وهكذا سُدّت كل الطرق المؤدية إلى التصالح والتفاهم والوئام… فكيف يمكن التصرف في هذه الحالة؟
يرى د.أحمد عبد الراضي أستاذ علم الاجتماع أنه قد يقع الزوجان فريسة انفعالات حادة ومتوالية، ربما تكون لأسباب قوية، وربما تكون لأسباب بسيطة يمكن التغلب عليها وحلها، ولذلك ينبغي على الزوجين بمجرد إحساسهما بهذه الانفعالات أن يخرجا في رحلات للترويج عن نفسيهما، حتى يتغير لديهما جو هذه الانفعالات. فالابتعاد عن مسرح الانفعالات والتوتر ضروري عند الإحساس بتفجر المشكلات الزوجية.
ويمكن أيضاً الاتفاق بين الزوجين على تحكيم الأصدقاء المشهود لهم بالنزاهة والإخلاص والنصح لوجه الله، وأن يكونوا من أهل الخبرة والتجربة.
ويمكن بعد ذلك استدعاء حكمٍ من أهل الزوج وحكمٍ من أهل الزوجة، من ذوي الخبرة والدين ليتفحصا المشكلة، ويساعدا الزوجين في تجاوز الخلافات.
وممكن أيضاً أن يبتعد الطرفان عن بعضهما مؤقتاً لعدة أيام أو حتى لعدة أسابيع، يراجع كل طرف مسيرة حياته بأمانة، فربما وقف على أخطاء معينة وقع فيها فيعاهد نفسه على تصحيحها.
إن كثيراً من الأزواج بعد أن يقع الطلاق، وتهدأ الانفعالات الحادة، وينسحب كل طرف من حياة الطرف الآخر، يتأكد كلاهما أنه كان على خطأ، وأنه ما كان ينبغي أن يسمح للمشاكل بأن تتضخم بهذا الشكل الذي أدّى إلى هذا الطلاق، وأن هذه النهاية ما كان ليتمناها، وعندها يبدأ كل من الزوجين بتذكّر الأيام الحلوة والمواقف الجميلة التي كانت تربطه بالآخر، فيحاول أن يجعل هذا الارتباط ممتداً أو يتصور كذلك، فيبدأ بشكل تلقائي في محاولة معرفة أخبار من كان شريكه في هذه الذكريات.
المجتمع يظلم المطلقة!!
وترى د. وجيدة إبراهيم خبيرة الاستشارات الأسرية أن الطلاق يكون حلاً عندما تصبح العلاقة الزوجية مستحيلة، أي حينما تكون العلاقة بين الطرفين دائما علاقة متوترة؛ إذ يكون الزوجان في صراع دائم وشجار دائم، وحينما ينعدم الاحترام بين الزوجين، وحينما يلجأ الزوج مثلاً إلى العنف الجسدي، وإلى العنف الفظي، فيشتم زوجته أو يضربها أمام الأطفال.
وتضيف د. وجيدة أن الطلاق يكون حلاً أيضاً حين يمنع حدوث ضر أكبر، أو من وقوع الحياة المشتركة في خانة الإلزام، يعني حينما يصبح أحد الطرفين ملزماً باستمرار الزواج، أي عندما تكون الحياة المشتركة غير طوعية وإنما تكون حياة إلزامية إجبارية.
إلا أن د. وجيدة تتطرق لنقطة أخرى وهي أن المجتمع يظلم في هذا الوضع، يظلم أكثر مما يظلم الرجل، فالرجل بعد الطلاق يمكنه أن يبني حياته من جديد فيتزوج بشكل كثير طبيعي وبشكل سهل جداً، بينما المطلقة فإن النظرة لها غير منصفة، ويتم تحميلها مسؤولية الطلاق.
فالمجتمع ظالم وغير عادل بالنسبة للنظر للمرأة؛ إذ يجعل العبء والوزر على ، وقد لا يكون لها أي علاقة بما حدث. وفي أحيان كثيرة لا يكون الحرج على أي واحد من الزوجين، فقد تُطلّق من الرجل؛ لأنها غير متوافقة معه؛ ثم تتزوج رجلاً تتوافق معه، وهو يتزوج امرأة يتوافق معها، وفي هذا يقول القرآن (وإن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ). فأحياناً يكون الطلاق فيه خير للرجل، وفيه خير للمرأة.
