«إنه خطأ القمر. لقد اقترب من كوكبنا أكثر مما يجب، وتسبّب بجنون الناس».
إنه مقطع من مسرحية «أوتيلو» للكاتب الإنكليزي الشهير ويليام شكسبير. مقطع ردّده الكثيرون عبر القرون، وخصوصاً لدى حصول أحداث غريبة في أثناء اكتمال القمر، وبوجه التحديد تلك المتعلّقة بالصحة العقلية، وأعمال العنف والجرائم.
حتى اليوم، ما يزال الكثيرون يؤمنون بصحة هذه المقولة ويعزونها الى دلائل علمية راسخة، وحجّتهم في ذلك، نظرية الفيلسوف اليوناني المعروف أرسطو، والتي أكّد من خلالها أن الدماغ البشري يتأثر بجاذبية القمر، كونه أكثر أعضاء الجسم رطوبة.
ما صحة هذا الإعتقاد، وهل بإمكان جاذبية القمر المكتمل أن تتلاعب بخلايا الدماغ بالطريقة التي تُحدث فيها المد والجزر؟
أرسطو وكتّاب معاصرون
بعد أرسطو، أكّد بعض الكتّاب المعاصرين، ومنهم العالِم النفساني الأميركي آرنولد ليبر، أن تأثير القمر على السلوك، ينبع من تأثيره على مياه الأرض، كالبحار والبحيرات وسواها. وباعتبار أن نسبة الماء في الجسم البشري تصل الى حوالى 80٪، يصبح الإيمان بارتباط القمر المكتمل بالسلوك الشاذّ منطقياً الى حد بعيد.
وفي إحدى الدراسات التي نٌُشرت العام 1982 في الولايات المتحدة الأميركية، عُرف أن حوادث السير تزداد بشكل ملحوظ في الليالي المقمرة، هذا بالإضافة الى زيادة دخول المرضى الى مستشفيات الأمراض العقلية، وتزايد عمليات السطو وسواها من الجرائم.
الجذور اللغوية والإعتقادات الشعبية
قبل الدخول في مضمون بعض الحكايات الشعبية التي اختلطت منذ القدم بالواقع، واحتلت جزءاً لا يُستهان به من تفاصيل أفلام الرعب والجريمة المعاصرة، لا بد من العودة الى الجذور اللاتينية لكلمة «قمر» أي «Luna» التي هي مصدر كلمة «Lunatic» أو «الجنون». وهذا يعني أن الكلمتين ارتبطتا في اللغة منذ أقدم العصور بشكل يفسّر العلاقة اللاعقلانية القائمة بينهما. وهنا لا بد من الإشارة الى الإعتقادات الشعبية الشائعة التي ربطت بين الليالي المقمرة وبعض الخرافات، ومنها تحوّل بعض الناس الى ذئاب بشرية ومصّاصي دماء، إضافة الى الربط بينها وبين عضّات الكلاب الشاردة وعمليات الإنتحار وسواها من الأحداث الذهانية التي تضخّمها الأفلام.
وعُرف أن بعض الدراسات الحديثة، كشف النقاب عن حقيقة أن 45 بالمئة من طلاب المدارس العصرية يؤمنون بتأثير القمر المكتمل على الأداء الذهني، وتسبّبه بالتالي بمعظم الأحداث الغريبة التي تتزامن وتوقيت اكتماله. ويقترح الكثيرون البحث عن وسائل علاجية ووقائية للحدّ من تأثيره على السلوك البشري.
إحتياطات وآراء داحضة
العام 2022 أقدم بعض أقسام الشرطة البريطانية على زيادة أعداد ضباط الطوارئ وعناصرها في أثناء فترات اكتمال القمر، تحسباً لاحتمال زيادة الجرائم. مع ذلك، فإن معظم الباحثين في الحقل النفسي والعصبي وعلوم الفلك، يدحض اليوم هذه النظرية، ويعتبرها شكلاً من أشكال الهذيان.
