[/IMG]
[CENTER
]أدلة فرض الحجاب على نساء المؤمنين 1 2
يجب شرعاً على جميع نساء المؤمنين التزام الحجاب الشرعي، الساتر لجميع البدن، بما في ذلك الوجه والكفان، والساتر لجميع الزينة المكتسبة من ثياب وحلي وغيرها عن كل رجل أجنبي، وذلك بالأدلة المتعددة من القرآن والسنة، والإجماع العملي من نساء المؤمنين من عصر النبي صلى الله عليه وسلم مروراً بعصر الخلافة الراشدة، فتمام القرون المفضلة، مستمراً العمل إلى انحلال الدولة الإسلامية إلى دويلات في منتصف القرن الرابع عشر الهجري، وبدلالة صحيح الأثر، والقياس المطرد، وبصحيح الاعتبار بجلب المصالح ودرء المفاسد .
وهذا الحجاب المفروض على المرأة إن كانت في البيوت فمن وراء الـجُدر والخدور، وإن كانت في مواجهة رجل أجنبي عنها داخل البيت أو خارجه فالحجاب باللباس الشرعي: العباءة والخمار الساتر لجميع بدنها وزينتها المكتسبة، كما دلَّت النصوص على أنَّ هذا الحجاب لا يكون حجاباً شرعياً إلا إذا توافرت شروطه، وأن لهذا الحجاب من الفضائل الجمة، الخير الكثير والفضل الوفير، ولذا أحاطته الشريعة بأسباب تمنع الوصول إلى هتكه أو التساهل فيه.
أدلة فرض الحجاب على نساء المؤمنين :
معلوم أن العمل المتوارث المستمر من عصر الصحابة – رضى ا لله عنهم – فمن بعدهم حجة شرعية يجب اتباعها ، وتلقيها بالقبول ، وقد جرى الإجماع العملي بالعمل المستمر المتوارث بين نساء المؤمنين على لزومهن البيوت فلا يخرجن إلا لضرورة أو حاجة ، وعلى عدم خروجهن أمام الرجال إلا متحجبات غير سافرات الوجوه ولا حاسرات عن شيء من الأبدان ولا متبرجات بزينة ، واتفق المسلمون على هذا العمل، المتلاقي مع مقاصدهم في بناء صرح العفة والطهارة والاحتشام والحياء والغيرة ، فمنعوا النساء من الخروج ، سافرات الوجوه، حاسرات عن شيء من أبدانهن أو زينتهن.
فهذان إجماعان متوارثان معلومان من صدر الإسلام ، وعصور الصحابة والتابعين لهم بإحسان، حكى ذلك جمع من الأئمة ، منهم الحافظ ابن عبد البر ، والإمام النووي ، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم – رحمهم الله تعالى – واستمر العمل به إلى نحو منتصف القرن الرابع عشر الهجري ، وقت انحلال الدولة الإسلامية إلى دول .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – في " الفتح " : (9/224) : لم تزل عادة النساء قديما وحديثا أن يسترن وجوههن عن الأجانب " انتهى.
وكانت بداية السفور بخلع الخمار عن الوجه في مصر ، ثم تركيا ، ثم الشام ، ثم العراق ، وانتشر في المغرب الإسلامي ، وفي بلاد العجم ، ثم تطور إلى السفور الذي يعني الخلاعة والتجرد من الثياب الساترة لجميع البدن ، فإنا لله وأنا إليه راجعون .
وإن له في الجزيرة العربية بدايات ، نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين وأن يكف البأس عنهم .
والآن إلى إقامة الأدلة :
أولاً : الأدلة من القرآن الكريم :
تنوعت الدلائل من آيات القرآن الكريم في سورتي النور والأحزاب على فرضية الحجاب فرضاً مؤبداً عاماً لجميع نساء المؤمنين، وهي على الآتي:
الدليل الأول : قول الله تعالى : ( وَقَـرنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ) :
قال الله تعالى : ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرضٌ وقلن قولاً معروفاً . وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وءاتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) – الأحزاب: 32/33- .
