ونظرا لكون هذه المسألة من المسائل الشرعية التي لابد من بيان الحكم الشرعي فيها وفق ما تقتضيه الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وبُعدا عن الأهواء لذا أحببت الكتابة في ذلك مبينا ما أراه حقا في هذه المسألة فأقول مستعينا بالله تعالى:
قال تعالى }الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا{ (النساء:34) وهذه الآية آية محكمة غير منسوخة ولكن كثيرا من الناس لم يفهم المراد منها فعمل بفهمه الخاطئ من تعدٍّ واضح على المرأة وظن أن هذا من الدين وإذا رجعنا للمنهج الإسلامي في تعامل الزوجين تبين لنا جليا أنه لا يحث على ما يظنه البعض العنف الزوجي بل يحث على الألفة والمحبة والعشرة بالمعروف وذلك في آيات وأحاديث نبوية كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر:
أولا: قال تعالى }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا{ (النساء:19).
قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: " وجماع المعروف بين الزوجين كف المكروه وإعفاء صاحب الحق من المؤنة في طلبه لا بإظهار الكراهية في تأديته فأيهما مطل بتأخيره فمطل الغني ظلم " ا.هـ أحكام القرآن للشافعي 1/204 الأم 5/89 وقال الطبري – رحمه الله تعالى -: "يعني جل ثناؤه بقوله }وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ{ وخالقوا أيها الرجالُ نساءَكم وصاحبوهن (بِالمَعْرُوفِ) يعني بما أمرتم به من المصاحبة وذلك إمساكهن بأداء حقوقهن التي فرض الله جل ثناؤه لهن عليكم إليهن أو تسريح منكم لهن بإحسان" ا.هـ تفسير الطبري 4/312
وقال ابن قدامة – رحمه الله تعالى -: "وقال بعض أهل العلم التماثل هاهنا في تأدية كل واحد منهما ما عليه من الحق لصاحبه بالمعروف ولا يمطله به ولا يظهر الكراهة بل ببشر وطلاقة ولا يتبعه أذى ولا منة لقول الله تعالى: }وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ{ وهذا من المعروف ويستحب لكل واحد منهما تحسين الخلق مع صاحبه والرفق به واحتمال أذاه لقول الله تعالى }وبالوالدين إحسانا وبذي القربى{ إلى قوله }والصاحب بالجنب{ قيل: هو كل واحد من الزوجين" ا.هـ المغني 7/223
وقال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "وقوله تعالى }وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ{ أي طيبوا أقوالكم لهن وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها مثله كما قال تعالى }وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ{ (البقرة:228) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة دائم البشر يداعب أهله ويتلطف بهم ويوسعهم نفقة ويضاحك نساءه حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها يتودد إليها بذلك قالت: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته وذلك قبل أن أحمل اللحم ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني فقال: ( هذه بتلك ) ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى }لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ{ (الأحزاب:21)" ا.هـ تفسير ابن كثير 1/467 وانظر: زاد المعاد 1/150
وقال الذهبي – رحمه الله تعالى -: "وإذا كانت المرأة مأمورة بطاعة زوجها وبطلب رضاه فالزوج أيضا مأمور بالإحسان إليها واللطف بها والصبر على ما يبدو منها من سوء خلق وغيره وإيصالها حقها من النفقة والكسوة والعشرة الجميلة لقول الله تعالى وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ{" ا.هـ الكبائر 1/178
ثانيا: قال تعالى }وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{ (الرُّوم:21) قال ابن كثير – رحمه الله تعالى -: "فلا ألفة بين روحين أعظم مما بين الزوجين" ا.هـ تفسير ابن كثير 2/ 275
ثالثا: قال تعالى }وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ{ (البقرة:228) قال ابن عباس -رضي الله عنهما – "إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تزين لي لأن الله عز وجل يقول }وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ{ وما أحب أن أستوفي جميع حق لي عليها لأن الله عز وجل يقول }وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ{. رواه ابن أبي شيبة 4/196 وابن جرير 2/453 والبيهقي 7/295.