حرب غير مسوّغة
وتؤكد د.إلهام فراج أستاذة علم الاجتماع أن الملاحظ في مجتمعاتنا أنه حينما يحدث الطلاق فإن كلاً من الطرفين يشن هجوماً على الطرف الآخر، ويتهمه بكل النقائص الممكنة، ويسيء إلى سمعته، ويحمّله مسؤولية إخفاق الزواج، مما يجعل الطلاق يتم بطريقة غير كريمة تفتقر إلى الاحترام بين الطرفين؛ فالزوج يشهّر بزوجته، والزوجة تشهر بزوجها، وفي بعض الأحيان تصطدم أسرة الزوج مع أسرة الزوجة، وتوسع دوائر الخلاف ومساحات الكراهية.
وتزداد المشكلة تعقيداً وخطورة عندما يكون الزوج والزوجة من نفس العائلة كأن تكون الزوجة ابنة عم الزوج أو ابنة خاله أو ابنة خالته، فيسود العداء بين أجنحة العائلة الواحدة، وتحدث القطيعة بينهم، الأمر الذي يتنافى مع الغاية التي من أجلها شُرِع الطلاق، والذي يهدف لوضع حد ونهاية لمسلسل الآلام والمشاكل الأسرية التي استعصت بين الزوجين، وأصبح من مصلحة كلٍ منهما الفراق.
لكن الملاحظ أنه في الكثير من حالات الطلاق أن الروابط والعلاقات بين أسرتي الزوج والزوجة تنقطع، وتصل المأساة إلى ذروتها في حالة زواج البدل؛ فتكون الخسارة أفدح، ويدفع الأبرياء ثمن أخطاء لم يرتكبوها.
وحينما يقع الطلاق، فإن الزوجة تحاول بكل السبل تشويه صورة زوجها في أذهان أطفالها، وتنعته بأبشع الصفات، وهي تحسب أنها بذلك تكسبهم لصفها لتبعدهم عن والدهم، أو لتنتقم من والدهم بحرمانه من رؤيتهم، ليس هذا فحسب بل تعمل جاهدة على تشويه صورة عائلة والدهم من أجداد وأعمام وعمات…الخ.
فينشأ الأبناء وهم يحملون في قلوبهم كراهية والدهم وكراهية أعمامهم وعماتهم وجدهم وجدتهم، فتكون بذلك قد ساهمت بقطع كل صلة بينهم في الوقت الذي هم فيه بحاجة لتقوية الروابط مع أسرة أبيهم، ومع أقاربهم ومع عائلتهم الممتدة؛ لأنهم جزء لا يتجزأ منها حتى بعد الطلاق.
وتؤكد د.إلهام أن الشعور بالإحباط والاكتئاب يلازم المطلّق والمطلّقة في فترة ما بعد الطلاق، وهو أمر طبيعي، ولكنه يؤثر على سير العلاقة الطبيعية، ومن الضروري تجاوز الأحقاد والضغائن والالتفات إلى المشاركة في المسؤوليات عوضا عن المحاربة النفسية المستمرة. فليس هناك ضير أن يتفق الطليقان على نظام معين لمواصلة حياتهما بشكل طبيعي، وتقاسم المسؤوليات في حالة وجود أبناء يعكس أرقى صور التقدم المجتمعي، ولكن المسألة لا تعتمد على المطلّقين فقط بل على الظروف الاجتماعية المحيطة وخاصة الأهل. فمسؤولية الأسرة وخاصة الأبناء لا يمكن أن تنتهي لأحد الطرفين بمجرد أن ينفصلا، فهناك التزامات سواء كانت للأب أو للأم يجب أن يلتزم كلا الطرفين بها، وهناك مسؤوليات يتحتم أن يشترك فيها الطرفان حتى بعد الطلاق، فهما الذان كوّنا هذه الأسرة، وأصبحت جزءًا من مجتمع بل ومن وطن بأكمله، وبالتالي تكون عملية تجاهلها أمراً غير منطقي، بل وغير أخلاقي.
