الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله…
لقد باتت الفاحشة المهدد الأكبر لإيمان الأمة بانتزاعه, وللشباب خاصة بسلبهم العفة التي في قلوبهم. بل أصبح الأعداء يضربون على هذا الوتر من خلال أدوات لاتكاد تخفى تبعاتها حتى على المتضررين منها.(انظر صراع مع الشهوات, محمد المنجد,ص19 -22).
وآتي هنا للوقوف مع مطلع سورة عظيمة من كتاب الله فُرضت على الأمة بصريح الآية, قال تعالى:" سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)"سورة النور.قال سيد قطب-رحمه الله- عن مطلع السورة:"ففرضية الآداب والأخلاق فيها كفرضية الحدود والعقاب. هذه الأداب والأخلاق المركوزة في الفطرة, والتي ينساها الناس تحت تأثير المغريات والإنحرافات. فتذكرهم بها تلك الآيات البينات وتردهم إلى منطق الفطرة الواضح البين".
وبالتالي قد وجدت كغيري معالم العفة وموانع الفاحشة في سورة النور, يقول الشيخ بكر أبوزيد-رحمه الله-في حراسة الفضيلة:( وتأمَّل هذا السر العظيم من أسرار التنزيل، وإعجاز القرآن الكريم، ذلك أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر في فاتحة سورة النور شناعة جريمة الزنى، وتحريمه تحريماً غائباً، ذكر سبحانه من فاتحتها إلى تمام ثلاث وثلاثين آية أربع عشرة وسيلة وقائية، تحجب هذه الفاحشة، وتقاوم وقوعها في مجتمع الطهر والعفاف جماعة المسلمين، وهذه الوسائل الواقية: فعلية، وقولية، وإرادية), وأنا هنا أتدبر ولا أفسر, وقد حاولت رصد هذه المعالم والمعاني من نور الوحي الكريم علّ الله أن ينفع بها كاتبها وإخوته من المؤمنين والمؤمنات, وقد أسميتها معالم العفة, ومصطلح (معالم) كما ذكر جبران مسعود في معجم الرائد يعني: مايستدل به على الطريق من أثر أو نحوه, ومعالم العفة أي: الدلالات التي تدل على طريق العفة, فأبدأ مستعيناً بالله بذكر هذه المعالم:
1. إقامة الحدود, يقول الرب –تعالى-:(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ), وأشير لبعض المعالم هنا:
أ- لا رأفة في حال تطبيق الحد ردعاً للغير, (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ).
ب- أن يكون ذلك بحضور الناس, (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)؛ ليشهدوا ذلك ولما له من الأثر المجتمعي في قمع الرذيلة, وعدم السير خلفها.
ت- قد استمرء كثير الفاحشة والابتزاز ربما لندرة أو انعدام تطبيق شرح الله في هذه الجريمة, وإني أدعو إلى أن تؤخذ الأمور من المحاكم الشرعية بحزم تجاه هذه الكبيرة, وتطبيق شرع الله, وهو رحمة للفاعل, ورحمة للمجتمع.
2. الإقصاء المجتمعي للزناة حتى من حيث الدلالة اللفظية, قال الله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)). فمن هذا الإقصاء يكرم العفيف والعفيفة, ويهان الزاني والزانية وقد قرن معهما المشرك والمشركة.ومن الإقصاء الوارد أيضا قول الله تعالى في سورة النور:" الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)".ولو تقرر في المجتمعات هبوط مكانة الزناة وأرباب الفواحش كماهو الحال في غالب مجتمعات المسلمين –والحمد لله- لعلا صوت العفة, وخشي مريدو الفاحشة من تفشي خبرهم وحالهم, والحال في الغرب شاهد على تفشي الفواحش لتطبع المجتمع عليها حتى يندر من تحتفظ ببكارتها دون سن البلوغ-نسأل الله العافية-.
3. حرمة رمي المؤمنات وقذفهن والتعدي واللوك في الأعراض, قال الحق جلّ وعلا:"وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)", وذلك لما فيه من نشر الفاحشة والتساهل في توسيعها؛ وإن كثرة الحديث في بيت من المسلمين قد توجه نبال التهم وأغراض المفسدين له, وهنا معالم:
أ- تحديد حد القذف لمن لم يأت بأربعة شهداء ثمانين جلده, وربما نرى أن جلب الأربعة شهود صعب المنال, ولكن الهدف منه الحد من التمادي في أعراض المسلمين, والستر عليهم.
