السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحج وفضائلهألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم – حفظه الله – خطبة الجمعة بعنوان: "الحج وفضائله"، والتي تحدَّث فيها عن فضائل الحج وبيان عِظَم منافعه الدنيوية والأخروية، ثم ذكَّر في خطبته الثانية بضرورة الإكثار من الأعمال الصالحة في أيام العشر واغتنامها بما ينفعُ العبدَ في الدارَين.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله – عباد الله – حقَّ التقوى، وراقِبوه في السرِّ والنجوى.
أيها المسلمون:
الله – سبحانه – هو الغنيُّ القويُّ، وما سواه مُفتقِرٌ إليه مُحتاجٌ له؛ فلم يخلُق الخلقَ تكثُّرًا بهم ولا تقويةً لجلاله؛ بل خلقَهم لحكمةٍ عظيمةٍ هي: عبادتُهم له، وبعبادتهم له يسعَدون.
ولفضله ورحمته بخلقه شرعَ لهم أعمالاً أقوالاً يتقرَّبون بها إليه، ولتتضاعَفَ أجورُهم ولتُقضَى عنده حاجاتُهم، وفاضَلَ – سبحانه – بين عباداته فجعل تحقيقَ التوحيد والعملَ به واجتنابَ نواقِضه أجلَّ عملٍ يُحبُّه الله، وإظهارَ هذه العبادة بالقول أزكى الأقوال إليه، قال – عليه الصلاة والسلام -: «أحبُّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»؛ رواه مسلم.
بل جعل – سبحانه – توحيدَه شرطًا لقَبول أي عملٍ صالحٍ، وإن انتقضَ هذا الشرطُ لم ينتفِعِ العبدُ بعمله ورُدَّ إليه، قال – سبحانه -: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين) [الزُّمَر:65].
ولتحقيق أساس الدين وإظهاره في أقوال العباد وأعمالهم نوَّع – سبحانه – الطاعات والأعمال الصالحة ليُعظَّمَ الربُّ في كل حين، فما أن ينتهي موسمٌ إلا ويعقُبُه بموسمٍ آخر يُظهِرون فيه توحيدَه – سبحانه – والتذلُّل إليه.
فشرعَ – سبحانه – أطولَ عبادةٍ بدنيَّةٍ مُتصلةٍ يتلبَّسون بها أيامًا لإظهار إفراد الله بالعبادة وحده، وأن عبادة ما سواه باطلة، ولتكُو بها أبدانُهم وأموالُهم، وتطهُر بها قولبُهم وأفواهُهم، فمن أدَّاها كما أمره الله عادَت صحائِفُ أعماله بلا أدرانٍ ولا خطايا، قال – عليه الصلاة والسلام -: «من أتَى هذا البيتَ فلم يرفُث ولم يفسُق رجعَ كيوم ولدَتْه أمُّه»؛ متفق عليه.
ويتعرَّضُ الحُجَّاج في هذه العبادة لنفَحَاتِ ربهم في مكانٍ عظيم، وفي يومٍ هو أكثرُ أيامٍ تُعتقُ فيه الرقابُ من النار، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «ما من يومٍ أكثرُ من يُعتِقَ اللهُ فيه عبدًا من النار من يومِ عرفة، وإنه ليدنُو ثم يُباهِي بهم الملائكة، فيقولُ: ما أراد هؤلاء؟»؛ رواه مسلم.
ومن كان حافظًا لحجِّه مما حرَّم الله وعدَه الله بالجنة، قال – عليه الصلاة والسلام -: «الحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة»؛ متفق عليه.
الحجُّ ركنٌ من أركان الدين مليءٌ بالمنافع والعِبَر، أمرَ – سبحانه – فِعلَه في أطهر بُقعةٍ وأشرفِها، ليجتمِعَ شرفُ العمل والمكان، بنى الخليلُ فيها بيتَ الله وأسَّسه على التقوى والإخلاص، وأبقَى الله ما بناه إبراهيم ليرَى العبادُ أنه لا يبقى من العمل إلا ما كان خالصًا لوجه الله.
ويستفتِحُ الحُجَّاجُ عبادتَهم بإظهار الوحدانية لله وحده، والبراءة من عبادة ما سواه: "لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريكَ لك لبَّيك".
والشهادةُ لا تتمُّ إلا بطاعة النبي – صلى الله عليه وسلم – واقتفاءِ أثَره، وتقبيلُ الحجر الأسود منهجٌ في الطاعة والابتاع، فتقبيلُه تعبُّدًا لا تبرُّكًا بالحجر، فهو لا ينفعُ ولا يضُرُّ.
جاء عمر – رضي الله عنه – إلى الحجَر فقبَّله فقال: "إني أعلمُ أنك حجرٌ لا تضُرُّ ولا تنفَع، ولولا أني رأيتُ النبي – صلى الله عليه وسلم – يُقبِّلُك ما قبَّلتُك"؛ رواه البخاري.
وفي التلبُّس بالإحرام دعوةٌ للنفس إلى عصيان الهوى؛ فلا لُبس مخيطٍ ولا مسَّ طِيبٍ ولا خِطبةَ نكاح.
وسوادُ الحجر الأسود تذكيرٌ للعباد بشُؤم المعصيةِ حتى على الجمادات، وعِظَمُ أثرها على القلب أشدُّ، قال – عليه الصلاة والسلام -: «نزلَ الحجرُ الأسودُ وهو أشدُّ بياضًا من اللبن، فسوَّدَته خطايا بني آدم»؛ رواه الترمذي.
