المشاكل داخل البيوت لا حصر لها، لا ينجو منها إلا من رحم ربي، لكن هناك نوعا من المشاكل عندما يستبد بالزوجين يجعلهما على يقين بأن حياتهما معا باتت دربا من الخيال، وأن الانفصال نتيجة حتمية لا مفر منها، إلا أن ارتباطهما الشديد بأبنائهما وحرصهما على صالحهم يجعل كلا منهما يتخذ القرار الأصعب والأكثر قهرا في حياته: "سأستمر من أجل الأولاد …".
ولا شك أن هذا الشكل من الحياة له توابع ومآلات نفسية عديدة على الزوجين والأبناء، فما هو الأثر النفسي عليهم جميعا في ظل هذا الجو الذي لا يخلو من التناقضات والنزاعات، وأحيانا التظاهر والتمثيل؟ وما هي الحلول التي يقدمها المتخصصون والخبراء النفسيون لهؤلاء الأزواج؟ وكيف تتنوع هذه الحلول من مرحلة لأخرى؟ وأيهما أفضل عندما تصل العلاقة بينهما إلى هذا المنعطف.. أن يعقد الزوجان عقد مصالح مشتركة ويستمران معا ولا يكون بينهما سوى الاحترام -إن وُجِد- أم يكون الطلاق هو الحل الأجدى من أجل بداية جديدة لكل منهما؟
تقول الدكتورة فيروز عمر، مستشارة ورئيس مجلس إدارة جمعية "قلب كبير" لتنمية الأسرة والمجتمع: هذا النوع من الأزواج لا يصل إلى اتخاذ هذا القرار إلا بعد أن يصطدم بنوع من المشكلات يكون سببه في الأصل خطأ في الاختيار، وهي مشكلات تستحيل معها الحياة وتنطوي على اختلافات جذرية عميقة بين الشخصيتين، مثل عدم التكافؤ على المستوى الاجتماعي والثقافي وعلى مستوى التفاهم وتصور الحياة والطموح، وقد عز عليهما ترك الأبناء تُشردهم الأحوال والظروف، فوافقا على الاستمرار من أجلهم، محاولين إظهار قدر من التوافق والاحترام أمامهم.
وتستطرد: ولهذا الوضع آثار سلبية على الأولاد، خاصة عندما يكون الزوجان غير ناضجين، وليسا على قدر المسئولية تجاه تنفيذ هذا الاتفاق، وعلى رأس هذه السلبيات ما يقوم به أحد الزوجين من تنفيث لغضبه وعدم رضاه عن الحياة مع الطرف الآخر في الأولاد، فيكون دائم الصراخ، ويتعمد إصدار الأوامر باستمرار والضغط على الأولاد أثناء أي توجيهات، مما يضاعف الضغوط على الأبناء ويضخم من الحِمل النفسي عليهم، فينتج عن ذلك فقدان الأمان الاجتماعي الذي يضربه الأبوان في مقتل، ويصبح الأولاد متناقضين بسبب فقدانهم للمرجعية أو القدوة.
ويتفق الدكتور عمرو أبو خليل -اختصاصي الطب النفسي- مع الدكتورة فيروز في أن الأبناء لا يخرجون من هذا الاتفاق سالِمين، خصوصا مع مرور الوقت الذي يؤكد لهم تدريجيا أن الأبوين على خلاف عميق، فيصابون بفقدان الثقة فيمن حولهم، بالإضافة للقلق المرضي ومعظم أمراض الخوف كالرهاب أو الفوبيا، كما يصابون ببعض التفاعلات الهيستيرية والوسواس القهري والشعور بالذنب؛ حيث يشعر كل منهم أنه سبب مباشر في أن يعيش أبوه وأمه حياة لم يكن راضيا عنها.
ويستطرد د. عمرو أن هذا النوع من الأبناء عندما يكبر عادة يكون رافضا للزواج بسبب الجو الذي نشأ فيه، ولا يتزوج إلا تحت ضغط العائلة، وغالبا ما يفشل في حياته الزوجية، كما أن السلبيات تنال الزوجين أيضا إلى جانب الأبناء، وعادة ما يصابون بأمراض الاكتئاب والانزواء والخرس الزوجي، بالإضافة إلى العدوانية وردود الأفعال الهيستيرية، والأمراض النفسجسمية من آلام بالظهر، وتنميل مستمر بأجزاء من الجسم، والقُرح، والقولون العصبي، ومن أخطر ما يواجهه هذان الزوجان أزمة منتصف العمر.. فتكون أعنف وأقوى في تلك الحالات، وربما تدفع أحدهما إلى تكوين علاقات خارج الإطار الشرعي، أو الاستغراق في بعض الأمور الصبيانية، أو الانحراف السلوكي، أو الزهد المبالغ فيه واللجوء للتنسك.
