في الشعر العربي بجميع عصوره.. مراث تعدُّ من أجمل ما في الأدب العربي، ويروي الرواة أن بعض العرب سئلوا: ما بال أفضل أشعاركم الرثاء..؟
فأجابوا: لأننا نقولها وقلوبنا موجعة، أي لأنها صادرة عن عاطفة حارة، خالية من كل تكلف وتصنع..
والرثاء يكون على فقيد في العادة من أهله وقومه وذوي قرباه أو ممن ينزلون منه منزلة النفس والأهل ممن يحبهم ويؤثرهم، وهذا النوع هو أصل الرثاء، لكن رثاء الرجال للنساء في الشعر العربي يعد قليلاً، وأقل من رثاء الرجال لزوجاتهم، لأن العربي عرف بجلده وصبره وعزوفه عن الحديث عن المرأة المحرم، وإن رثاها البعض يستر اسمها مع أنها زوجته وأم أبنائه، فهذا الطغراني رثى زوجته كثيراً ولم يذكر اسمها فعبر أكثر من مرة عنها بقوله ـ ستيرته ـ فالستيرة هي المرأة المستورة، وهذا الوصف يوحي بأن الشاعر قصد أن يجعل زوجته في ستر حتى على صفحات ديوانه المشهور.
وفي العصر الأموي عرفت قصائد خاصة فقط في الرثاء، لكن جرير شد في مرثية زوجته فختمها بهجاء أعدائه في قصيدته التي يقول فيها:
لولا الحياء لهجاني استعبارُ
ولزرت قبرك والحبيب يزار
وفي العصر العباسي كثر رثاء الزوجات، وأشهر زوج رثا زوجته مسلم بن الوليد فبعد دفنه لزوجته لاحظ أصحابه شدة ألمه واستسلامه لأحزانه، فأرادوا حمله على الشراب، حتى يتسل بالخمر عن مصابه فرد عليهم بقوله:
بكاء وكأس كيف يتفقان
سبيلاهما في القلب مختلفان
دعاني إفراط البكاء فإنني
أرى اليوم فيه غير ما تريان
غدت والثرى أولى بها من وليها
إلى منزل ناء بعينيك دان
وكيف بدفع اليأس والوجد بعدها
وسهماهما في القلب يعتلجان
وهذا وزير الواثق والمعتصم محمد بن عبد الملك يقول أبياتاً في رثاء زوجته يصور فيها حال ولده وقد تركته طفلاً صغيراً، ويبين كيف يواري حزنه بدموعه، وهي من أروع ما رثيت به الزوجات فيقول:
ألا من رأى الطفل المفارق أمه
بعيد الكرى عيناه تبتدران
رأى كل أم وابنها غير أمه
يبيتان تحت الليل ينتجيان
وبات وحيداً في الفراش تحثه
بلابل قلب دائم الخفقان
فلا تلحياني إن بكيت فإنما
أداوي بهذا الدمع ما تريان
وإن مكاناً في الثرى حظ لحده
لمن كان في قلبي بكل مكان
أحق مكان بالزيارة والهوى
فهل أنتما إن عجت منتظران
ترى في هذه الأبيات لوعة حقيقية، لوعة الزوج الوامق العاشق الذي يكاد يموت حسرة وأسى على زوجته، وعظم الحزن والشجن في نفسه فيحن إليها ويحن إلى جسدها وروحها، وما يزال يختلف إلى قبرها ولكن ماذا بوسعه أن يفعل، إنها ذهبت إلى الأبدولم يعد له منها إلا الدموع الغزيرة يسكبها لذكراها، والآلام والأشجان.
