التصنيفات
منوعات

التعزير بعقوبة السجن بالمد هل لها اصا فى الشرع ؟؟؟

بسم الله الرحمن الرحيم تعزير بعقوبة (السجن بالمدد) هل لها أصل في الإسلام ؟
طرحت هذا السؤال الوارد في عنوان المقال مراراً على بعض طلبة العلم، فلحظت وجود اللبس في فهم الموضوع، فالجميع أجده يبادر بالإجابة مباشرة بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أول من اتخذ سجناً، ظناً منهم أنه كان يعزر بعقوبة السجن بالمدد، ولم أقف على ثبوت شيء من ذلك بعد البحث، لا عن عمر رضي الله عنه، ولا عن غيره من قضاة الصحابة رضي الله عنهم، ولا من قضاة التابعين، والقرون المفضلة.
ولإزالة اللبس سأتناول عرض موضوع (السجن) بذكر أنواعه وأسبابه بإذن الله تعالى، فأقول:
الحبس نوعان: حبسٌ شرعي ، وحبسٌ غير شرعي.

الحبس الشرعي:
الحبس الشرعي الوارد في كلام الفقهاء يطلق على ثلاثة معاني:
المعنى الأول: تعويق الإنسان عن التصرف في نفسه في بيت أو مسجد أو في مكان مخصص للحبس (السجن) .
المعنى الثاني: ما يسميه أهل العلم بالترسيم، وهو ما يسمى الآن بالإقامة الجبرية، في المدينة فلا يسافر، أو في بيته فلا يخرج منه، أو ربما يسمح له بالخروج بمرافقة حارس عليه.
المعنى الثالث: ملازمة الغريم للغارم حتى يؤدي ما عليه من دين، وتكون الملازمة هنا بحكم من القاضي.

فالحبس الشرعي أوسع في المعنى من مصطلح السجن، علماً بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في عهده سجنٌ معدٌ لحبس الناس، ولا كذلك في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وإنما ورد اتخاذه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمكة حين انتشرت الرعية. قال ابن حزم في المحلى (9/383):"وأما السجن فلا يختلف اثنان في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له قط سجن" اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (فإن "الحبس الشرعي" ليس هو السجن في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد، أو كان بتوكيل نفس الخصم أو وكيل الخصم عليه؛ ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم أسيرا ،كما روى أبو داود وابن ماجه عن "الهرماس بن حبيب عن أبيه ([1]) قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بغريم لي فقال لي: الزمه ثم قال: يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك" وفي رواية ابن ماجه:"ثم مر بي آخر النهار فقال: ما فعل أسيرك يا أخا بني تميم؟" وهذا هو الحبس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر حبسا معدا لسجن الناس، ولكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر بن الخطاب ابتاع بمكة دارا، وجعلها سجنا وحبس فيها ([2])، ولقد تنازع العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم هل يتخذ الإمام حبسا؟ على قولين. فمن قال: لا يتخذ حبسا؛ قال: يعوقه بمكان من الأمكنة، أو يقام عليه حافظ، وهو الذي يسمى "الترسيم" )[الفتاوى: 35/398].

وقال أيضاً:
(فإنه ليس المقصود بالحبس سكناه في السجن، بل المراد منعه من التصرف المعتاد، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن له حبس، ولا لأبي بكر؛ بل أول من اتخذ السجن عمر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم "يسلم الغريم إلى غريمه ويقول: ما فعل أسيرك" فيجعله أسيرا معه حتى يقضيه حقه، وهذا هو المطلوب من الحبس)[الفتاوى:15/136].

أسباب الحبس الشرعي:
الحبس عند الفقهاء يدور في مجمله حول الأسباب الآتية :
السبب الأول: عدم سداد الدين الذي عليه، فيسجن حتى يؤدي ما عليه، وغالب كلام الفقهاء عن الحبس إنما هو في هذا السبب، وخلاصة كلامهم على وجه الإجمال: أن المعسر لا يحبس، أما الغني المماطل ففيه خلاف وتفصيل طويل، وهو الذي قال عنه ابن القيم رحمه الله : "الحبس عقوبة، والعقوبة إنما تسوغ بعد تحقق سببها، وهي من جنس الحدود، فلا يجوز إيقاعها بالشبهة، بل يتثبت الحاكم ويتأمل حال الخصم ويسأل عنه، فإن تبين له مطله وظلمه ضربه إلى أن يوفي أو يحبسه .. ولم يحبس الرسولُ صلى الله عليه وسلم طول مدته أحداً في دين قط، ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان رضي الله عنهم، وقد ذكرنا قول علي رضي الله عنه" [الطرق الحكمية، ص57 ] وقول علي رضي الله عنه الذي ذكره ابن القيم هو عدم حبس الإنسان أيضاً بسبب الدين.
وفقهاء الحنفية الذين يرون سجن المدين اختلفوا: هل يبقى في السجن حتى يؤدي ما عليه، أو تحدد له مدّة لا يزيد عنها؟ خلاف بينهم.
والذين قيدوه بالمدة منهم، اختلفوا في تحديدها، فقيل شهر، وقيل شهران، وقيل غير ذلك.

