ليس التدين ضميراً مستتراً في القلب ومنفصلاً عن أعمال الجوارح، بل إن ما في القلب يبرز في الظاهر، ويتصل بالسلوك الخارجي والعكس. "ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"، ومن ادّعى أنه يحب النظافة ويقدر الطهارة ومع ذلك لا نراه إلاّ في جسد منتن تفوح منه الروائح الكريهة، يواريه بثياب ملوثة فهو كاذب في دعواه، ولو حلف تحت أستار الكعبة، إلاّ إذا علمنا أنه لا يجد ماء يتطهر به، ولا يملك ثوباً نقياً يوراي سوأته.
ومن تأمل العبادات في شريعتنا وجد التلازم بين أعمال الظاهر وأعمال الباطن؛ فالصلاة (مثلاً) عبادة قلبية قبل أن تكون عبادةً ظاهرة، والمسلم فيها قبل أن يتوجّه بجسده إلى القبلة يتوجّه قبل ذلك بقلبه إلى ربه، وبقدر إتقانه لعمل القلب يتقن عمل الجوارح (ولو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه). كما أن المسلم حين يخرج الزكاة ظاهراً فإنه يطهّر باطنه قبل ذلك من رذيلة البخل، معلناً عن تقديمه محبة ربه على حبه للمال. ومثل ذلك (عبادة الحجاب) للمرأة، فهو قبل أن يكون رداء خارجياً يواري زينتها ومفاتنها فهو إعلان عن انقيادها التام واستجابتها المطلقة لأمر خالقها (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً). [الأحزاب:59] ولو كان في ذلك مخالفة لهوى نفسها (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى). [النازعات:40-41].
إن نظرة عميقة في الشريعة الربانية تجلي لنا أنها بجانب عنايتها الفائقة بإصلاح القلوب وتزكية النفوس، فإنها اعتنت كذلك بمسألة صلاح الظاهر، ومن ذلك العناية بشأن اللباس والزي، فليس في الشريعة إهمال لهما أو تهميش لأثرهما في شخصية المسلم، بل إننا نرى تأكيداً على ارتباط اللباس والزي بالأخلاق والسلوك، ومن ذلك مثلاً أنه قد جاء في الحديث لُعن الرجل الذي يلبس لبسة المرأة والمرأة التي تلبس لبسة الرجل، ولو لم يكن للبس الرجل لبسة المرأة (والعكس) تأثير على سلوكهما وأخلاقهما لما جاء الوعيد الشديد الذي وصل إلى درجة الطرد والإبعاد من رحمة الله، كما نجد أن من اهتمام النبي صلَّى اللَّه عليْه وَسَلَّم بشأن الزي الظاهر وإدراك عميق أثره في الباطن أنه أنكر على عبد اللَّه بن عمرو بن العاص -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- لبْسه ثوبين معصفرين معللاً ذلك بقوله: "إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها". يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في شأن تأثير الظاهر على الباطن: "إن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس؛ فإن اللابس لثياب أهل العلم ـ مثلاً ـ يجد في نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة ـ مثلاً ـ يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضياً لذلك". ولذا كان مصطفى كمال أتاتورك مدركاً لهذا الملحظ حين فرض القبعة لباساً وطنياً للشعب التركي؛ لأنه أراد بذلك تغيير نفس لا تغيير ملبس؛ إذ إن الملبس يحكم تصرفات الإنسان إلى حد بعيد، وعلى نهجه سار تلاميذه من علمانيي تركيا الذين جعلوا من الحجاب أحد معاركهم الكبرى، وما ذاك إلاّ لأنهم يدركون أن حقيقة الحجاب أكبر من أن تكون قطعة قماش توضع على الرأس أو تقليداً اجتماعياً كسائر التقاليد؛ فهم يدركون أنه رمز كبير ومعلم بارز على التدين الذي أرادوه مستتراً في ضمير المتعبد دون أن يظهر على سلوكه وزيه ومعاملاته.
وإن من الجهل العظيم وقلة البصيرة في الدين أن يظن ظانّ "أنه لا علاقة بين حجاب المرأة وبين أخلاقها!! وأنها قد تكون في قمة أخلاقها وتدينها ولو لم ترتد حجاباً، أو ترتدي حجاباً لعبت فيه خطوط الموضة وضروب الزينة ما جرده من مقصده الشرعي!!". وهذا الوهم وإن كان بعضهم قد صرح به لفظاً فإننا نرى تصريحاً به واقعاً وحالاً من بعض النساء في الأسواق والمجمّعات العامة واللاتي غدا حجاب المرأة منهن مسرحاً للتغيير حسب صرعات الموضة، وأصبحت هذه الأماكن ميداناً للتنافس في إبراز المفاتن ولفت الأنظار واستعراض الجمال، حتى غدا للسوق (مكياجاً) خاصاً به!!