رابعا: عن أبي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن كان يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فلا يُؤْذِي جَارَهُ وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ من ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ في الضِّلَعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لم يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا" رواه البخاري (4890) ومسلم (1468) قال النووي – رحمه الله تعالى -: "فيه الحث على الرفق بالنساء والإحسان إليهن والصبر على عوج أخلاقهن واحتمال ضعف عقولهن وكراهة طلاقهن بلا سبب وإنه لا مطمع في استقامتهن" ا.هـ مرقاة المفاتيح 6/356 وقال المناوي – رحمه الله تعالى-: "وفيه ندب المداراة لاستمالة النفوس وتألف القلوب وسياسة النساء بأخذ العفو عنهن والصبر عليهن وأن من رام تقويمهن فاته النفع بهن مع أنه لا غنى له عن امرأة يسكن إليها" ا.هـ فيض القدير 2/388
خامسا: عن أبي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه -قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مؤمنة إن كَرِهَ منها خُلُقًا رضي منها آخَرَ" رواه مسلم (1469). قال الحافظ النووي – رحمه الله تعالى -: "أي ينبغي أن لا يبغضها لأنه إن وجد فيها خُلقا يُكره وجد فيها خُلقا مرضيا بأن تكون شرسة الخلق لكنها دينة أو جميلة أو عفيفة أو رفيقة به أو نحو ذلك" ا.هـ شرح صحيح مسلم 10/ 58 الديباج للسيوطي 4/80
سادسا: قال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع "اتَّقُوا اللَّهَ في النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ ذلك فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غير مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ" رواه مسلم (1218) من حديث جابر -رضي الله عنه-.
وعن عَمْرِو بن الْأَحْوَصِ – رضي الله عنه – أَنَّهُ شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عليه وَذَكَّرَ وَوَعَظَ فذكر الحديث وفيه: "ألا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ ليس تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شيئا غير ذلك إلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ في الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غير مُبَرِّحٍ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ألا إِنَّ لَكُمْ على نِسَائِكُمْ حَقًّا وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا فَأَمَّا حَقُّكُمْ على نِسَائِكُمْ فلا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ من تَكْرَهُونَ ولا يَأْذَنَّ في بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ ألا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ في كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ" رواه ابن أبي شيبة 2/56 و النسائي في الكبرى (9169) وابن ماجه (1851) والترمذي (1163 ) وقال: حسن صحيح.
سابعا: عن عبد اللَّهِ بن زَمْعَةَ -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَجْلِدُ أحدُكم امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجَامِعُهَا في آخِرِ الْيَوْمِ" رواه البخاري (4908) قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى -: "وفي سياقه استبعاد وقوع الأمرين من العاقل أن يبالغ في ضرب امرأته ثم يجامعها من بقية يومه أو ليلته والمجامعة أو المضاجعة إنما تستحسن مع ميل النفس والرغبة في العشرة والمجلود غالبا ينفر ممن جلده فوقعت الإشارة إلى ذم ذلك وأنه إن كان ولا بد فليكن التأديب بالضرب اليسير بحيث لا يحصل منه النفور التام فلا يفرط في الضرب ولا يفرط في التأديب… ولأن ضرب المرأة إنما أبيح من أجل عصيانها زوجها فيما يجب من حقه عليها" ا.هـ فتح الباري 9/303 عمدة القاري 20/192
ثامنا: عن إياس بن أبي ذباب – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تضربوا إماء الله" قال فذئر – أي نشز – النساء وساءت أخلاقهن على أزواجهن فقال عمر بن الخطاب: ذئر النساء وساءت أخلاقهن على أزواجهن منذ نهيت عن ضربهن فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( فاضربوا ) فضرب الناس نساءهم تلك الليلة فأتى نساء كثير يشتكين الضرب فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين أصبح: "لقد طاف بآل محمد الليلة سبعون امرأة كلهن يشتكين الضرب وأيم الله لا تجدون أولئك خياركم" رواه النسائي في الكبرى ( 9167 ) وصححه ابن حبان (4189) قال الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى -: " فجعل لهم الضرب وجعل لهم العفو وأخبر أن الخيار ترك الضرب "ا.هـ الأم 5/112
وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى -: "فيه دلالة على أن ضربهن مباح في الجملة ومحل ذلك أن يضربها تأديبا إذا رأى منها ما يكره فيما يجب عليها فيه طاعته فإن اكتفى بالتهديد ونحوه كان أفضل ومهما أمكن الوصول إلى الغرض بالإيهام لا يعدل إلى الفعل لما في وقوع ذلك من النفرة المضادة لحسن المعاشرة المطلوبة في الزوجية الا إذا كان في أمر يتعلق بمعصية الله" ا.هـ فتح الباري 9/304 وانظر: عون المعبود 6/128
تاسعا: عن عَائِشَةَ – رضي الله عنه – قالت: ما ضَرَبَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شيئا قَطُّ بيده ولا امْرَأَةً ولا خَادِمًا إلا أَنْ يُجَاهِدَ في سَبِيلِ اللَّهِ وما نِيلَ منه شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ من صَاحِبِهِ إلا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ من مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عز وجل. رواه مسلم (2328) قال النووي -رحمه الله تعالى-: " فيه أن ضرب الزوجة والخادم والدابة وإن كان مباحا للأدب فتركه أفضل " ا.هـ شرح صحيح مسلم 15/84
وقال القاري -رحمه الله تعالى-: "خصا بالذكر اهتماماً بشأنهما ولكثرة وقوع ضرب هذين والاحتياج إليه وضربهما وإن جاز بشرطه فالأولى تركه قالوا بخلاف الولد فإن الأولى تأديبه ويوجه بأن ضربه لمصلحة تعود إليه فلم يندب العفو بخلاف ضرب هذين فإنه لحظ النفس غالباً فندب العفو عنهما مخالفة لهواها وكظماً لغيظها" ا.هـ مرقاة المفاتيح 10/ 488 وانظر: كشاف القناع 5/209
عاشرا: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" رواه ابن حبان (4177) والبيهقي 7/468 قال المناوي -رحمه الله تعالى-: "ولهذا كان على الغاية القصوى من حسن الخلق معهن وكان يداعبهن ويباسطهن… (وأنا خيركم لأهلي) أي برا ونفعا لهم ديناً ودنيا أي فتابعوني ما آمركم بشيء إلا وأنا أفعله" ا.هـ فيض القدير 3/496
الحادي عشر: عن جَابِرٍ -رضي الله عنه- قال: نهى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن الضَّرْبِ في الْوَجْهِ. رواه مسلم (2116 ).
قال النَّوَوِيُّ -رحمه الله تعالى -: "وأما الضرب في الوجه فمنهي عنه في كل الحيوان المحترم من الآدمي والحمير والخيل والإبل والبغال والغنم وغيرها لكنه في الآدمي أشد لأنه مجمع المحاسن مع أنه لطيف لأنه يظهر فيه أثر الضرب وربما شانه وربما آذى بعض الحواس" ا.هـ شرح النووي على صحيح مسلم 14/97 وانظر: عمدة القاري 21/140 التيسر بشرح الجامع الصغير 2/470 نيل الأوطار 8/250عون المعبود 7/ 167 وعن معاوية بن الحكم السلمي – رضي الله عنه – قال: كَانَتْ لي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فإذا الذِّئبُ قد ذَهَبَ بِشَاةٍ من غَنَمِهَا وأنا رَجُلٌ من بني آدَمَ آسَفُ كما يَأْسَفُونَ لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَظَّمَ ذلك عَلَيَّ قلت: يا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُعْتِقُهَا قال: (ائْتِنِي بها) فَأَتَيْتُهُ بها فقال لها: (أَيْنَ الله؟) قالت: في السَّمَاءِ قال: (من أنا؟) قالت: أنت رسول اللَّهِ. قال: (أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ) رواه مسلم ( 537)
الثاني عشر: عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وكان بيده سواك فدعا وصيفة له أو لها حتى استبان الغضب في وجهه وخرجت أم سلمة إلى الحجرات فوجدت الوصيفة وهي تلعب ببهمة فقالت: ألا أراك تلعبين بهذه البهمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك فقالت: لا والذي بعثك بالحق ما سمعتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك" رواه أحمد وأبو يعلى (6944) والبخاري في الأدب (184) قال المنذري: "أحمد بأسانيد أحدها جيد" ا.هـ الترغيب والترهيب 3/153 وقال الهيثمي: "وإسناده جيد عند أبي يعلى والطبراني" ا.هـ مجمع الزوائد 10/353
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن ضرب سوطا ظلما اقتص منه يوم القيامة" رواه البزار والطبراني في الأوسط (1445) وإسنادهما حسن. مجمع الزوائد 10/353
وبعد هذه الجولة في تلك الآيات والأحاديث المباركة وما هي إلا فيض من غيض يتبين معنى الآية ويظهر لنا ما يلي:
أولا: وجوب معاشرة كل واحد من الزوجين الآخر بالمعروف.