السبب الثاني للحبس الشرعي: وجود التهمة حتى يستبين أمره.
ومراد الفقهاء بالتهمة هي التهم الكبرى التي تستدعي الحبس كتهم القتل والسرقة، فإذا استبان الأمر أُطلق أو أُقيم عليه الحد أو استوفي منه القصاص أو عُزّر .
وقد جاء في هذا السبب حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جدِّه : " أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حَبَس في تهمة " أخرجه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، ونقل ابن القيم في زاد المعاد (5/5) تصحيح إسناده عن الإمامين: أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وصححه ابن تيمية، ومن المعاصرين حسنه الألباني رحمهم الله جميعاً ([3]).
والحبس هنا مُقيَّدٌ بالضرورة، والضرورة تندفع باستبانة أمره، قال الإمام أحمد معلقاً على هذا الحديث:" وذلك حتى يتبين للحاكم أمره" [الطرق الحكمية، 89] .

السبب الثالث للحبس الشرعي: أن يكون الحبس وسيلة في رجوع العاصي عن معصيته، أو تارك الحق حتى يؤديه فإذا تاب أو أدَّى الحق الذي عليه أفرج عنه، ومن ذلك قولهم: يحبس المصرّ على ترك الصلاة حتى يصلي، فإذا صلى خُلّي عنه.

السبب الرابع للحبس الشرعي: تعويق مَن يُخشى هروبه ممن ثبت عليه الحد حتى يقام عليه، أو القصاص حتى يستوفى منه.

السبب الخامس للحبس الشرعي: من يُخشى خطره على أمن الناس، وأرواحهم وأموالهم وأعراضهم، فيحبس حتى يؤمن شرّه .
وذِكري لهذه الأسباب لا يعني أنها محل اتفاق، ولا يعني إقراري لها، وإنما المراد أن أذكر غالب ما جاء في كتب الفقه.

النوع الثاني من أنواع الحبس: الحبس غير الشرعي:

كل حبس لا يدخل في أسباب الحبس السابقة فالغالب أنه حبس غير شرعي. هذا على وجه الإجمال، وللحبس غير الشرعي صور كثيرة منها:

1- الحبس الأمني بلا محاكمات شرعية، وهو المعمول به في بعض الدول فيما يسمى بقانون الطوارئ.

2- حبس الظلمة للعلماء والمصلحين، بسبب قيامهم بالحق وإصرارهم عليه، كما سُجن الإمام أحمد وابن تيمية وابن القيم رحمهم الله تعالى، وهو ما جرى عليه عمل الظلمة في مواجهة الأنبياء ، قال الله تعالى حكاية عن فرعون وهو يهدد موسى عليه الصلاة والسلام : [قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ] {الشعراء:29} وفي توعّد امرأة العزيز لنبي الله يوسف عليه الصلاة و السلام قال الله تعالى : [وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ] {يوسف:32}