ب- من قذف دون الشهود الأربعة فقد حُكم عليه بـ: عدم قبوله شهادته وعده من الفاسقين. وقد كان هذا الجزاء من جنس عملهم, مقابل التساهل في قذف الأعراض.
ت- باب التوبة مفتوح لمن تاب وأصلح, قال الله تعالى:"إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)", قال الشيخ السعدي-رحمه الله-: (يكذب نفسه ولو تيقن وقوعه, حيث لم يأت بأربعة شهداء,فإذا تاب القاذف وأصلح عمله بدل إساءته إحساناً, زال عنه الفسق, وكذلك تقبل شهادته على الصحيح).
ث- رمي الزوجات شأنه عظيم, فهي أم الأبناء وربة المنزل وسيدته, ولذا عظم فيها الحكم, فمن لم يأت بالشهداء الأربعة فيكون اللعان الذي يقضي فيه القرآن نصاً, وذلك لما قد يحصل من تساهل بعض الأزواج من التهكم بعفة زوجته, أو النيل منها, وأيضاً جُعل للزوج حق في الشهادات الخمس لما قد يُعلم بالعرف صعوبة تهمة الزوج لامرأته وقذفها إلا أن يكون على يقين, فكان هذا الحكم عدل بين الزوجين.قال تعالى:" وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)". وقد ذكر الشيخ أبوبكر الجزائري-حفظه الله- في أيسر التفاسير عن سبب نزول الآيات:(نزلت هذه الآيات في عويمر العجلاني مع زوجته خوله. فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وقال: يارسول الله أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فيقتلونه أم كيف يفعل؟ قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- :"قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك" فأت بها فأتى بها وتلاعنا…).قال ابن حجر-رحمه الله- معلقاً على الحديث:( واللعان ينقسم إلى واجب ومكروه وحرام ، فالأول أن يراها تزني أو أقرت بالزنا فصدقها، وذلك في طهر لم يجامعها فيه ثم اعتزلها مدة العدة فأتت بولد لزمه قذفها لنفي الولد لئلا يلحقه فيترتب عليه المفاسد. الثاني أن يرى أجنبيا يدخل عليها بحيث يغلب على ظنه أنه زنى بها فيجوز له أن يلاعن ، لكن لو ترك لكان أولى للستر لأنه يمكنه فراقها بالطلاق, الثالث ما عدا ذلك), ولذا لاحظ تقديم مصلحة الستر في حال غلبة الظن, والحرمة لمادون ذلك من الوهم والشك.
4. التثبت في نقل الأخبار والرواية, وتقديم الظن الحسن على سيئه دائماً, ومن قصة حادثة الإفك بعض المعالم:
أ- ليس كل مايُصاب به المؤمن أو يُتهم به شر له, فربما كان خيراً ونفعاً, فلولا اتهام عائشة لم زكاها القرآن وشهد بعفتها رب الأرباب-تبارك وتعالى-"إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ".
ب- إحسان الظن بالمؤمن أمر رباني, ولايجوز الجرأة في عرضه حتى يثبت شرعاً, بل يحسن الظن به, وتُذكر مناقبه قبل الاسترسال في سماع التهمه؛ لأن في عدم إدارك هذا المعنى قد يستشري في بعض الضعفاء انتقاص الأخيار ونقل مايزعم عنهم من سقطات-إن صدقت, وإن التساهل في رمي شرفاء القوم وعليتهم بتهمة الفاحشة هو إساءة للمجتمع ونسف لمعلم من معالم العفة, يقول الله تعالى:" لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)".
ت- إمرار ما يسمع المرء من الأخبار على العقل, وإبطال التكهنات وسرعة الحديث بما يسمع المرء فهذا رشد ودراية, روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال:قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع"؛ومفهوم المخالفة هنا: كفى بالمرء صدقاً ألا يحدث بكل ماسمع, وهي خصلة للمؤمنين العاقلين. وقد وصف الله بمن يخالف هذا المعلم بأنه يتلقى الخبر بلسانه كناية عن تعطيله لعقله, وهو نقص في العقل والإيمان, ومع ذلك فهو على سهولته في نظر صاحبه فإن شانه عند الله عظيم, وعذابه عسير, قال الله-تعالى-:" إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)".