وكان عالِم الفلك الأميركي جورج رابيل قد هزأ من هذه المفاهيم بقوله: «إن البعوضة الصغيرة التي تحطّ على الذراع البشرية، تحدث جاذبية أكثر من تلك التي يحدثها القمر المكتمل».
ويتابع مؤكداً: «إن العلم يثبت تأثير جاذبية القمر على المياه المكشوفة كالبحار والبحيرات والمحيطات، وليس على المحتويات المائية المغلقة، ومنها الدماغ البشري. وهو يعتقد أن تأثير جاذبية القمر على مياه الأرض لا تختلف من حيث الفعالية بين مرحلة اكتماله ومرحلة بزوغه، أو حين يكون غير مرئي من الأرض».
هذا يعني أن الآراء التي تعارض نظرية تلاعب القمر بالعقول في أثناء إكتماله، تفوق الآراء المؤيدة لها. والسؤال المطروح: إذا كانت هذه النظرية هي مجرّد وهم، فكيف نشأت، وكيف تمّ الربط بينها والعلوم، وخصوصاً الفيزياء والبيولوجيا
بين الحقيقة والوهم
حسب ما أكّدته مجموعة من الباحثين النفسيين في جامعة ويسكونسين – ماديسون الأميركية فإن العلاقة بين إكتمال القمر والجنون، أو الأحداث الغريبة، هي «علاقة مخادعة» أو غير موجودة. لذا فهم يشبّهونها بالعلاقة بين الطقس الممطر وأوجاع مرض الروماتيزم والتي يؤمن بها الكثيرون، علماً أنها وهمية، وغير موثّقة من الناحية العلمية.
والعلاقة الوهمية، على حدّ تعبير الباحثين، تنشأ من مقدرة أدمغتنا على تسجيل الأحداث وتذكّرها بالتزامن مع توقيت حدوثها. ولهذا السبب، فإن أدمغتنا بالذات، تعجز عن الأخذ بالاعتبار الأوقات التي تخلو منها الأحداث وتمحوها من الذاكرة.
فمثلاً، عندما يحدث شيء غريب في وقت معين كوقت إكتمال القمر، فإننا نلاحظه لأننا نهتم بالتوقيت، ونفعل ذلك من منطلق إعتقادنا بنظرية تأثير القمر. لكن، عندما تخلو مرحلة إكتمال القمر من الأحداث، فإن ذاكرتنا تعجز عن الملاحظة والتسجيل. وهذا يعني أن تذكّرنا الأحداث يصبح جزئياً أو أنتقائياً.
أما بالنسبة الى نشوء نظرية الترابط المشار اليها أي العلاقة بين «الليالي المقمرة» و«الجنون»، فإنها بحسب العالِم الأميركي شارلز ريزون، قد نشأت بفعل إحتوائها على جزء من الحقيقة. وهذا يعني أنها اعتبرت في زمن ما حقيقية وغير زائفة.
إذا ما تركنا جانباً مبدأ تلاعب جاذبية القمر بالمياه على الأرض، واعتبار الإنسان كائناً رطباً أي مكوناً من نسبة كبيرة من الماء، فإن العودة الى فجر الحضارات أو المجتمعات البدائية كفيل بإلقاء الضوء على بعض الوقائع.
فقبل إنتشار البنيان وأضواء الشوارع، كان ضوء القمر الساطع يمنع الذين يعيشون في العراء من النوم، بمن فيهم معانو الأمراض العقلية الحادة. وهنا يجدر بالإشارة أن الحرمان من النوم يحفّز التصرّفات الغريبة والشاذة لدى الأشخاص المصابين ببعض أمراض الإكتئاب، وخصوصاً الإكتئاب ذي الحدين (Bipolar Depression). وعلى هذا الأساس، نشأت علاقة بين اكتمال القمر والجنون.
مهما كانت التعليقات الآخذة بصحة هذه النظرية أو عدمها، فإن علاقة إكتمال القمر بالجنون تبقى كسواها من المفاهيم الشعبية، راسخة الجذور بوهم الخرافة من جهة، وبواقع حياتنا المليء بالغرائب والمتناقضات من جهة ثانية.