حكمة نزول القرآن منجما:
وقد يسأل سائل: لماذا نزل القرآن منجمًا ولم ينزل دفعة واحدة كما نزلت الألواح العشر على موسى -عليه السلام، وكما نزل الزبور على داود؟ وإن مثل هذا السؤال جاء على ألسنة المشركين معترضين، متخذين منه سبيلًا للجاتهم، وقد نقل القرآن الكريم عنهم ذلك وردَّه، فقد قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32]. ونرى أن النص الكريم قد نقل اعتراض المشركين، ورده -سبحانه وتعالى- عليهم، وقد تضمَّن الرد ثلاثة أمور تومئ إلى السب في نزوله منجمًا:
أولها: تثبيت فؤاد الرسول بموالاة الوحي بالقرآن، وتثبيت لعزيمته، وتأيد مستمرله، فيقوم بحق الدعوة بالجهاد في سبيلها، كلما تنزل عليه الروح الأمينبكلام رب العالمين في موالاة مستمرة.
ثانيها: إن تثبيت الفؤاد بنزولالقرآن يكون بحفظ ما ينزل عليه جزءًا جزءًا؛ ذلك أن هذا القرآن نزل ليحفظفي الأجيال كلها جيلًا بعد جيل، وما يحفظ في الصدور لا يعتريه التغير ولاالتبديل، وما يكتب في السطور قد يعتريه المحو والإثبات والتحريف والتصحيف
وهناكسب آخر لنزول القرآن منجمًا نلمسه من حال العرب ومن شئونهم؛ ذلك أن العربكانوا أمَّة أمية، والكتابة فيهم ليست رائجة، بل يندر فيهم من يعرفها،وأندر منه من يتقنها، فما كان في استطاعتهم أن يكتبوا القرآن كله إذا نزلجملة واحدة؛ إذ يكون بسوره وآياته عسيرًا عليهم أن يكتبوه، وإن كتبوه لايعدموا الخطأ والتصحيف والتحريف.
ولقد كان من فائدة إنزال القرآنمنجَّمًا أنه كان ينزل لمناسبات ولأحداث، فيكون في هذه الأحداث بعض البيانلأحكامه، والمبيِّن الأول هو النبي -صلى الله عليه وسلم.
الآيات المكية
والآيات المكية فيها بيان العقيدة الإسلامية، وبطلان عبادةالأوثان ومجادلة المشركين والدعوة إلى التوحيد، ومخاطبة العرب، وفيها قصالأنبياء الذين جاءوا إلى بلاد العرب ولهم آثار في أجزائها تنادي بما صنعأقوامهم، وما أصابهم الله تعالى بكفرهم من حاصب، ومن خسف جعل عالي ديارهمسافلها، ومن ريح صرصر عاتية.
ولم يكن في الآيات المكية أحكام للمعالت، face=homوإن كان فيها إشارات إلى المحرمات كالخمر والربا، فقد قال تعالى مشيرًاإلى أن الخمر أمر غير حسن: {وَمِنْثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًاوَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 67]، فإن هذا النص الكريم يشير إلى أن الخمر ليست أمرًا حسنًا؛لأنه -سبحانه وتعالى- جعلها مقابلة للأمر الحسن، ولا يقابل الحسن إلّاالقبيح، أو على الأقل الأمر غير الحسن.
ولقد جاء أيضًا في سورة الروم مايشير إلى أن الربا أمر غير مستحسن، فقد قال تعالى في سورة الروم: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِالنَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ الَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍتُرِيدُونَ وَجْهَ الَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39]إن عدم وجود أحكام للمعالت في مكة سبه أن الدولة التيكانت قائمة كانت دولة شرك، وأن من المستحيل أن تنفذ أحكام المعاملاتالإسلامية في ظلها، وكان الاتجاهالأول إلى إخراجها من الشرك وإدخالها في التوحيد أولًا، ثم من بعد ذلكتكون الدولة الإسلامية المنفذة، ولكن المحرمات كانت ثابتة في أول تشريعالإسلام، وإن كان مسكوتًا عنها، فلم تكن موضع إباحة، بل كانت موضع سكوتوعفو حتى ينزل التشريع بتحريمها تحريمًا قاطعًا، فما كانت الخمر مباحة،ولكن كان مسكوتًا عنها، أو كانت في مرتبة العفوِ كما يقول علماء الأصول،حتى إذا كان المنع الصريح في المدينة كان معه العقاب، وهكذا كل ما كانمسكوتًا عنه لم يكن موضع إباحة.
الآيات المدنية
ولما انتقل النبي -صلى الله عليه وسلم– إلى المدينة كان التنظيم الكامل للمعالت؛ لأنه وجدت دولة إسلامية فاضلة،تنظِّم العلاقات بين الناس، وتقوم على تنفيذها، والقضاء بها، فنظم التعامل،وابتدأ بأعلى أنواع التعاون بين الناس وهو الإخاء الذي آخى فيه النبي -صلىاله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار، والأنصار بعضهم مع بعض،والمهاجرين بعضهم مع بعض، وشرعت النظم الاجتماعية، والمعاملات الإنسانية؛من أحكام للبيوع والمزارعات، وتحريم للربويات وغيرها. وفرضية الصدقاتوتنظيمها، وإعطاء الفقير حقه، والتنظيم الاجتماعي الكامل، وشرعت الزواجرالاجتماعية من حدود وقصاص، وسُنَّت الأحكام الفاصلة بين الحقوق، وفتح بابالجهاد، وضعت نظم الحرب، وقامت العلاقات الدولية على أس متينة محكمة،يراعى فيها حق العدو، كما يلاحظ حق الولي على سواء؛ لأن المبادئ المدنية فيالإسلام قامت على إعطاء كل ذي حق حقه من غير بخس ولا شط، ولا مجاوزة للحد face=homولا اعتداء.
ويلاحظ أن مبادئ العدالة جاءت مع وجود الشريعة الإسلامية،وقد دعا إليها القرآن الكريم في مكة والمدينة؛ لأن العدالة حق ابتدائي لايختلف في دولة عن دولة، فهو يتعلق بالنفس الإنسانية في ذاتها.
فالأمربالعدالة والإحسان والوفاء بالعهد جاء في سورة النحل، وهي مكبة عند نظرالأكثرين؛ لأن الله تعالى يقول فيها وهو أحكم القائلين: {إِنَّ الَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِوَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِوَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ،وَأَوْفُوا بِعَهْدِ الَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُواالْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ الَّهَ عَلَيْكُمْكَفِيلًا إِنَّ الَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، وَلَا تَكُونُواكَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَأَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْأُمَّةٍ} [النحل: 90-92].
ويلاحظأنَّه جعل سورة النحل من السور المدنية، ولكن المذكور في المصاحف التي بينأيدينا أنها مكية، ولعلَّ فيها روايتين.
م ن ق و ل