ث- لابد من وعظ من يرمي أعراض المسلمين والناقلين لها, يقول الله:"يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)", ومن أعظم مايزجر به متتبع العثرات هو الوعظ والزجر بالقرآن والتخويف من الله وعقوبته, ففي الدنيا إقامة الحد, ولايقام الحد إلا على كبيرة, وفي الآخرة عذاب وقصاص. ولذا يقول الحق –سبحانه- في السورة نفسها :"إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) ".
5. الاحتساب على أهل الفواحش, وكشف أجندتهم, قال الله –تعالى-:" إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) ". هنا وقفة مع من يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا, وهم كثر في عصر مثل عصرنا, حيث الإعلام الفاسد, والأقلام الجائرة, والعقول المنحلة التي صهرت فئام من عقول الأمة في مستنقعها, وميعت كثيراً من مبادئ المسلمين, وغيرت شيئاً من التنظيمات المحافظة على الأعراض, ونددت بجهود المحتسبين القائمين على صيانة المجتمع من الفاحشة, فهؤلاء هم خطر جسيم على العفة ومعالمها, وقد سادهم المنافقون منذ عصر الرسول-عليه الصلاة والسلام-؛ فجهادهم وكشف مخططاتهم, وإزالة الغبش عن الناس تجاه مشاريعهم, هو مبدأ لابد أن يعلو في روح كل مؤمن تأخذه الغيرة على محارم المسلمين وأعراضهم, ولايموت مع الإنسان إلا بانفلات روحه.
6. التفطن لمداخل الشيطان وطرقه ومزالقه, فكثيراً من مهاوي الردى لاتُردي صاحبها من أول سقطة, بل دركات حتى الهاوية-والعياذ بالله-, والإنسان بطبيعته تنازعه شهوته وفطرته, وقد يسهو عن إصمات قلبه في التفكر بالملذات, وربما سابقه النظر لمشهد مثير, أو يتساهل في أحكام الاختلاط والتسوق فيقع في حبائل الشهوة والرذيلة, ولذا فيحذّر الله عباده المؤمنين وقد ناداهم بالإيمان دراية بحبهم للخير, وإدراكاً لاحتمالية سير الأكثرية خلف خطوات الشيطان نظراً لتلبسها على أكثرهم ونزعة الفرد لبشريته غالباً, فيقول الرب-تبارك وتعالى-:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)",
يقول شوقي:
نظرة فابتسامة فسلام — فكلام فموعد فلقاء
ومن الخطوات والمصائد سماع الغناء, واللهو ويدخل فيه والعلم عند الله مانتج من أناشيد نهجت النهج الوجداني, وابتعدت عن الشعر الحماسي, وصارت تمنتج بـ(الكليبات) وغيرها, واستخدمت بعض المردان نقلة لذلك, وأدخلت الهرمونات الصوتية والتي كثيراً ما تكون من خلال أجهزة الغناء ذاتها, فافتتن الشباب والشابات, وأعرضوا وضلو وأضلوا, قال العلامة ابن القيم – رحمه الله – في إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: (ومن مكائد عدو الله ومصائده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة، ليصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفةً على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن القرآن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال الفاسق من معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة وحسنه لها مكراً وغروراً، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه، فقبلت وحيه، واتخذت لأجله القرآن مهجوراً..).
وبالتالي فخطوات الشيطان ومداخله لاتحصى, فقد تكن البيئة مدخل, الصحبة, المكان, أو الزمان فليحذر من الإنجراف خلفها, والغرور بما يملك من علم أو تقى أن يكون ضحية لمزلق شيطاني.
يقول الشيخ أبوبكر الجزائري-حفظه الله-معلقاً في تفسيره على قوله تعالى:" وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً": (وهذه منة أخرى وهي أنه لولا فضل الله على المؤمنين ورحمته بحفظهم ودفع الشيطان عنهم ماكان ليطهر منهم أحد, وذلك لضعفهم واستعدادهم الفطري للاستجابة لعدوهم).
7. الاستئذان عند دخول البيوت, وهذا أمره في الإسلام عظيم, وقد جاء صراحة في هذه السورة في أكثر من موضع, ليبين الله الاستئذان, وأحكامه, قال الله-جل في علاه-:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)", وهنا بعض المعالم:
أ- في الحديث المتفق عليه قال الرسول- عليه الصلاة والسلام-:"إنما جعل الاستئذان من أجل البصر", وهذا شأنه حتى مع أهل الفرد وأسرته فربما دخل بيته ولم تتهيأ له زوجه, أو حتى محارمه, ففي الأدب المفرد روى البخاري عن عطاء قال: سألت ابن عباس فقلت: أستأذن على أختي؟ فقال: نعم, فأعدت فقلت: أختان في حجري, وأنا أمونهما, وأنفق عليهما, أستأذن عليهما؟ فقال:"نعم, أتحب أن تراهما عريانيتن؟!).