ويرى الحاجُّ أثرَ المعصية على العاصي، فإبليسُ ظهر على إبراهيم ثلاث مراتٍ ليمنَعه عن امتثال أمر ربِّه بذبح ابنه إسماعيل، فرماهُ الخليلُ بالحجَر مُهينًا ومُظهِرًا له العداوة، وعودةُ خروجه على الخليل تذكيرٌ من الله لنا بأن إبليس يُعاوِدُ وسوستَه لبني آدم وفي عدة مواطن.
والحجُّ إعلامٌ بأن الإسلامَ هو الدينُ الحق، فلا ترى خلقًا يجتمعون من بِقاع الأرض على تبايُن أجناسِهم ومواطِنهم وطبقاتهم إلا في الحج، وهذا من عظمة الإسلام.
وفي الحجِّ إظهارُ معنًى من معاني الربوبية، وأن قلوبَ العباد يُصرّفُها الله كيف يشاء، فيرى الحاجُّ وغيرُه أن الهدايةَ بيد الله وحده، يمنحُها للفقير وللمرأة وللعاجز وللآفاقي والعجمي، وقد يُحرَمُ منها الغنيُّ القويُّ القادر، وفضلُ الله يُؤتيه من يشاء.
وفي أداء هذا الركن انتظامُ عبادةٍ بعد أخرى، ودقَّةٌ في العمل والزمن، فعبادةٌ بالليل؛ كالمبيت بمُزدلِفة، وأخرى بالنهار؛ كالوقوف بعرفة، وعبادةٌ باللسان بالتكبير والتلبية، وأخرى بالجوارح؛ كالرمي والطواف، وفي هذا إيماءٌ إلى أن حياةَ المسلم كلَّها لله.
والأعمالُ بالخواتيم، وقد يُرى أثرُ خِتامها في المحشَر؛ فالمُتصدِّقُ يُظلُّ تحت ظلِّ صدقَته، والعادلُ في حُكمه على منابِرَ عن يمين الرحمن، ومن مات مُحرِمًا بُعِثَ مُلبِّيًا.
وعلى العبد إذا انشقَّ فجرُ يومه أن يُعِدَّه خِتامَ عُمره، عملاً بقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «كُن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابِرُ سبيلٍ»؛ رواه البخاري.
ومن علَّق قلبَه بالله والدارِ الآخرة وقصَّرَ أملَه في الدنيا وتزوَّد بزاد التقوى ظفَرَ بالنجاة والفلاح.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير) [الحج:27، 28].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون:
خصَّ الله أمكنةً بالشرفِ والفضلِ، واختارَ الله من العام أزمِنةً يزكُو بها العملُ الصالحُ ويتضاعَف، فاختارَ من الشهور: أشهُر الحجِّ ورمضان، ومن الليالي والأيام: العشرَ الأخيرَة من رمضان وعشرَ ذي الحجَّة، وأيامُ ذي الحجَّة تفضُلُ على أيام العشرِ الأواخِر من رمضان؛ قال – عليه الصلاة والسلام -: «ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام – يعني: أيام العشر -». قالوا: يا رسول الله: ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهادُ في سبيل الله، إلا رلٌ خرجَ بنفسه وماله فلم يرجِع من ذلك بشيءٍ»؛ رواه الترمذي.
ومن العمل الصالح فيها: المزيدُ من برِّ الوالدين وصِلَة الرَّحِم، والصدقَة والصوم، والذكر وتلاوة القرآن، وتفريجِ الكُرُوب والتكبير.
وكان الصحابةُ – رضي الله عنهم – يُكبِّرون حتى في الأسواق.
أيها المسلمون:
فاضَلَ الله بين أحوالِ الناس في الحياة؛ فمنهم من يُوفَّقُ إلى فعل الخيراتِ والمُسارعَةِ إلى الحسنات، والاستجابةِ إذا طُلِبَت منه معونةٌ أو تفريجُ كُربةٍ يحتسِبُ ذلك عند ربِّه عالمًا بأن ما عند الله خيرٌ وأبقى، وهذا الصِّنفُ من الناس يُسعِدُه أن يقضِي حاجةً، أو أن يُعينَ مريضًا، أو يُؤوِي فقيرًا، أو يُطعِم جائعًا، أو يُفرِّجَ كُربةً، فترى القلوبَ له مُحبَّةً، والألسُن له داعيةً، ولفقدِه حزينة.
ومن الناس من يُحرَمُ مثل ذلك، ولا يُسارِعُ إلى فعل الطاعات.
فاحرِصوا أن تكونوا من السبَّاقين؛ فإنكم مُلاقُوا ربِّكم ومجزيُّون بأعمالكم، وتذكَّروا قولَ الله – سبحانه -: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين) [آل عمران:133، 134]، وقولَه – سبحانه -: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه) [الزلزلة:7، 8].
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّه، فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجُودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم سلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرين، اللهم اجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، وأعِدهم إلى بلادهم سالِمين غانِمين، واجمَع كلمتَهم على الحقِّ والبرِّ والتوحيد يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا لهداك، وألبِسه لباسَ الصحة والعافية، ووفِّق وسدِّد وليَّ عهده واجعله ناصيةَ خيرٍ وبرٍّ للإسلام والمسلمين، اللهم اغفر لفقيد هذه البلاد، وارفع درجتَه في المهديين، واجبُر كسرَ مُصاب المسلمين به يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين) [الأعراف:23].
عباد الله:
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.