هذا خطاب من الله تعالى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ، ونساء المؤمنين تبع لهن في ذلك، وإنما خصَّ الله سبحانه نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب: لشرفهن، ومنزلتهن من
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنهن القدوة لنساء المؤمنين، ولقرابتهن من النبي صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى يقول: ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً ) – التحريم: 6 – ، مع أنه لا يتوقع منهن الفاحشة – وحاشاهن – وهذا شأن كل خطاب في القرآن والسنة، فإنه يراد به العموم، لعموم التشريع، ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ما لم يرد دليل يدل على الخصوصية، ولا دليل هنا، كالشأن في قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ) – الزمر: 65 – .
ولهذا فأحكام هاتين الآيتين وما ماثلهما هي عامة لنساء المؤمنين من باب الأولى، مثل: تحريم التأفيف في قول الله تعالى : ( فلا تقل لهما أفٍّ ) – الإسراء: 23 – فالضرب محرم من باب الأولى، بل في آيتي الأحزاب لِحاقٌ يدل على عموم الحكم لهن ولغيرهن، وهو قوله سبحانه : ( وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله ) وهذه فرائض عامة معلومة من الدين بالضرورة .
إذا علم ذلك ففي هاتين الكريمتين عدد من الدلالات على فرض الحجاب وتغطية الوجه على عموم نساء المؤمنين من وجوه ثلاثة :
الوجه الأول : النهي عن الخضوع بالقول : نهى الله سبحانه وتعالى أمهات المؤمنين، ونساء المؤمنين تبع لهن في ذلك عن الخضوع بالقول، وهو تليين الكلام وترقيقه بانكسار مع الرجال، وهذا النهي وقاية من طمع مَن في قلبه مرض شهوة الزنى، وتحريك قلبه لتعاطي أسبابه، وإنما تتكلم المرأة بقدر الحاجة في الخطاب من غير استطراد ولا إطناب ولا تليين خاضع في الأداء .
وهذا الوجه الناهي عن الخضوع في القول غاية في الدلالة على فرضية الحجاب على نساء المؤمنين من باب أولى، وإنَّ عدَم الخضوع بالقول من أسباب حفظ الفرج، وعدم الخضوع بالقول لا يتم إلا بداعي الحياء والعفة والاحتشام، وهذه المعاني كامنة في الحجاب، ولهذا جاء الأمر بالحجاب في البيوت صريحاً في الوجه بعده.
الوجه الثاني : في قوله تعالى : ( وقرن في بيوتكن ) وهذه في حجب أبدان النساء في البيوت عن الرجال الأجانب .
هذا أمر من الله سبحانه لأمهات المؤمنين، ونساء المؤمنين تبع لهن في هذا التشريع، بلزوم البيوت والسكون والاطمئنان والقرار فيها؛ لأنه مقر وظيفتها الحياتية، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة أو حاجة .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها )) رواه الترمذي وابن حبان .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى – الفتاوى: 15/ 297 – : (( لأن المرأة يجب أن تصان وتحفظ بما لا يجب مثله في الرجل، ولهذا خُصَّت بالاحتجاب وترك إبداء الزينة، وترك التبرج، فيجب في حقها الاستتار باللباس والبيوت ما لا يجب في حق الرجل، لأن ظهور النساء سبب الفتنة، والرجال قوامون عليهن )) انتهى.
وقال رحمه الله تعالى في – الفتاوى: 15/ 379 – : (( وكما يتناول غض البصر عن عورة الغير وما أشبهها من النظر إلى المحرمات، فإنه يتناول الغض عن بيوت الناس، فبيت الرجل يستر بدنه كما تستره ثيابه، وقد ذكر سبحانه غض البصر وحفظ الفرج بعد آية الاستئذان، وذلك أن البيوت سترة كالثياب التي على البدن، كما جمع بين اللباسين في قوله تعالى : ( والله جعل لكم مما خلقَ ظلاَلاً وجعل لكم من الجبال أكناناً وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرَّ وسرابيل تقيكم بأسكم ) – النحل: 81 – ، فكل منها وقاية من الأذى الذي يكون سموماً مؤذياً كالحر والشمس والبرد، وما يكون من بني آدم من النظر بالعين واليد وغير ذلك )) انتهى .
الوجه الثالث : قوله تعالى : ( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) .