ب- كان النبي-صلى الله عليه وسلم-كما روى عبد الله بن بسر-رضي الله عنه- لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه, وفي هذا دلالة على احترام البيوت, وحتى يكن أبعد من مظنة رؤية عورات البيت.
ت- قد حدد الله كيفية استئذان الطوافين على البيوت وهم ما ملكت الأيمان والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم أن يستأذنوا في ثلاث أوقات, قال الله تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)".وهنا لطيفة في الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم فقد يستصغر البعض أعمارهم, ويوهم نفسه بأنهم لايدركون, وهذا خطأ تربوي فادح, فلديهم البصر الذي يحفظ الصورة في المخيلة, والحس الذي يربط بين الأشياء, يقول د.حامد زهران في كتابه علم نفس النمو عن مرحلة الطفولة من 3-6 سنوات: (يطلق البعض على هذه المرحلة "مرحلة السؤال", فما أكثر أسئلة الطفل في هذه المرحلة, ويكون الطفل في هذه المرحلة علامة استفهام حية بالنسبة لكل شي, فهو يريد أن يعرف الأشياء التي تثير انتباهه). وبالتالي فهو توجيه رباني بتعميق حس الاسئتذان, وعدم ترك الحبل على الغارب للصغير أياً كان, وتربيته على الاستئذان وزرع معالم العفة فيه, حتى إذا بلغ الحلم فينطبق عليه ماينطبق على الكبار, فلا يتردد في الامتثال والإنقياد, يقول الحق-تبارك وتعالى-:" وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)".
8. هنا أعظم معلم من معالم العفة, وهو برهان الإيمان, وعلامة اليقين بوعد الله, إنه غض البصر. قال الله تعالى:" قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ…".قد ترعرع أناس بين ظهراني الكفر, وعُرض آخرون على العاهرات, وافتتن عدد بالمومسات فكانت وقايتهم بعد حفظ الله في الاستجابة لنداء الله بغض البصر وحفظ الفرج, وهنا لفتة قرآنية في قوله تعالى:( يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) فهنا كما ذكر الشيخ السعدي-رحمه الله-:(أن الله أتى بأداة"من"الدالة على التبعيض؛ لأنه يجوز النظر في بعض الأحوال لحاجة, كنظر الشاهد والعامل والخاطب, ونحو ذلك. ثم ذكرهم بعلمه بأعمالهم؛ ليجتهدوا في حفظ أنفسهم من المحرمات).
كم أسلمَ رجل أو امرأة البصر فكانوا صرعى لتلكم النظرة, والقصص تزخر بذكر الجرحى والقتلى من هذا السهم المسموم الذي أخبر عنه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-. إن غض البصر طاعة لله, ووقاية من شرور الفاحشة, ونحن في عصر يتحدى هذه العبادة, حيث امتلأت المشاهد المغرية عبر الفضائيات وخدمات الانترنت الحديثة والأجهزة الذكية فكان الناجون يعدون عداً. فما أجمل الإنصياع لأمر الله سبحانه, وسيورث الله في القلب طمأنينة ونوراً, وحبس نظرة خير من عبادة شهوة.