3- الحبس بالمدد، عقوبةً تعزيريةً بحكم قضائي، (وهذا محل البحث) ومثاله: أن يحكم القاضي على المتهم تعزيراً مدة سنتين أو ثلاث أو أقلّ أو أكثر، وهذا النوع من الحبس هو المنتشر اليوم في العالم كلّه، وهذا النوع (الحبس بالمدد الطويلة تعزيراً ) لم أجد له أصلاً في الكتاب والسنة، ولا من قضاء الصحابة رضي الله عنهم، ولا مَن بعدهم من التابعين والقرون المفضلة، ولا يكاد يذكر في كتب الفقهاء إلا في أمثلة محدودة جداً، والذي يظهر أنه إنما وفَدَ إلينا من القوانين الوضعية، ثم تحوَّل بسبب تتابع الأقضية في التعزير به إلى كونه عرفاً قضائياً وأصلاً في باب التعزير !!
ولعلَّ مَن اتجه إليه رأى أنه لم يرد في الشرع النهي عنه، وأن العقوبات التعزيرية لا يشترط فيها أن يكون لها مثال سابق في السنة أو من قضاء الصحابة رضي الله عنهم، وهذا قد يكون صحيحاً من حيث التقعيد، إلا أنّ الإشكال في التعزير به حصولُ ثلاثة أمور: الأضرار والمفاسد الكبرى، وهدر ضمانها، وعدم تحقق مقصود الشرع من التعزير .
أما الأضرار والمفاسد الناشئة بسبب السجن فهي كثيرة جداً، وقد كُتب فيها مئات البحوث العلمية، وتقارير الجمعيات الحقوقية، وقد اطلعت على مجموعة من هذه البحوث والتقارير، واطلعت أيضاً على كثير من هذه الأضرار من خلال زياراتي الدعوية للسجون، ومن خلال أسئلة أهالي المساجين، ويمكن أن أوجز بعضها في الآتي::10_9_132[1]:

المفسدة الأولى لسجن المدد: أن السجن سبب أساس في زيادة الجريمة، وتجنيد مزيد من المجرمين، وإدارة كثير من الصفقات الإجرامية من داخل السجن، وهي فرصة لا تقدر بثمن للمجرم الكبير؛ لأن السجنَ يَجْمَعُ له المجرمين، ويمكِّنه أن يتعرف على هذه الفئة المنحرفة للتواصل معها بعد الخروج منه، بعدما يقوم بتدريبهم وتأهيلهم على يديه داخل السجن.

بل إن بعض السجناء الذين يرغبون بالتوبة وترك طريق الإجرام يصعب عليهم ذلك بعد الخروج من السجن، بسبب ملاحقة رفقة السوء من زملاء السجن لهم من كبار المجرمين، ولذلك يؤكد بعض الضباط الذين أشرفوا على السجون صحة هذه المقولة، وهي : ( السجن مدرسة الجريمة) .
فالحقيقة أننا لم نَكُفَّ شَرَّه عن المجتمع، بل ازداد شره.

المفسدة الثانية لسجن المدد: الاعتداءات السلوكية بين السجناء، والغالب هو اتفاق مجموعة على واحد فيصعب عليه المقاومة، وهذه المفسدة شائعة ومنتشرة.
وقد سمعت من بعض الضباط المشرفين على السجون أموراً يشيب لها الولدان، واطلعت على بعض التقارير التي تقشعر منها الأبدان، مما لا يناسب التصريح به، من مآسي الاعتداءات السلوكية في السجون التي لا يستحضرها مَنْ يرى التعزير بالسجن، ولو استحضرها لما أقدم عليه.

المفسدة الثالثة لسجن المدد: الأضرار الصحية بسبب سوء التغذية، وضعف الرعاية الصحية، والضغوط النفسية، وكثرة الأعداد في المكان الصغير؛ فهناك أمراض معروفة وتسمى بأمراض السجون، من أبرزها الاكتئاب النفسي وهو شائع جداً بين المساجين، وحدوث الأمراض المزمنة؛ الضغط، والسكر، والكوليسترول، والأمراض الوبائية، وأمراض الأسنان والجلدية وغيرها.

وجاء في تقرير الجمعية الوطنية السعودية لحقوق الإنسان المنشور في صحيفة عكاظ في 26/3/1430ه:" .. انتقد التقرير تكدس السجون واكتظاظها.. ووجود حالات وفاة داخل سجون.. في الرياض.. وجدة والدمام وبيشة وجازان لمساجين بسبب أمراض قابلة للعلاج من السل والدرن"اهـ. فهذا تقرير رسمي، ومن جهة رسمية، ومنشور في الصحف الرسمية، ومع ذلك فهذا التقرير وأمثاله كثيرٌ جداً وهو عند الظلمة لا يتجاوز أن يكون خبراً يطوى كغيره من الأخبار، وليس له تأثير في الأحكام.

المفسدة الرابعة لسجن المدد: انقطاع النفقة عن أسرة السجين؛ فالراتب يتوقف إذا كان موظفاً، وإذا كان متسبباً فالأمر واضح، وهذا ضرر كبير يقع على الأسرة والأطفال، ولا ذنب لهم.