ثانيا: أن القوامة بيد الرجل ومما يدخل في القوامة تقويم سلوك الزوجة متى أساءت أو نشزت بترفعها عليه أو غلظتها معه أو معصيته بما يجب عليها له فيُقوِّمها بالنصح أولا وذلك بتذكيرها بحرمة النشوز ووجوب طاعتها له في غير معصية مع ذكر الأدلة على ذلك كحديث أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إلى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ فَبَاتَ غَضْبَانَ عليها لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حتى تُصْبِحَ" رواه البخاري (3065) فإن لم يُجْدِ ذلك هجر فراشها أو الحديث معها في البيت ولا يتعدى ذلك خارج البيت لحديث حَكِيمِ بن مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ عن أبيه – رضي الله عنه – قال: قلت: يا رَسُولَ اللَّهِ ما حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عليه؟ قال: "أَنْ تُطْعِمَهَا إذ طَعِمْتَ وَتَكْسُوَهَا إذا اكْتَسَيْتَ أو اكْتَسَبْتَ ولا تَضْرِبْ الْوَجْهَ ولا تُقَبِّحْ ولا تَهْجُرْ إلا في الْبَيْتِ" رواه أحمد (20036) وأبو داود (2142) والنسائي في الكبرى (11431) وحسنه النووي في رياض الصالحين (277) ومدة الهجر لا تزيد على ثلاثة أيام لحديث أنس – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ" رواه البخاري (5718) ومسلم (2559) فإن لم ينفع ذلك معها جاز له ضربها ضربا غير مبرح بسواك أو بمنديل ملفوف لا بسوط ولا بعصى أو نحوه – والسواك كما لا يخفى دقيق وقصير طوله غالبا طول القلم – (انظر: كشاف القناع 5/210) عن عطاء قال: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرح؟ قال: السواك وشبهه يضربها به. رواه ابن جرير 5/68 وانظر: الدر المنثور 2/523 ويحرم عليه ضرب الوجه والمقاتل }فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا{ ( النساء:34 ) قال ابن كثير – رحمه الله تعالى -: " وقوله تعالى}فَإِن أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا {أي إذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريده منها مما أباحه الله له منها فلا سبيل له عليها بعد ذلك وليس له ضربها ولا هجرانها وقوله }إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا{ تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب فإن الله العلي الكبير وليهن وهو منتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن" ا.هـ تفسير ابن كثير 1/493 فإن تلف من الزوجة شيء بسبب الضرب ضمن ما وقع منه لتبين أنه إتلاف لا إصلاح.( شرح زبد ابن رسلان 1/259)
ثالثا: يحرم على الزوج ضرب زوجته ظلما بلا سبب ولو كان الضرب يسيرا فالظلم ظلمات يوم القيامة قال ابن جرير – رحمه الله تعالى -: " إنه غير جائز لأحد ضرب أحد من الناس ولا أذاه إلا بالحق لقول الله تعالى ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ) (الأحزاب:58) سواء كان المضروب امرأة وضاربها زوجها أو كان مملوكا أو مملوكة وضاربه مولاه أو كان صغيرا وضاربه والده أو وصي والده وصاه عليه " ا.هـ تهذيب الآثار مسند عمر بن الخطاب 1/418. وقال تعالى ( وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) ( البقرة:231) فقد نهى الرجل عن الإضرار بمطلقته فكيف بزوجته.
