر.
تمكن قراءة مقدمة البرنامج الاستعجالي تسجيل الملاحظات التالية:
– هذا المخط يأتي كالعادة استجابة للسلطة الحاكمة فهو ليس وليد حاجة حقيقية وإنما هو امتثال لإرادة الحاكم وتوجيهاته.
– هو إعلان صريح واضح فصيح على فشل تطبيق الميثاق.
– إن عامل الزمن حاضر في إخراجه حيث السعي الحثيث فقط للوفاء بالمواعيد المحددة للإصلاح الجاري بغض النظر عن الكيف والجودة.وهو خطا فظيع أن يتم رهن فعل جليل كالفعل التربوي التعليمي برزمانة وأجندة زمنية. مما يدل على أن الانطلاقة كانت خاطئة فلاغرو أن تكون النتائج مفزعة.
– نزيد إلى هذا كون البرنامج العلن عنه هو أيضا مؤقت وغير نهائي في انتظار برنامج آخر شامل ودقيق يقولون إنه: "سيستجيب للرهانت الحالية والتطلعات المستقبيلية"، ولنتأمل كيف تعالج قضايا الأمة بالحلول المؤقتة والانتظارية البغيضة!! وكيف يتم الإرجاء الدائم للت الحقي لسبب بسيط هو غياب الإرادة السياسية الجادة لاتخاذ التدابير الشجاعة الحقة الكفيلة بالقطع مع سياسة التماطل والتسويف بل والعبث.
أما التمعن في عنصر البرامج الكبرى الوارد في المخط والمرتبط بخطة العمل فيمكن من تسجيل الملاحظات التالية:
– إن البرامج الإستراتيجية المرسومة لا تختلف عما يعلن عنه دائما،وكلها تدور حول تعميم التدريس، وتطوير الهندسة البيداغوجية، وترشيد الموارد البشرية، وتنمية البحث العلمي، وإرساء حكامة جيدة، وتنويع مصادر التمويل، وهكذا نجد أنفسنا في دائرة مغلقة مكرورة تعيد الكلام نفسه بصيغ تعبيرية متنوعة، نأتي بعد خمسين سنة من الاستقلال المزعوم لنتحدث عن تعميم التعليم، أي لنعلن دون مواربة انتصار الأمية، لنتحدث عن تطوير الهندسة البيداغوجية والجودة أي لنعلن التخلف وانعدام القيمة، لنتحدث عن ترشيد الموارد البشرية أي لنعلن عن فشو التبذير والفساد والطامة نتحدث عن تنمية بحث علمي الكل ليعرف أن الدولة لا تنفق علية إلا الفتات والنزر اليسير مما تبقى من أموال شعب يصرف على البرتوكولات والمهرجانات. وللتعليم والبحث العلمي الهبل.
وإذا كانت العناصر المحددة إجرائيا للإنجاز مهمة وغاية في الدقة والجودة فإن الأيام عودتنا ألا نصدق الدقة في الكلام التي لا توافقها دقة في الفعل والإنجاز، إذ العيب ليس في مسودات الإصلاح والأوراق وإنما في الإرادة المنجزة والبيئة المنجز فيها.
4- مذكرات أخشيشن: منطق التعليمات
أصدر السيد الوزير مذكرة تحمل رقم 60 هي مجموعة من التعليمات المغلفة في عبارة التوجيهات يتشرف السيد الوزير بإبلاغها.. بعض هذه التعليمات هي من اختصاصات الأمن والشرطة كالسعي لاستباب الأمن في محيط المؤسسات التعليمية، وبعضها مضحك مبك يتحدث عن ربط المؤسسات التعليمية بشبكات الماء والكهرباء وكأننا يمكن أن نسمي مؤسسة تعليمية بهذا الاسم من دون ضروريات أساسية كهذه. وتتحدث المذكرة عن الحد من الاكتظاظ بتحديد سقف لا يتجاوز أربعين 40 تلميذا حدا أدنى أو 45 تلميذا حدا أقصى (هكذا!!) وكأننا نحارب الاكتظاظ بالاكتظاظ عبر عملية تقنين تعطيه المشروعية القانونية بعد المشروعية الواقعية.
بعدة هذا كله تطفو لغة التهديد لرجال التعليم لمحاربة ظاهرة الغياب من خلال سلسلة من الإجراءات غير التربوية أصلا، وكأننا بالوعيد والتهديد سنحارب الظاهرة ونقضي عليها.ثم تأتي المذكرة لتتحدث عن تشجيع هيئة التدريس على الاستقرار بالوسط القروي وكلنا يعي أن عبارة الوسط القروي تخفي وراءها غابة من المشاكل والصعوبات التي تجعل من الاستقرار في بعض المناطق النائية أسطورة وخرافة بسبب ظروفها المعيشة الصعبة، زد إلى ذلك غياب المحفزات المعنوية والمادية التي يمكن أن تدفع رجل التعليم إلى هذه التضحيات في زمن غياب القيم وتدني مستويات للمسؤولية.
وبعض هذه التعليمات غامض كالقول باعتماد سبل تربوية وأساليب بيداغوجية تحقق الاحتفاظ بالمتمدرسين وكأن المهم هو الاحتفاظ بالمتعلمين لكن كيف وأين وضمن أية أجواء تربوية فلا يهم. كلمة الاحتفاظ هنا توحي بنوع من الاحتجاز القسري ربما!!.
إن منطق التعليمات والتوجيهات غير مجد في بث روح محفزة على العمل إنما المحفز على العمل والباعث على الاشتغال الإنصات الجيد لهموم الفاعلين التربوين أهل الخبرة والميدان وترجمة ذلك الإنصات إلى حلول جذرية قمينة بشحذ الهمم وتقوية الإرادة ليكون رجل التعليم صاحب الرسالة لا عبد الحوالة.
5- تذكير لمن كان له قلب
– إن التعليم بلادنا كارثة وطنية الحديث عنها كرب شديد.
– إن الحاكمين يشنون حربا ضروسا شاملة على رأسمال الأمة أطفالها وشبابها.
– إن سياسة الارتجال والاستعجال تدل دلالة واضحة على فشل النظام المخزني في قيادة تغيير حقيقي أو حتى إبداعه لأنه لا مشروع له غير الاستفراد بالرأي والاستبداد بالقرار.
– إنه لا حل لوضعية التعليم كغيرها من وضعيات المجتمع الأخرى إلا بفك الارتباط بينه وبين القرار السياسي ليكون التعليم في كنف الأمة من خلال حوار وطني شامل عام واضح وصريح ترجع فيه الإرادة للأمة ولعقلائها وقواها الحية بعيدا عن لهو العابثين وسفه المبذرين.
– إن غياب فلسفة مجتمعية موجهة تمثل قيم المجتمع وهويته وحضارته وأسه الوجودية سيؤدي إن استمر غيابها إلى ضياع بوصلة مسلسلات الإصلاح مهما كانت أنيقة دقيقة.