إعجاز القرآن في النفس البشرية :
كل انسان منا له طاقة وقدرة عقلية، فالمتعلم طاقته العقلية أكبر ممن لم ينل حظا من العلم أو من الأمي، وهؤلاء جميعا لا يمكن أن يجتمعوا عقلا ليشهدوا شيئا واحدا، وكل واحد منهم ينسجم مع هذا الشيء نفس الانسجام، فاذا كانت مثلا هناك محاضرة في فرع من العلوم فلا بستطيع أن ينسجم معها الا ذلك الذي يفهم في هذا الفرع، أما اذا دخل اليها عدد من الذين لم يقرأوا عن هذا العلم فان الانسجام يضيع، ذلك يحدث في كل فرع من فروع الدنيا.
ولكنك اذا جئت الى القرآن الكريم، وهو كلام الله، تجد أن كل النفوس البشرية المؤمنة تنسجم معه، لا تجمعها رابطة الايمان، انك تدخل الى المسجد تجد فيه المتعلم ونصف المتعلم والعالم وقد جلسوا معا جميعا يستمعون الى القرآن الكريم، وتجدهم جميعا منسجمين مع القرآن، تهتز نفوسهم له، وترتاح ملكاتهم اليه، لا فرق بينهم، حتى ذلك الذي لا يعرف معنى ألفاظ القرآن الكريم، تجده جالسا يستمع وهو منسجم ويهتز من داخله، وتقام الصلاة فيقف الجميع في انسجام وراء الامام، تختفي الفوارق الدنيوية بينهم، ولكن تجمعهم رابطة الايمان، فيصلون جميعا بانسجام، لأن ملكاتهم التي خلقها الله فيهم منسجمة ومتفقة مع كلام الله، فلا تلحظ فرقا ولا ترى الا مساواة ايمانية.
بل انه من العجيب ان القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد في العالم الذي يمكن أن يحفظه الانسان بدون فهم، فتجد الطفل الصغير عمره سبع سنوات وربما أقل من ذلك ومع هذا يحفظ القرآن بكامله، أيمكن لهذا الطفل الصغير غير المكلف أن يستوعب معاني القرآن الكريم؟ بالطبع لا، ولكن الايمان الفطري في داخله يجعله يحفظ القرآن عن ظهر قلب ويتلوه، لأن هذا الايمان من الخالق وهو الله سبحانه وتعالى، ولذلك تنسجم النفس البشرية وهي في أولى مراحلها مع كلام الخالق، أليس هذا اعجاز نقف عنده ايلفتنا الى الله سبحانه وتعالى، وأنه هو الخالق وهو الموجد، فاذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( ما من مولود الا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )) البخاري ومسلم.
قلنا صدقت يا رسول الله، وأكبر دليل على ذلك هو انسجام فطرة الانسان مع كلام الله.
بل وأكثر من ذلك، يأتي الله سبحانه وتعالى ليرينا أن الانسان هو هو وأنه سيأتي به يوم القيامة دون أن يختلط أحد مع أحد، ويتساءل الذين لا يؤمنون: كيف يمكن أن يأتي الانسان بنفسه يوم القيامة دون ان يختلط أحد مع احد؟
نقول: ان الله سبحانه وتعالى رحمة بعقولنا قد أعطانا الدليل في الدينا، ولن ندخل في تكوين الانسان، ولا في أشياء غيبية، ولكننا نأخذ بالدليل المادي وحده، فالبشر وهم بلايين، كلهم مخلوقون على هيئة واحدة، ولكن كل واحد منهم مميز عن الآخر، فالأب يعرف ابنه من بين ملايين البشر، والابن يعرف أباه وأمه بين ملايين النساء والرجال بمجرد النظرة، بمجرد اللمحة تستطيع أن تخرج ابنك أو أباك أو أمك من بين الناس جميعا هذا تمييز للانسان لا يشترك فيه بقية الخلق، فأنت لا تستطيع أن تميز بقرة عن بقرة أو جمل عن جمل، أو أي مخلوق آخر الا الانسان.
ولذلك فان رعاة الغنم يرقمونها أو يضعون عليها علامات مميزة حتى يعرفوها، ولكنهم لا يضعون على أولادهم علامات حتى يميزوهم عن غيرهم من ملايين الصغار.
الانسان والتميز:
اننا نجد الانسان مميزا ببصمة الأصابع، لا تتشابه بصمة ابهام انسان مع انسان آخر رغم وجود بلايين البشر، ليس هذا فقط ولكن لكل منا بصمة رائحة لا تتشابه مع انسان آخر ونحن لا ندركها، ولكن كلب الشرطة المدرب هو الذي أعطاه الله ملكة التميز فيشم رائحة الأثر، فيخرج هذا الانسان من بين عشرات بل المئات.
وكلما أعيدت التجربة قام كلب الشرطة باخراج نفس الشخص، بل انه مع تقدم العلم وجد أنه لكل انسان بصمة صوت تميزه عن الآخر، وبصمة فك خاصة بأسنانه، كل هذا ليلفتنا الحق سبحانه وتعالى الى أنه ميز كل انسان بميزات لا يشترك فيها أحد مع أحد حتى ياتي به يوم البعث هو هو نفسه.
بل ان الله سبحانه وتعالى وضع فينا العدل بالنسبة لأبنائنا رغما عنا فتجد الأب يحب أصغر أبنائه أكثر من الكبار، لماذا؟ لأن الابن الصغير مهما امتد العمر بالأب سيقضي في رعاية أبيه سنوات أقل من الكبار، ولذلك أعطاه حنانا أكبر ليعوضه عن هذه السنوات، حتى يكون خير الأب وعطفه قد وزعا على أبنائه بالعدل، فمنهم من أخذ عطفا أقل وسنوات أكثر، ومنهم من أخذ سنوات أقل وعطفا أكثر.
الى هنا نكون قد وصلنا الى بيان بعض الفيوضات التي شملتها الآية الكريمة:
{ وفي أنفسكم أفلا تبصرون}.
فالآية أعطتنا بوضوح الدليل المادي من النفس البشرية بانها تعرف الله بالفطرة، وتعرف الخير والشر بالفطرة، مصداقا لقول الله تعالى:
{ فألهمها فجورها وتقواها} الشمس 8.
وأن هذه النفس بالدليل المادي لا تملك لذاتها نفعا ولا ضرا الا ما شاء الله، وأنها منسجمة مع الايمان بفطرة خلقها، ومنسجمة مع كلام الله بفطرتها الايمانية.
على أن الدليل المادي لوجود الله لا يشمل النفس البشرية وحدها، بل يشمل كل شيء في الكون، فكل ما في الكون ينطق بأنه لا اله الا الله، وفي كل شيء دليل .
دمتم برعاية الله