أما الأستاذة أميرة بدران، مستشارة اجتماعية، فترى أن من يتخذ هذا القرار من الأزواج ينقسمون إلى نوعين: نوع ناضج، وهو قليل، ممن يستطيعون السيطرة على انفعالاتهم وترجيح مصلحة أبنائهم، وتكون نسبة نجاحهم في ذلك كبيرة، وربما يحققون هدفهم بدلا من الطلاق الذي كان سيضر كل الأطراف، وهم أشخاص من وجهة نظرها يقدرون المسئولية ويقاومون بداخلهم الخلافات وتوابعها ويتعاملون معا بكل احترام، مؤمنين بأن الزواج هو خطوة في الحياة، وإن كانت قد فشلت فلديهم حلم آخر لا يقل أهمية عندهم وهو الأبناء.
أما النوع الآخر وهو نوع غير ناضج لا يقوى نفسيا على الالتزام بما تم الاتفاق عليه، فيكون الزوجان دائما على موضع خلاف في التفاصيل وأمام الأبناء، ولا يكفان عن الصراخ والشجار معا، ويتنافس كل طرف منهما على فرض أسلوبه ومدرسته التربوية، ولا يتورع عن كشف ذلك أمام الأولاد، وهذا النوع تكون حالات الأمراض والمعاناة النفسية التي يواجهها الأبناء على يديه أكبر وأعمق وأخطر، ويكون نتاجها إما ابنا يتسول المشاعر لدى الآخرين من أصدقاء أو أقارب أو معارف، أو ابنا يرفض فكرة أنه في حاجة إلى شيء -أي شيء- من أي أحد، فيكون عدوانيا رافضا أشكال التعامل التي تحمل أي نوع من الشفقة، وكلما نضج الزوجان وقدرا مسئولياتهما كانت وطأة هذا المناخ أقل على الأبناء.
وتوضح الأستاذة أميرة أن الطفل قد ينشأ أحيانا عدوانيا بسبب هذا النوع من الحياة، ويفكر دائما في الانتقام من أبيه وأمه، ويكون الانتقام هنا على شكلين، الأول إيجابي عن طريق الرفض الصريح لكل الطلبات والتوجيهات، وأحيانا التعدي بالضرب أو السب وبكل المظاهر الصريحة التي تشعره أنه يأخذ حقه من هذين الأبوين اللذين -من وجهة نظره- قد أنشآه في جو لم يكن يتمناه.
وفي الشكل الثاني ينتقم انتقاما سلبيا بأن يسعى للفشل إن كان أبواه يريدان منه النجاح، أو ينحرف سلوكيا بدافع الانتقام منهما ويصدمهما في كل ما كانا يتمنيان أن يرياه في ابنهما، إلا أنها تعود فتؤكد أن ليس كل الأبناء يفعلون ذلك، خاصة إن كان الأب والأم قد ركزا في التعامل معهم على جزئية الحب والحنان، وأشبعا الأبناء بوازع ديني يجذبهم نحو والديهم.
الحل ممكن
يرى الدكتور عمرو أبو خليل أن الحلول في مثل هذه الحالات ممكنة من البداية، من قبل أن يتخذ الزوجان هذا القرار إن كان بينهما تفاهم حقيقي، ويقترح على الزوج أن يلجأ إلى الزيجة الثانية، مع الإبقاء على الزوجة الأولى وحفظ حقوقها، بل الإعلاء من شأنها أمام الزوجة الثانية، وتأكيد أن زوجته الأولى تمثل قيمة في حياته.. ناصحا الزوجة ألا تعطل هذا الحل ولا ترفضه رفضا قاطعا؛ لأن هناك حالات لم تحل مشاكلها إلا مع الزواج الثاني، الذي بالطبع يؤدي بها إلى مواجهة خسارة، وهي زواج زوجها عليها، إلا أنها في المقابل تكسب باقي الأشياء كلها وتحل ما يقرب من 80% من المشكلة.