لما أمرهن الله سبحانه بالقرار في البيوت نهاهن تعالى عن تبرج الجاهلية بكثرة الخروج، وبالخروج متجملات متطيبات سافرات الوجوه، حاسرات عن المحاسن والزينة التي أمر الله بسترها، والتبرج مأخوذ من البرج، ومنه التَّوسُّع بإظهار الزينة والمحاسن كالرأس والوجه والعنق والصدر، والذراع والساق ونحو ذلك من الخلقة أو الزينة المكتسبة؛ لما في كثرة الخروج أو الخروج مع السفور من الفساد العظيم والفتنة الكبيرة ووصف الجاهلية بالأولى وصف كاشف، مثل لفظ: ( كاملة )في قول الله تعالى : ( لك عشرة كاملة ) – البقرة: 196- .
ومثل لفظ: ( الأولى ) في قوله تعالى: ( وأنه أهْلَكَ عاداً الأولى ) – النجم:50 -.
والتبرج يكون بأمور يأتي بيانها في ( الأصل السادس ) إن شاء الله تعالى.
الدليل الثاني : آية الحجاب .
قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إنـَاه ولكن إذا دُعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً . إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليماً . لا جُناح عليهن في آبائهنَّ ولا أبنائهنَّ ولا إخوانهنَّ ولا أبناء إخوانهنَّ ولا أبناء أخواتهنَّ ولا نسائهنَّ ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيءٍ شهيداً ) – الأحزاب: 53/ 55] – .
الآية الأولى عُرفت باسم : آية الحجاب؛ لأنها أول آية نزلت بشأن فرض الحجاب على أمهات المؤمنين ونساء المؤمنين، وكان نزولها في شهر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة .
وسبب نزولها ما ثبت من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه : قلت:
يا رسول الله ! يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب. رواه أحمد والبخاري في الصحيح .
وهذه إحدى موافقات الوحي لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي من مناقبه العظيمة .
ولما نزلت حجب النبي صلى الله عليه وسلم نساءه عن الرجال الأجانب عنهن، وحجب المسلمون نساءهم عن الرجال الأجانب عنهن، بستر أبدانهن من الرأس إلى القدمين، وستر ما عليها من الزينة المكتسبة، فالحجاب فرض عام على كل مؤمنة مؤبد إلى يوم القيامة، وقد تنوعت دلالة هذه الآيات على هذا الحكم من الوجوه الآتـيـة:
الوجه الأول : لما نزلت هذه الآية حجب النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، وحجب الصحابة نساءهم، بستر وجوههن وسائر البدن والزينة المكتسبة، واستمر ذلك في عمل نساء المؤمنين، هذا إجماع عملي دال على عموم حكم الآية لجميع نساء المؤمنين، ولهذا قال ابن جرير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية – 22/ 39 -: (( ( وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ) يقول: وإذا سألتم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعاً، فاسألوهن من وراء حجاب، يقول: من وراء ستر بينكم وبينهن .. )) انتهى .
الوجه الثاني : في قول الله تعالى في آية الحجاب هذه : ( ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) علة لفرض الحجاب في قوله سبحانه : ( فاسألوهن من وراء حجاب ) بمسلك الإيماء والتنبيه، وحكم العلة عام لمعلولها هنا؛ لأن طهارة قلوب الرجال والنساء وسلامتها من الريبة مطلوبة من جميع المسلمين، فصار فرض الحجاب على نساء المؤمنين من باب الأولى من فرضه على أمهات المؤمنين، وهن الطاهرات المبرآت من كل عيب ونقيصة رضي الله عنهن.
فاتضح أن فرض الحجاب حكم عام على جميع النساء لا خاصاً بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن عموم علة الحكم دليل على عموم الحكم فيه، وهل يقول مسلم: إن هذه العلة : ( ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) غير مرادة من أحد من المؤمنين؟ فيالها من علة جامعة لم تغادر صغيرة ولا كبيرة من مقاصد فرض الحجاب إلا شملتها.
الوجه الثالث : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إلا إذا قام دليل على التخصيص، وكثير من آيات القرآن ذوات أسباب في نزولها، وقَصْرُ أحكامها في دائرة أسبابها بلا دليل تعطيل للتشريع، فما هو حظ المؤمنين منها ؟
وهذا ظاهر بحمد الله، ويزيده بياناً: أن قاعدة توجيه الخطاب في الشريعة، هي أن خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة؛ للاستواء في أحكام التكليف، ما لم يرد دليل يجب الرجوع إليه دالاًّ على التخصيص، ولا مخصص هنا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في مبايعة النساء: (( إني لا أصافح النساء، وما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة)) .