الطلاق لم يعد كارثة
وتقول د. سعاد شعبان أستاذ علم النفس: إن الطلاق لم يعد شبحاً يهدد حياة ، فمع ازدياد نسبة الطلاق في كل دول العالم صارت تخرج من محنتها هذه أكثر قوة وثقة في مواجهة مجتمعها والحياة عموماً
الزواج لا يدوم بالإكراه
بينما يؤكد د. محمد المسير الأستاذ بجامعة الأزهر أن الأصل في الطلاق أنه لا يجوز إلا لأسباب قوية جداً، وإذا وقع الطلاق فيجب أن يكون التسريح بإحسان كما قال القرآن الكريم (فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ)، ومن روائع الشريعة الإسلامية أنها جعلت للرجل أكثر من فرصة، فلم تجعل الطلاق مرة واحدة وبه ينتهي الأمر، ولكن جعلت الأصل فيه أن يكون رجعياً، ومعنى ذلك أن الزوج يستطيع أن يعيد زوجته ما دامت في العدة، وأمامه فرصه ثانية إذا وقع الطلاق الثاني، أما إذا وقع الطلاق الثالث فهنا يختلف الأمر، فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
ويضيف د. المسير: إن فلسفة الإسلام الراشدة جعلت من حق الزوج أن يعيد زوجته إليه خلال فترة الثلاثة شهور الأولى، وهى فترة العدة، ويتم ذلك دون إذن من الزوجة حرصاً على أشياء كثيرة يمكن أن تتحطم من خلال الطلاق. فهناك أبناء قد يتشرّدون، وأسرة قد تنهار، وتفك وظروف نفسية قد تصل إلى حالة مرضية، وامرأة قد تتشرّد أو تلجأ إلى الانحراف، وهناك رجل في سن معينة قد يكون في أشد الحاجة إلى زوجته التي يعتمد عليها، ولذلك أعطى الشرع فرصة للرجل لأن يعيد النظر مرة ثانية في قضية الطلاق الذي وقع خلال ثلاثة أشهر، فقد يكون هذا الطلاق قد وقع نتيجة لحالة انفعالية أو تحت ضغط ظروف غير طبيعية، وهنا يصبح من الممكن تدارك مثل هذه الظروف لإعادة الحياة إلى مجاريها.
إن الإسلام يبيح الطلاق؛ لكنه لا يأمر به إلا عندما تتعرض الزوجة للضر من زوجها، وتكاد العشرة بينهما تصبح مستحيلة.
إننا نسأل المعترضين على إباحة الطلاق في الإسلام: ماذا ترَوْن إذا بلغت العشرة بين الزوجين حالة لا يطيق فيها أحدهما صاحبه؟ هل نتظر حتى يتخلص أحدهما من الآخر بقتله؟ أو يبحث عن شريك آخر بطريقة غير شرعية؟
وهل مما يجوز في منطق العقلاء أن نفرض على الزوج والزوجة أن يبقيا بالإكراه في سجن لا يستطيعان الخروج منه إلا بطريق غير مشروع؟
العدة فرصة للمراجعة
وترد د. نادية هاشم أستاذة الفقه بجامعة الأزهر على من يحاول من خصوم الإسلام والحاقدين عليه جعْل من مسألة الطلاق في الإسلام جريمة تهدم الأسر وتشرّد الأولاد، فتقول: إن الطلاق لم يكن هو الخطوة الأولى في علاج النشوز، وإنما سبقته المراحل التي تحدث عنها القرآن من الموعظة ثم الهجر في المضاجع ثم الضرب. وفى النهاية إذا أصبحت العشرة مستحيلة، فلم يشأ الإسلام أن يفرض على الزوجين هذه العشرة بالإكراه، وإنما شرع لها حلّين سلمين هما: الطلاق، والخُلع.
والإسلام جعل الطلاق آخر سبل العلاج إذا أخفقت كل محاولات الإصلاح، ومع أن الإسلام يبيح الطلاق ويؤكد مشروعيته، لكنه يعدّه أمرًا بغيضًا عند الله، لا يحبه ولا يشجع عليه، ولكنه آخر الدّواء إذا استعصى داء النشوز على كل الأدوية السابقة.
وهنا نسأل الذين يعيبون تشريع الإسلام للطلاق فنقول: أيهما أفضل للطرفين: أن يعيشا في بيت الزوجية، وكأنهما سجينان في سجن مشترك، بما يمكن أن يؤدي إليه الشقاق بين الزوجين من آثار سلبية على الأولاد وعلى المناخ العام داخل الأسرة؟ بل وربما أدّى فرض استمرار العشرة في ظل النفور الدائم بين الزوجين إلى انحرافات أخلاقية خطيرة ومدمرة.
فهل هذا أفضل؟ أم أن يكون الطلاق فرصة إلى مراجعة كل من الزوجين موقفه من الطرف الآخر، وقد يهدأ الغضب ويخف التوتر، وتكون المصالحة وإعادة الحياة في ظل السلام العائلي؟ خاصة إذا عرفنا أن للطلاق في الإسلام صفتين يسميهما الفقهاء وهما: طلاق رجعى، يمكن أن يراجع فيه الزوج زوجته خلال فترة زمنية محددة، وطلاق بائن لا رجعة بعده، ولكل من النوعين شروطه وضوابطه.
والمهم في ذلك أن الطلاق الرجعي يُعطي فرصة زمنية خلال العدة، للطرفين خلالها أن يراجع كلٌ منهما نفسه بعيدًا عن مثيرات التوتر والنشوز.
وقد لوحظ في حالات كثيرة أن الطلقة الرجعية تكون بمثابة تنبيه وتحذير للطرفين؛ فيراجعان موقفيهما ويعودان إلى حياة مستقرة هادئة.