ويتابع: إن لم يكن هذا الحل ممكنا يكون الطلاق حلا لهذا المستوى من الخلاف الذي وصل إلى طريق مسدود، لكنه طلاق تحت مظلة قوله تعالى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ}، والسعة هنا تكون على كل المستويات: مادية واجتماعية ونفسية.
ويؤكد الدكتور عمرو أنهما إن كانا بالفعل يحبان أبناءهما فسيتفقان على ما يشبه عقد المصالح بينهما، بأن يكون طلاق عقلاء ناضجين وليس طلاق خلاف وشد وجذب ومعركة يريد كل طرف فيها أن ينتصر، بل سيكون طلاقا تتحقق من خلاله المصالح ويحترم فيه كل طرف الآخر مع الحرص كل الحرص على فعل ما فيه مصلحة الأبناء بعد الطلاق بقدر المستطاع، وهذا يختلف على حسب الشخصية وطباعها.
تصالحوا مع الواقع
أما على مستوى العلاج النفسي فقد اتفق الدكتور عمرو أبو خليل والأستاذة أميرة بدران والدكتورة فيروز عمر على أن العلاج ينقسم إلى جزأين، أولهما معرفي بمعنى أن الابن هنا يجب أن يتصالح معرفيا مع واقعه، وأن يدرك أن الأب والأم لم يكونا يهدفان إلى شيء سوى مصلحته، وأنهما حتى لو تسببا في فقدانه للأمان الاجتماعي فإن ذلك لم يكن عن قصد، بل إنهما امتنعا عن الانفصال لأجله ولأجل إخوته، وأنه يجب أن ينظر إلى ذلك على أنه تضحية لا يقبلها إلا المحب المخلص.
ويشيرون إلى أن الابن عليه أيضا أن يدرك أن الحياة بين يديه، والقرار أيضا بين يديه، وأن هناك الكثير من الأهداف في الحياة التي يمكن تحقيقها، وأن الدنيا لم تنته بعد، وأن يتم تذكيره بالمواقف الطيبة التي بدرت من أبيه أو أمه أثناء حياته معهما، وأن أمامه الفرصة لأن يُجنب أسرته ما لاقاه هو من عدم أمان واستقرار داخل أسرته، ما دام أنه قد فهم أن هذا شيء مُضر نفسيا واجتماعيا.
أما الجانب الآخر، كما يقول المستشارون، فهو الجانب السلوكي.. ويتوقف على نوعية المرض النفسي الذي يعانيه الابن أكثر من أي مرض آخر، فإن كان انطوائيا يتم تدريبه على الاندماج بالمجتمع وتوصيته بالاقتراب من زملائه وأقرانه بشكل متدرج، فمثلا في الأسبوع الأول يتم وضع هدف له وهو الاطمئنان على زملائه والاستماع إليهم، والأسبوع التالي مشاركتهم قضاياهم واهتماماتهم بنسبة معينة، ثم يتم تطوير هذا الاندماج شيئا فشيئا، ويكون حريصا على رصد كل ما يعجبه ويجذبه ويُشعره بالتغيير في هذا الأمر، هذا بالطبع بعد قيامه بزيارة الطبيب النفسي، حيث تكون لديه الرغبة الفعلية في حدوث التغيير.
أما بالنسبة للأب والأم فيؤكد الاستشاريون الثلاثة أنه لا يوجد ما يعوض علاقة الرجل ب واحتياجه إليها كما عاش يحلم بها، وكذلك ليس من السهل عليها أن تتخذ قرارا بأن تعيش مع رجل حالة من التمثيل أو الزواج المشوه بسبب أولادها، ولذلك تكون معاناتهما أكبر.
ويتفقون أنه ليس هناك خلاف على فائدة نفس أسلوب العلاج معهما مع اختلاف التفاصيل، غير أنهما ربما يشعران بجزء من التعويض أو شبه التعويض عندما يريان أبناءهما قد حققوا أمنياتهم أو نجحوا في حياتهم العملية، كما أنه في حالة نجاح كل من الأب والأم في زرع الحب في أولادهم يكون ذلك أيضا جزءا من التعويض؛ لأن هذا الحب سيُرد إليهما رعايةً ومودةً وتسامحًا في آخر حياتهما، في وقت يكونان فيه أحوج إلى أبنائهما من أي وقت مضى
الله يعطيك العافيه