الوجه الرابع : زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات لجميع المؤمنين، كما قال الله تعالى :
( وأزواجه أمهاتهم ) – الأحزاب: 6 – ، ونكاحهن محرم على التأبيد كنكاح الأمهات:
( ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً ) [الأحزاب: 53] ، وإذا كانت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، فلا معنى لقصر الحجاب عليهن دون بقية نساء المؤمنين، ولهذا كان حكم فرض الحجاب عاماً لكل مؤمنة، مؤبداً إلى يوم القيامة، وهو الذي فهمه الصحابة رضي الله عنهم، كما تقدم من حجبهم نساءهم رضي الله عنهن .
الوجه الخامس : ومن القرائن الدالة على عموم حكم فرض الحجاب على نساء المؤمنين: أن الله سبحانه استفتح الآية بقوله: ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم .. ) وهذا الاستئذان أدب عام لجميع بيوت المؤمنينولا أحد يقول بقصر هذا الحكم على بيوت النبي صلى الله عليه وسلم دون بقية بيوت المؤمنين، ولهذا قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره [3/505] :
(( حُظر على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام، حتى غار الله لهذه الأمة فأمرهم بذلك، وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( إياكم والدخول على النساء )) الحديث .. )) انتهى .
ومَن قال بتخصيص فرض الحجاب على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لزمه أن يقول بقصر حكم الاستئذان كذلك، ولا قائل به.
الوجه السادس : ومما يفيد العموم أن الآية بعدها : ( لا جناح عليهن في آبائهن.. ) فإن نفي الجناح استثناء من الأصل العام، وهو فرض الحجاب، ودعوى تخصيص الأصل يستلزم تخصيص الفرع، وهذه دعوى غير مُسَلَّم إجماعاً، لما علم من عموم نفي الجناح بخروج المرأة أمام محارمها كالأب غير محجبة الوجه والكفين، أما غير المحارم فواجب على المرأة الاحتجاب عنهم .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية – 3/506- : (( لما أمر الله النساء بالحجاب عن الأجانب بيَّن أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب عنهم، كما استثناهم في سورة النور عند قوله تعالى : ( ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن.. ) الآية – النور: 31 – )) انتهى .
وتأتي الآية بتمامها في الدليل الرابع، وقد سمّاها ابن العربي رحمه الله تعالى : آية الضمائر؛ لأنها أكثر آية في كتاب الله فيها ضمائر .
الوجه السابع : ومما يفيد العموم ويبطل التخصيص: قوله تعالى: ( ونساء المؤمنين ) – في الآية: 59 من سورة الأحزاب – في قوله تعالى : ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ) وبهذا ظهر عموم فرض الحجاب على نساء المؤمنين على التأبيد.
الدليل الثالث : آية الحجاب الثانية الآمرة بإدناء الجلابيب على الوجوه:
قال الله تعالى : ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً ) – الأحزاب: 59 – .
قال السيوطي رحمه الله تعالى: (( هذه آية الحجاب في حق سائر النساء، ففيها وجوب ستر الرأس والوجه عليهن )) انتهى .
وقد خصَّ الله سبحانه في هذه الآية بالذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته؛ لشرفهن ولأنهن آكد في حقه من غيرهن لقربهن منه، والله تعالى يقول: ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً ) – التحريم: 6 – ، ثم عمم سبحانه الحكم على نساء المؤمنين، وهذه الآية صريحة كآية الحجاب الأولى، على أنه يجب على جميع نساء المؤمنين أن يغطين ويسترن وجوههن وجميع البدن والزينة المكتسبة، عن الرجال الأجانب عنهن، وذلك الستر بالتحجب بالجلباب الذي يغطي ويستر وجوههن وجميع أبدانهن وزينتهن، وفي هذا تمييز لهن عن اللائي يكشفن من نساء الجاهلية، حتى لا يتعرضن للأذى ولا يطمع فيهن طامع .