المفسدة الخامسة لسجن المدد: ضياع أسرة السجين بسبب عدم وجود المربي والمسئول عن البيت، وما ينتج عنه من أضرار صحية، وانحرافات سلوكية، وانفلات الأولاد وترك الدراسة، وارتباطهم برفقة السوء.. الخ.

المفسدة السادسة لسجن المدد: منع زوجة السجين وأولاده من حقوقهم الشرعية؛ فالحقيقة أن القاضي لم يحكم على السجين وحده، وإنما حكم على زوجة السجين وأطفاله بمنعهم من حقوقهم الشرعية من السجين ولا ذنب لهم، وإذا كان السجين هو القائم بشؤون والديه كان تعزير القاضي أيضاً شاملاً لوالديه وهذا السبب هو ما علل به الإمام أحمد نهيه عن سجن الخوارج الذين لم يحملوا السلاح، قال ابن مفلح في الفروع(10/177-188): "وسأله المروذي –أي سأل الإمامَ أحمد- عن قوم من أهل البدع يتعرضون ويُكفرون؟ قال: لا تعرضوا لهم، قلت: وأي شيء تكره من أن يحبسوا؟ قال: لهم والدات وأخوات" اهـ. مع أن الذي نهى عنه الإمام أحمد هو السجن المقيّد بالتوبة لا سجن المدد.

المفسدة السابعة لسجن المدد: الأضرار الاجتماعية، كطلاق الزوجة لرفع الضرر عنها بسبب طول السجن، وتأخر زواج بناته، وتأخر زواج أبناءه.. الخ، وهذه أمور اجتماعية مستفيضة مشتهرة.
وهناك أضرار ومفاسد أخرى كثيرة ولكن هذه إشارة إلى بعضها فقط.

المفسدة الثامنة لسجن المدد: هدر ضمان هذه الأضرار.
فمن الضامن للضرر الذي لحق السجين كالأمراض وفصله من العمل و.. الخ؟
ومن الضامن للضرر الذي لحق زوجة السجين بالطلاق أو انقطاع النفقة.. الخ؟
من الضامن للضرر الذي لحق زوجة السجين ووالديه وأطفاله بمنعهم من حقوقهم الشرعية من السجين؟
من الضامن للضرر الذي لحق المجتمع بنمو الجريمة وزيادتها بسبب السجن؟

والسؤال المهم: إذا كانت هذه الأضرار أو بعضها متحقق، فهل يمكن أن يقول منصف: إن التعزير بسجن المدد الطويلة جائز؟

كنت مرة في أحد مراكز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأخبرني رئيس المركز بأن المرأة التي تضبط في مخالفة شرعية ويكون سبب الانحراف السلوكي لديها هو الحاجة إلى المال، فإنهم يسعون مع الجهات الخيرية من أجل تخصيص إعانة شهرية لها ونلزمها بالانتظام في دار لتحفيظ القرآن الكريم، وبهذه الطريقة تم استصلاح الكثيرات ولله الحمد، بخلاف مَن يتم إحالتهن إلى سجن النساء فلا يتحقق بذلك الإصلاح غالباً.

ومن جهة القضاء: أخبرني أحد المدعى عليهم من المدعى العام بأن القاضي ألزمه بحضور عدد من الدورات العلمية الرسمية التي تعقدها وزارة الشؤون الإسلامية، وهذا ليس من باب التعزير بالأعمال التعبدية كما قد يُتوهم، وإنما هو من باب الإصلاح والتوجيه وهو داخل في ولاية القاضي، لأن الأحكام القضائية ليست قاصرة على العقوبات.

فهذه أمثلة كريمة تؤكد رجاحة العقل لدى جهة الضبط، ورجاحة الفقه والعلم لدى جهة القضاء.

وبناءً على ما تقدم فإن التعزير بعقوبة السجن بالمدد ليس أصلاً حتى نقول: (العقوبات البديلة عنه) بل هو أمر محدث في القضاء.

إذ لم يكن معهوداً في قضاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أنهم كانوا يحكمون على المجرمين بالسجن بالسنين المحدّدة، هذا بسنتين وهذا بثلاث وهذا بعشر وذاك بعشرين سنة .. الخ.
فإذا ترتب على السجن بالمدد الأضرار والمفاسد (اللازمة والمتعدية) التي سبق ذكرها أصبح التعزير به محرماً شرعاً.

وسبب التحريم ليس لأنه محدث في القضاء المعاصر، وليس لأنه ورد إلينا من القوانين الوضعية. وإنما سبب التحريم الأضرار والمفاسد المتحققة.