9. أمر الله –تعالى- المؤمنة بغص البصر وحفظ الفرج والحجاب والتستر وعدم إظهار الزينة ووجوب إخفائها إلا على المحارم وقد حددهم الله سبحانه وتعالى في قوله :" وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)", وفي هذا التوجيه الرباني لفت للجانب الآخر من معالم العفة حيث الرجل والمرأة هما قطبا المعالم, فما أجمل أن تقوم المرأة بدورها في صد باب الفاحشة, وإغلاق طريق الشيطان تجاهها بأي شكل من الأشكال, حتى زينتها مع محارمها لتكن محدودة فلا تظهر غالب جسدها وتتكشف بحجة الزينة, فقد قال الله:" وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا " قال الشيخ السعدي –رحمه الله-معلقاً: (الزينة كالثياب الجميلة والحلي, وجميع البدن كله من الزينة, وما ظهر منها: أي الثياب الظاهرة التي جرت العادة بلبسها إذا لم يكن في ذلك مايدعو إلى الفتنة بها).ومن المصائب التي بُليت بها الأمة هي تلك الألباس الكاسية العارية, التي لاتكاد تجد المرأة المحافظة مايعينها على تسترها, مما تفشى ظهور الألبسة غير المحتشمة, وتطبع غالب النساء على هذه الملبوسات في أماكن تجمعاتهن, وهذا يأخذنا لأولئكم الذي يلوكون بالضوابط الشرعية في كل مهرجان يريدون أن يعروا المرأة من خلال دعاياتهم الزائفة بالضوابط الشرعية, وإن العفيفات تعلمن حقاً ماهية ضوابط الشريعة, ولاتسلمن عقولهن لمريدي الفاحشة والبغاء.
10. النكاح, فهو من أبرز معالم العفة ودعائمها, حيث أمر الله كل ولي أن يُنكح من في ولايته, قال الله تعالى:" وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)", والصلاح هنا:إما صالحاً في دينه أو صالحاً للزواج كما ذكر ذلك الشيخ السعدي-رحمه الله-, وإن الزواج عبادة وعفة وبناء, وهو سمة للحياة السوية المستقرة فلا أقل أن يجد الرجل أو المرأة ما يعفهما. وهنا بعض المعالم:
أ- الأمر هنا بأن يتزوج المرء, أو أن يُزوج من يعول حتى ولو لم يجدوا مالاً فإن الله قد تكفل بإغنائهم, قال الله:" إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ", وروى الترمذي عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه, إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض".
ب- من لم يستطع النكاح, وصعب عليه لأي سبب من الأسباب فلايجوز له أن يترك نفسه فريسة للشهوات والفواحش فقد أمره الله أن يستعفف, قال الله تعالى:" وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)".وأمر الله بالعفة يقتضي تحميل الفرد المسؤولية عن نفسه في عفته, وصيانته لعرضه فلا يتذرع بطرقه أبواب الحرمات بأنه لم يعطَ مايعينه على النكاح, فقد صح عن الحبيب –عليه الصلاة والسلام-في الحديث المتفق عليه: "يا معشرالشباب, من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء".والباءة هنا: القدرة على مؤونة الزواج؛ لأن الخطاب قد وُجه لفئة الشباب, وأُمروا بالصوم تخفيفاً لوطأة الشهوة. يقول الإمام ابن القيم-رحمه الله-في زاد المعاد29/2: (وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها، أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) (البقرة :185).
ت- الحق كذلك في ولي الفتاة ألايتركها فريسة للزنا والبغاء من منعها الزواج أو النكاح, وهو هنا موجهٌ في حق الأمَة, فما بالنا بمن يعول المرء من بناته أو أخواته أو من يعول من رحمه, يقول الحق:"وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ" ,وإن تركَها ولم يحرص على تزويجها ونظر في بعض المآلات منها كالخدمة أو المال فيترك تزويجها فلا يجوز بحال من الأحوال, فقد يضطرها للفاحشة ومادونها؛ ولاأجد حرجاً فيمن وجد من يثق من الرجال ليزوجه من يعول من الفتيات, فليس هو أشرف وأكرم من رسول الله-عليه الصلاة والسلام- وصحابته الكرام, وأن يختار لهن الصالح خير من تركهن سنين عديدة, وربما لايأتينهن إلا الحشف من الذكور.
في نهاية المطاف بعد أن اقتبسنا نوراً من مطلع سورة النور يضيء لنا معالم العفة وموانع الرذيلة, فأقول أن المؤمن والمؤمنة بصلتهما الدائمة مع الله, وبالدعاء المستمر مع الأخذ بالأسباب الفردية , وسعيهم لإقرار الأسباب المجتمعية والسلطوية, لهي كفيلة –بإذن الله- بانتاج مجتمع نزيه, وأن يسعى كلٌ في مكانه وبحسبه وحاله في تدعيم معالم العفة والدلالة عليها, وقمع كل فكر دخيل, وإخراس كل صوت نشاز يدعو لإطفاء سراج العفة من بيوت المسلمين. اللهم ألهمنا رشدنا واجعلنا هداة مهتدين لاضالين ولامضلين.
وكتبه
سعيد بن محمد آل ثابت
[email protected]
http://twitter.com/#!/althabit