والأدلة من هذه الآية على أن المراد بها ستر الوجه وتغطيته من وجوه، هي:
الوجه الأول : معنى الجلباب في الآية هو معناه في لسان العرب، وهو: اللباس الواسع الذي يغطي جميع البدن، وهو بمعنى: الملاءة والعباءة، فتلبسه المرأة فوق ثيابها من أعلى رأسها مُدنية ومرخية له على وجهها وسائر جسدها، وما على جسدها من زينة مكتسبة، ممتداً إلى ستر قدميها .
فثبت بهذا حجب الوجه بالجلباب كسائر البدن لغةً وشرعاً .
الوجه الثاني : أن شمول الجلباب لستر الوجه هو أول معنى مراد؛ لأن الذي كان يبدو من بعض النساء في الجاهلية هو: الوجه، فأمر الله نساء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بستره وتغطيته، بإدناء الجلباب عليه، لأن الإدناء عُدِّي بحرف على، وهو دال على تضمن معنى الإرخاء، والإرخاء لا يكون إلا من أعلى، فهو هنا من فوق الرءوس على الوجوه والأبدان .
الوجه الثالث : أن ستر الجلباب للوجه وجميع البدن وما عليه من الثياب _ الزينة المكتسبة – هو الذي فهمه نساء الصحابة رضي الله عنهم، وذلك فيما أخرجه عبد الرزاق في المصنف عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لما نزلت هذه الآية ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : رحم الله تعالى نساء الأنصار، لما نزلت: ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ) الآية شَقَقن مُرُوطهن، فاعتجرن بها، فصَلَّين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما على رءوسهن الغربان . رواه ابن مردويه .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله (وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) شققن مروطهن فاختمرن بها . رواه البخاري في صحيحه .
والاعتجار : هو الاختمار، فمعنى: فاعتجرن بها، واختمرن بها: أي غطين وجوههن.
وعن أم عطية رضي الله عنها قالت : (( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى، العواتق، والـحُيَّض، وذوات الخدور، أمَّـا الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها )) متفق على صحته .
وهذا صريح في منع المرأة من بروزها أمام الأجانب بدون الجلباب، والله أعلم.
الوجه الرابع : في الآية قرينة نصية دالة على هذا المعنى للجلباب، وعلى هذا العمل الذي بادر إليه نساء الأنصار والمهاجرين رضي الله عن الجميع بستر وجوههن بإدناء الجلابيب عليها، وهي أن في قوله تعالى: ( قل لأزواجك ) وجوب حجب أزواجه صلى الله عليه وسلم وستر وجوههن، لا نزاع فيه بين أحد من المسلمين، وفي هذه الآية ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم مع بناته ونساء المؤمنين، وهو ظاهر الدلالة على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب على جميع المؤمنات .
الوجه الخامس : هذا التعليل ( ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) راجع إلى الإدناء، المفهوم من قوله : ( يدنين ) وهو حكم بالأولى على وجوب ستر الوجه؛ لأن ستره علامة على معرفة العفيفات فلا يؤذين، فهذه الآية نص على ستر الوجه وتغطيته، ولأن من تستر وجهها لا يطمع فيها طامع بالكشف عن باقي بدنها وعورتها ، فصار في كشف الحجاب عن الوجه تعريض لها بالأذى من السفهاء، فدل هذا على التعليل على فرض الحجاب على نساء المؤمنين لجميع البدن والزينة بالجلباب، وذلك حتى يعرفن بالعفة، وأنهن مستورات محجبات بعيدات عن أهل الرّيب والخنا، وحتى لا يفتتن ولا يفتن غيرهن فلا يؤذين .
ومعلوم أن المرأة إذا كانت غاية في الستر والانضمام، لم يقدم عليها من في قلبه مرض، وكّـفَّت عنها الأعين الخائنة، بخلاف المتبرجة المنتشرة الباذلة لوجهها، فإنها مطموع فيها .
واعلم أن الستر بالجلباب، وهو ستر النساء العفيفات، يقتضي – كما تقدم في صفة لبسه – أن يكون الجلباب على الرأس لا على الكتفين، ويقتضي أن لا يكون الجلباب -العباءة- زينة في نفسه، ولا مضافاً إليه ما يزينه من نقش أو تطريز، ولا ما يلفت النظر إليه، وإلا كان نقضاً لمقصود الشارع من إخفاء البدن والزينة وتغطيتها عن عيون الأجانب عنها .