وهذا القول يختلف عن رأي ابن حزم رحمه الله الذي لا يرى السجن مطلقاً، ولذلك لا بد أن يستحضر القارئ الكريم أنواع الحبس المشروع الذي تحدثت عنه في أول المقال، وأن محلّ البحث هنا إنما هو سجن المدد.
فإذا زالت علة التحريم وهي (وجود المفاسد والأضرار) التي سبق ذكرها فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، ويمكن أن تندفع هذه الأضرار بما يسمى في بعض المجتمعات الغربية بالسجون المفتوحة، والسجن الجزئي، ويمكن للسجين فيها الخروج من السجن يومياً ونهاية الأسبوع، فهو أشبه بالدوام اليومي الذي تصل عدد ساعاته 8-10ساعات، ويتضمن السجن المفتوح برامج تربوية وتعليمية وتدريبية على بعض المهن. والسجن المفتوح أو الجزئي له صور كثيرة جداً وهذه واحدة منها، والهدف الأساس من هذا النوع من السجون هو الإصلاح.

لكن تبقى مشكلة اجتماع السجين مع المجرمين والتعرف على أصحاب السوابق، وهذه تحتاج إلى معالجة أيضاً في هذا النوع من السجون.

ومن أنواع السجن الأقل ضرراً: الإقامة الجبرية في دولته، أو مدينته، أو منزله، ولا يسمح له بالخروج إلا يوماً في الأسبوع وعند الحاجة الصحية، أو الاجتماعية، أو في حالات محددة يندفع بها الضرر المتعدي على أسرته وأطفاله.

ومن أنواع التعزير بالسجن الذي أقره كثير من الفقهاء: السجن (غير المحدد) وإنما المقيد بتوبة السجين، أو بأداء ما عليه (مما يستطيعه) أو بترك ما كان يفعله؛ فإذا أدّى ما عليه، أو ظهرت عليه أمارات التوبة خلّي عنه. ومع أن هذا هو الغالب في كلام الفقهاء إلا أنه من النادر أن نسمعه في أحكامنا القضائية.

وهناك اتجاه آخر من بعض الباحثين والمختصين، وهو غلق باب التعزير بالسجن جملة وتفصيلاً إلا في حال الاضطرار الشديد والانتقال الكلي إلى التعزير بالوسائل الأخرى الثابتة في السنة أو عن الصحابة رضي الله عنهم، أو بالوسائل التي لا نهي فيها ولا ضرر- غيرَ مقصود التعزير- وهذا ما أدعو إليه.

أما التعزيرات الثابتة في السنة وعن الصحابة رضي الله عنهم فغالبها يدور حول التعزير المالي؛ إما بالإتلاف، أو تمليك غيره، ومثال الإتلاف: أمره صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بتحريق الثوبين المعصفرين، فسجّرهما في التنور (أخرجه مسلم)، ومثال تمليك غيره: تضعيف الغرم على سارق ما لا قطع فيه (أخرجه أبو داود بإسناد حسن) وحكم النبي صلى الله عليه وسلم بعتق العبد الذي اعتدى عليه سيّدُه (أخرجه أحمد وأبو داود بإسناد جيد وله شواهد). وبهذا يتوجه ما بدأ به بعض القضاة جزاهم الله خيراً من تغريم المخالف ودفعها للفقراء من خلال الجمعيات الخيرية.

أما التغريم إلى بيت المال وجعله كالفيء، فلم أجد له أصلاً في السنة، ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولم أقف على من قال بجوازه من العلماء المتقدمين خصوصاً إذا كان بيتُ المال غيرَ منتظم.
وبعد ذلك:
إذا ثبت أن سجن المدد غير معهود في قضاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
وإذا ثبت وجود المفاسد والأضرار في التعزير به، والتي يحرم إهدار ضمانها.
وإذا ثبت لدينا وسائل تعزيرية أخرى سواءً مما ثبت في السنة أو عن الصحابة رضي الله عنهم، أو من وسائل حديثة مباحة.
فلماذا الإصرار على التعزير بسجن المدد؟!!

وأخيراً: فهذا المقال لا يتجاوز أن يكون سبباً في إثارة مسألة التعزير بسجن المدد، من أجل مدارستها بين الباحثين والمختصين.

وأسأل الله الكريم أن ينفع به ويبارك فيه.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.