رابعا: أن يقصد الزوج من ذلك تأديبها وتقويمها لا التشفي والانتقام منها.
خامسا: أنه لا يحل له ضربها أكثر من عشر ضربات بحال من الأحوال لحديث أَبَي بُرْدَةَ الْأَنْصَارِيِّ – رضي الله عنه – قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لَا تَجْلِدُوا فَوْقَ عَشْرَةِ أَسْوَاطٍ إلا في حَدٍّ من حُدُودِ اللَّهِ" رواه البخاري (6458) ومسلم (1708).
سادسا: أن التأديب متى ما كان في الحدود المشروعة آتى أُكُله ولا يصح تسميته عنفا أسريا أما لو تجاوز الحدود الشرعية فهو محرم شرعا وسمِّه ما شئت بعد ذلك عنفا أسريا أو غير ذلك.
سابعا: أن الترفع عن الضرب أفضل وأكمل إبقاء للمودة (الفروع 5/258 المبدع 7/215 كشاف القناع 5/210) حتى مع وجود الداعي له لحال النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ما ضرب خادما ولا امرأة. قال شريح -رحمه الله تعالى-:
رأيت رجالا يضربون نساءهم *** فشلَّت يميني حين أضرب زينبا
وزينب شمس والنساء كواكب *** إذا طلعت لم تبق منهن كوكبا
(تاريخ دمشق 23/52 سير أعلام النبلاء 4/106 الطبقات الكبرى 6/143)
ثامنا: أنه لا يحل للرجل أن يضرب زوجته إن استدعى الأمر ذلك أمام أطفالها أو غيرهم لكون ذلك زيادة في التأديب لم يأذن بها الشارع وينتج عن ذلك أمور لا تحمد عقباها.
تاسعا: أرى أنه لا يحل للرجل أن يضرب زوجته في حال الغضب ولو مع وجود ما يستدعي ضربها لكونه والحال هذه سيتجاوز الحد المأذون به.
فإن امتثل الزوج ذلك فإنه لا يسأل عن ضربه زوجته ويحمل عليه حديث عمر -رضي الله عنه – إن صح – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يسأل الرجل فيم ضرب امرأته" رواه أبو داود ( 2147) والنسائي في الكبرى ( 9168) وابن ماجه ( 1986) وهو حديث ضعيف قال ابن المديني – رحمه الله تعالى -: "فإن إسناده مجهول رواه رجل من أهل الكوفة يقال له داود بن عبد الله الأودي لا أعلم أحدا روى عنه شيئا غير عبد الرحمن المسلي وهو عندي أبو وبرة المسلي" ا.هـ العلل لابن المديني 1/93 أما إذا تعسف الزوج وتجاوز حده في التأديب فإنه يقتص منه لزوجته بلا خلاف أعلمه.
ومع الأسف أن العنف الأسري ليس قاصرا على الزوج بل امتد ليصدر من الزوجة ضد زوجها وليس بالقليل فقد سمعت المحامي الكويتي خالد العبد الجليل يقول: إن دراسة في الكويت تثبت أن عشرين في المائة من الزوجات يضربن أزواجهن ضربا مبرحا !!
وهذا قليل من كثير وإلا فالموضوع بحاجة إلى تحرير وإيضاح وتفصيل ومناقشة الشبه التي يطرحها بعض المغرضين ولعل ما ذكرته يكون نواة لذلك.
وأخيرا: يجب على المسلم التأدب مع كلام الله تعالى فلا يليق بمسلم أن يعترض على حكم من الأحكام التي أذن الله تعالى بها وهو الحكيم العليم بمثل هذه الشبه الباردة وبمثل هذا الكلام الذي يتكلم به كثير ممن لا خلاق لهم بل الواجب على كل مسلم ومسلمة التسليم المطلق لما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى }وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا{ (الأحزاب:36) وقال تعالى }فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا{ (النساء:65) والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
د. نايف بن أحمد الحمد
جزاك الله خيرا