ولا تغتر المسلمة بالمترجلات اللاتي يتلذذن بمعاكسة الرجال لهن، وجلب الأنظار إليهن، اللائي يُـعْلنَّ بفعلهن تعدادهن في المتبرجات السافرات، ويعدلن عن أن يكن مصابيح البيوت العفيفات التقيات النقيات الشريفات الطيبات، ثبّت الله نساء المؤمنين على العفة وأسبابها .
الدليل الرابع : في آيتي سورة النور :
قال الله تعالى : ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون . وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدن زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) – النور: 30/31 – .
تعددت الدلالة في هاتين الآيتين الكريمتين على فرض الحجاب وتغطية الوجه من وجوه أربعة مترابطة، هي :
الوجه الأول : المر بغضِّ البصر وحفظ الفرج من الرجال والنساء على حدٍّ سواء في الآية الأولى وصدر الآية الثانية، وما ذاك إلا لعظم فاحشة الزنى، وأن غض البصر وحفظ الفرج أزكى للمؤمنين في الدنيا والآخرة، وأبعد عن الوقوع في هذه الفاحشة، وإن حفظ الفرج لا يتم إلا ببذل أسباب السلامة والوقاية، ومن أعظمها غض البصر، وغض البصر لا يتم إلاّ بالحجاب التام لجميع البدن، ولا يرتاب عاقل أن كشف الوجه سبب للنظر إليه، والتلذذ به، والعينان تزنيان وزناهما النظر، والوسائل لها أحكام المقاصد، ولهذا جاء الأمر بالحجاب صريحاً في الوجه بعده.
الوجه الثاني : ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) أي: لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب عن عمد وقصد، إلا ما ظهر منها اضطراراً لا اختياراً، مما لا يمكن إخفاؤه كظاهر الجلباب – العباءة، ويقال: الملاءة – الذي تلبسه المرأة فوق القميص والخمار، وهي ما لا يستلزم النظر إليه رؤية شيء من بدن المرأة الأجنبية، فإن ذلك معفوٌّ عن .
وتأمل سِراًّ من أسرار التنزيل في قوله تعالى : ( ولا يبدين زينتهن ) كيف أسند الفعل إلى النساء في عدم إبداء الزينة متعدياً وهو فعل مضارع: ( يُبدين ) ومعلوم أن النهي إذا وقع بصيغة المضارع يكون آكد في التحريم، وهذا دليل صريح على وجوب الحجاب لجميع البدن وما عليه من زينة مكتسبة، وستر الوجه والكفين من باب أولى .
وفي الاستثناء ( إلا ما ظهر منها ) لم يسند الفعل إلى النساء، إذ لم يجئ متعدياً، بل جاء لازماً، ومقتضى هذا: أن المرأة مأمورة بإخفاء الزينة مطلقاً، غير مخيرة في إبداء شيء منها، وأنه لا يجوز لها أن تتعمد إبداء شيء منها إلا ما ظهر اضطراراً بدون قصد، فلا إثم عليها، مثل: انكشاف شيء من الزينة من أجل الرياح، أو لحاجة علاج لها ونحوه من أحوال الاضطرار، فيكون معنى هذا الاستثناء: رفع الحرج، كما في قوله تعالى: ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ) [البقرة: 286] ، وقوله تعالى: ( وقد فصَّل لكم ما حرَّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ) – الأنعام: 119] .
الوجه الثالث : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) : لما أوجب الله على نساء المؤمنين الحجاب للبدن والزينة في الموضعين السابقين، وأن لا تتعمد المرأة إبداء شيء من زينتها، وأن ما يظهر منها من غير قصد معفو عنه، ذكر سبحانه لكمال الاستتار، مبيناً أن الزينة التي يحرم إبداؤها، يدخل فيها جميع البدن، وبما أن القميص يكون مشقوق الجيب عادة بحيث يبدو شيء من العنق والنحر والصدر، بيَّن سبحانه وجوب ستره وتغطيته، وكيفية ضرب المرأة للحجاب على ما لا يستره القميص، فقال عز شأنه : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن )، والضرب: إيقاع شيء على شيء، ومنه: ( ضربت عليهم الذلة ) – آل عمران: 112 – أي: التحفتهم الذلة التحاف الخيمة بمن ضُربت عليه .