مَن ظن هذا الظن، وأراد بتر العلاقة بين لباس المرأة و حجابها الشرعي، وبين تدينها وأخلاقها، ودعا إلى ترك الحرية لها للتزين بما تشاء ولمن تشاء مادامت واثقة من شرفها وكرامتها!!
مَن ظن هذا الظن هو في الحقيقة يجهل أو يتجاهل أن الحجاب فريضة ربانية وجزءٌ لا يتجزأ من تدين المرأة وأخلاقها، شأنه في ذلك شأن بقية العبادات؛ كالصلاة وبر الوالدين وصلة الأرحام، ومن ثم كان التهاون في شأن الحجاب أمارة على رقة الدين وضعف الاستجابة لأمر الخالق الحكيم الذي شرع الحجاب لحكم عظيمة ومقاصد جليلة، منها:
حماية المرأة من الأعين الجائعة
والقلوب الزائغة
والنفوس المريضة التي تستهدف كل امرأة رأوا منها تبرجاً، وربما تعرضوا لها بالأذى النفسي والبدني (ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ)
وليست المرأة المتبرجة بحاجة أن تنتظر حدوث الأذى والتحرش(أيًّا كان نوعه) لكي تثبت للناس عفتها وطهارتها (بلسانها) حين ظهر أمامهم ما يشكك في ذلك، فهم لا يرون إلاّ الظاهر الذي ربما أرسل لهم رسالة بأن الطريق إليها سهل يسير، ومن مقاصد (حجاب الحشمة لا حجاب الإغراء ) مواراة الزينة، وتجفيف منابع الفتنة والإغراء، ومواطن الإثارة في المجتمع، وإشاعة أجواء النظافة والعفة للفرد والجماعة، وتطهير قلوب الرجال والنساء (أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)، ولا شك أن هذا الحجاب المطهر للقلوب هو البعيد عن مظاهر الفتنة والإغراء، أما ذاك الحجاب الذي أصبح في نفسه زينة وإغراء فهو مفسدة للقلوب وممرض للنفوس.
كما أن الحجاب الحقيقي (العاري من مثيرات الفتنة) تكريم للمرأة، حين يبرزها إنساناً دون أن يختزلها في جسد يمتع الناظرين، وذلك بحجبه للجانب البدني والمادي في جسدها لصالح إظهار الجانب الإنساني والمعنوي في شخصيتها، كما أنه يقف مناصراً للعقل والبعد المعنوي، والجانب المتعالي على الشهوة، والبعد الحيواني، والجانب المتسافل في شخصية الإنسان، فهو (حجاب للشهوة وسفور للعقل).
هذه المقاصد وغيرها أظنها تخفى على كثير ممن اتخذن الحجاب عادة وأجرين عليه ما يجري على سائر العادات من التطور والتحديث والاستجابة لهتافات فوضى الموضة، حتى جعلنه جسداً بلا روح، وجردنه من حقيقته، وأعلن بلسان حالهن الجرأة على مخالفة أمر ربهن (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ). وإذا كان الله ـ سبحانه ـ قد نهى المؤمنة عن أن تدق برجليها الأرض لئلا يسمع الرجال صوت الخلخال في قدميها مما يكون سبباً في تحرك قلوب الرجال، فإن تفنن المرأة في إبداء زينتها الظاهرة أعظم وأقوى أثراً في تحريك كوامن شهوة الرجال، ولذا فإن المنع من ذلك من باب الأولى، ولا أظن أن عاقلاً يشك في أن الحجاب الذي طالته يد التزيين والتجميل (حتى غدا زينة في نفسه) أشد إغراء من صوت خلخال في قدم. (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنّ). إن التزام المؤمنة بالحجاب الشرعي من أعظم ما تتقرب به إلى ربها، ويزيد من رصيدها من الحسنات، كما أنها بذلك تعلن عبوديتها لربها واعتزازها بالانقياد لشرعه، فإن العز كل العز في العبودية لله، والذل كل الذل في اتباع شهوات النفس والوقوع في أسر الشيطان، كما أنها تعلن (حين تلتزم بحجاب الحشمة) أن القيمة الحقيقة لها في تدينها وعقلها وفكرها وليس في جسدها، (فعقلها هو الذي ميزها عن الحيوان أما الجسد فهما شريكان فيه)، وتربأ بنفسها أن تكون ممن خوى عقلها وفكرها، وشعرت بعقدة النقص الداخلي؛ فظنت أنها ستواري قبحها الداخلي بإبراز جمالها الخارجي والتفنن في إبراز مفاتنها لغير محارمها، وعرّضت نفسها ـ حين زرعت بتبرجها دروب الناس ألغاماً ـ لوعيد النبي صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس, ونساء كاسيات عاريات, مميلات مائلات, رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها, وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا".وتهديده بقوله: "وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات, وهن المنافقات, لا يدخل الجنة منهن إلاّ مثل الغراب الأعصم"، وانحطت ـ بتبرجها ـ إلى دركات التخلف الجاهلي التي يرتفع عنها كل من تجاوز عصر الجاهلية حين لم يكن للمرأة قيمة إلاّ قيمة (جسد) تستعرض به أمام الذكور الذين فسد ذوقهم، فلم يدركوا من الجمال إلاّ جمال اللحم العاري، ولم يسمعوا إلاّ هتاف اللحم الجاهر (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)، حتى جاء الإسلام فارتقى بالذوق البشري، فجعله يعجب بجمال الحشمة الهادئ وما يشي به من جمال الروح وجمال العفة وجمال المشاعر. وإن من تلبيس بعضهم في شأن الحجاب الساتر (الخالي من الزينة) قوله: إننا قد نجد من ترتدي حجاباً ساتراً لكنها تخفي خلفه نفساً لعوباً وباطناً خبيثاً، قلت: إن تشريعات ربنا لا يضيرها إن جهل بعض المسلمين حقيقتها أو أساء استخدامها واتخذها جسراً يمرر عليه مقاصد دنيئة؛ فالصلاة مثلاً من مقاصدها أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) ومع ذلك نرى من المصلين من لم تنهه صلاته عن ارتكاب الموبقات والولوغ في المحرمات، فهل يقول عاقل إنه لا حاجة للصلاة مادام البعض لم يستفد منها في تهذيب نفسه؟! وهل يمكن أن يستوي عند الله من أدّى الصلاة على حقيقتها مع من تهاون فيها أو تركها بالكلية؟! وكذلك الزكاة من مقاصدها تطهير نفس المزكي من الأخلاق الرديئة (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) ومع ذلك نرى في الواقع أن بعض المزكين تطفح نفسه بضروب الأخلاق الرديئة! فهل يحق لمسلم أن يهوّن من شأن الزكاة؟! وقل مثل هذا في الحجاب والذي شُرع للستر وإشاعة الطهر والعفة فإنه لا يزهد في شأنه تشويه بعضهن لقيمته حين غطى حجابها على نفس ماكرة، فإن علة هذا الصنف من النساء جاءت من فساد باطنها لا من صلاح ظاهرها، ولا يضير الزي الذي يرتديه الأطباء الحقيقيون حين يرتديه من لا يجيد التطبيب فيعبث بأجساد المرضى؛ فإن البلاء من اللابس لا من الملبس. إن حجاب الحشمة (الخالي من مثيرات الفتنة) حصن منيع تتكسر على أسواره مطامع ذوي القلوب المريضة الذين يشتد حنقهم، ويغلظ غيظهم على كل صوت ناصح يدعو المرأة إلى التمسك بحجاب الحشمة، ويحذرها من دعوات التبرج المغلفة بمسايرة التحديث ومجاراة التطور؛ لأن ذلك سيقطع الطريق عليهم، ويفوتهم فرصة التلذذ بمرأى مفاتن جسد المرأة، ولذا نرى جهدهم في تشويه الأصوات الناصحة ووصمها بأنها تمارس الوصاية على جسد المرأة، وتكبت حريتها وصدق الله (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً).[النساء:27].
كتبه / بندر العريدي
الإسلام اليوم
همسة: سؤال أدفن بالحزن جوابه: ما مقصد فتاة تلبس عباءة كُتب عليها باللغة الإنجليزية عبارة: (اتصل بنا) أو(أتحدّاك تلمسني)؟!
منـــــــقول
بارك الله فيكي ياا الغااالية
مشكورة حبيبتى
وبارك الله فيكى