والـخُمر: جمع خِمار، مأخوذ من الخمر، وهو: الستر والتغطية، ومنه قيل للخمر خمراً؛ لأنها تستر العقل وتغطيه، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في – فتح الباري: 8/489 – : (( ومنه خمار المرأة؛ لأنه يستر وجهها )) . انتهى .
ويقال: اختمرت المرأة وتخمَّرت، إذا احتجبت وغطَّت وجهها .
والجيوب مفردها: جيب، وهو شق في طول القميص .
فيكون معنى : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) أمر من الله لنساء المؤمنين أن يلقين بالخمار إلقاء محكماً على المواضع المكشوفة، وهي: الرأس، والوجه، والعنق، والنحر، والصدر. وذلك بِلَفِّ الخمار الذي تضعه المرأة على رأسها، وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر، وهذا هو التقنع، وهذا خلافاً لما كان عليه أهل الجاهلية من سدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما هو قدامها، فأمرن بالاستتار.
ويدل لهذا التفسير المتسق مع ما قبله، الملاقي للسان العرب كما ترى، أن هذا هو الذي فهمه نساء الصحابة رضي الله عن الجميع، فعملن به، وعليها ترجم البخاري في صحيحه، فقال: (( باب: وليضربن بخمرهن على جيوبهن)) ، وساق بسنده حديث عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) شققن مروطهن فاختمرن بها.
قال ابن حجر في – الفتح: 8/489 – في شرح هذا الحديث: (( قوله: فاختمرن: أي غطين وجوههن – وذكر صفته كما تقدم – )) انتهى .
ومَن نازع فقال بكشف الوجه؛ لأن الله لم يصرح بذكره هنا، فإنا نقول له: إن الله سبحانه لم يذكر هنا: الرأس، والعنق، والنحر، والصدر، والعضدين، والذراعين، والكفين، فهل يجوز الكشف عن هذه المواضع؟ فإن قال: لا، قلنا: والوجه كذلك لا يجوز كشفه من باب أولى؛ لأنه موضع الجمال والفتنة، وكيف تأمر الشريعة بستر الرأس والعنق والنحر والصدر والذراعين والقدمين، ولا تأمر بستر الوجه وتغطيته، وهو أشد فتنة وأكثر تأثيراً على الناظر والمنظور إليه؟
وأيضاً ما جوابكم عن فهم نساء الصحابة رضي الله عن الجميع في مبادرتهن إلى ستر وجوههن حين نزلت هذه الآية ؟
الوجه الرابع : ( ولا يضربن بأرجلهن لـيُعلم ما يخفين من زينتهن ) :
لما أمر الله سبحانه بإخفاء الزينة، وذكر جل وعلا كيفية الاختمار، وضربه على الوجه والصدر ونحوهما، نهى سبحانه لكمال الاستتار، ودفع دواعي الافتتان، نساء المؤمنين إذا مشين عن الضرب بالأرجل، حتى لا يُصوَّت ما عليهن من حلي، كخلاخل وغيرها، فتعلم زينتها بذلك، فيكون سبباً للفتنة، وهذا من عمل الشيطان.
وفي هذا الوجه ثلاث دلالات:
الأولى : يحرم على نساء المؤمنين ضرب أرجلهن ليعلم ما عليهن من زينة.
الثانية : يجب على نساء المؤمنين ستر أرجلهن وما عليهن من الزينة، فلا يجوز لهن كشفها.
الثالثة : حرَّم الله على نساء المؤمنين كل ما يدعو إلى الفتنة، وإنه من باب الأولى والأقوى يحرم سفور المرأة وكشفها عن وجهها أمام الأجانب عنها من الرجال؛ لأن كشفه أشد داعية لإثارة الفتنة وتحريكها، فهو أحق بالستر والتغطية وعدم إبدائه أمام الأجانب، ولا يستريب في هذا عاقل .
فانظر كيف انتظمت هذه الآية حجب النساء عن الرجال الأجانب من أعلى الرأس إلى القدمين، وإعمال سد الذرائع الموصلة إلى تعمد كشف شيء من بدنها أو زينتها خشية الافتتان بها، فسبحان من شرع فأحكم .[/CENTER]
يتبع
منقول للامانة