وللشريف الرضي أبيات يرثي فيها زوجته بلوعة وحزن فيقول:
ذكرتك ذكرة لا ذاهل
ولا نازع قلبه والجنان
أعاود منك عداد السليم
فيا دين قلبي ماذا يدان
فيا أثر الحب إني بقيت
وقد بان فمن أحب العيان
وقالوا تسل بأترابها
فأين الشباب وأين الزمان
وللطغراني أكثر من خمسة قصائد في رثاء زوجته وكلها تدل على شديد حرقته ومنها قوله:
إن ساغ بعدك لي ماء على ظمأ
فلها تجرعت غير الصابر والصبر
وإن نظرت من الدنيا إلى حسن
منذ غبت عني فلا متعت بالنظر
وفي مصر نقرأ شعراً للمعلي الطائي يرثي فيه زوجته وصف وهو مرثية طويلة تمتاز بالعاطفة الصادقة والشعور العميق بالحزن ومنها قوله:
يا موت ما بقيت لي أحداً
لما زققت إلى البلا وصفاً
أسكنتها في قعر مظلمة
بيتاً يصابح تربه السقفا
بيتاً إذا ما زاره أحد
عصفت به أيدي البلى عصفاً
يا قبر ابق على محاسنها
فلقد حويت النور والظرفا
وفي الأندلس يرثي شاعر زوجته فيقول:
ولما أن حللت الترب قلنا
لقد ضلت مواقعها النجوم
ألا يا زهرة ذبلت سريعاً
أضنى المزن أم ركد النسيم
وهكذا استمر رثاء الزوجات شعراً عبر كل العصور، ومن أبرز الذين رثوا زوجاتهم في العصر الحديث محمود سامي البارودي، الذي رثى زوجته بقصيدة تعد أطول قصيدة رثيت تبها امرأة في الأدب، فقد بلغت أبياتها سبعة وستين بيتاً، وهي لا تمتاز بطولها عن غيرها فحسب بل تمتاز بتعبيرها عن أحزان البارودي ونفسه المحطمة أصدق تعبير، فقد كان منفياً في جزيرة سرنديب يوم ورد إليه نعيها، فقد كانت زوجته زهرة حديقته التي كان يفوح شذاها في روضته فيئن لفراقها ويبكي وينوح، لأنه كان يظن أنها ستكون أول من يلقاه في وطنه بعد طول غيبته وأول من يضمه إلى صدره ويدفنه بحرارة شوقه، فكانت الفجيعة وحرقة الحزن التي اشتعلت في قلبه فقال:
لا لوعتي تدع الفؤاد ولا يدي
تقوى على رد الحبيب الفادي
يا دهر فيم فجعتني بحليلة..؟
كانت خلاصة عدتي وعتادي
إن كنت لم ترحم ضناي لبعدها
أفلا رحمت من الأسى أولادي
يبكين من وسله فاق حفية
كانت لهن كثيرة الإسعاد
فخددهن من الدموع ندية
وقلوبهن من الهموم صوادي
ومن الشعراء المحدثين الذين رثوا زوجاتهم في ديوان كامل (عزيز أباظة) و(عبد الرحمن صدقي) و(محمد رجب البيومي) فعزيز أباظة الذي صعق الحزن قلبه وسعر فؤاده فسكب الدموع وسرعان ما تحولت الدموع إلى ديوان شعر سماه (أنات حائرة) وهي أنات نفس سعدت بالحياة الزوجية ثم ردت إلى جحيم الفراق وهو فراق أبوي، فمن قصيدته (يوم ميلادي) التي يقول في مطلعها:
أقول والقلب في أضلاعه شرق
بالدمع لا عدت لي يا يوم ميلادي
نزلت بي ودخيل الحزن يعصف بي
وفادح البث ما ينفك معتادي
فقدتها خلة للنفس كافية
تكاد تقني غناء الماء والزاد
تحنو على وترعاني وتبسط لي
في غمرة الرأي الناصح الهادي
أما عبد الرحمن صدقي فيسمي ديوانه (من وحي المرأة) فلم تكن هذه المرأة شريكة حياته فحسب، بل كانت شريكة عقله ودرسه وقلبه فاعتصر الحزن قلبه عليها فجاء ديوانه مليئاً بالألم والعذاب حمل يوماً إلى قبرها باقة زهر فقال:
أي زهرتي في الترب بين المقابر
إليك حملت الزهر شاهت أزهاري
حملت إليك الزهر ترويه أدمعي
وتذوبه أنفاسي وحر زوافري
قدمت عليك اليوم أسوأ مقدم
سواد بأثوابي سواد بخاطري
على قبرك المرموق أبكي وأرتمي
وأجأر بالشكوى تشق مرائي
وشاعرنا محمد رجب البيومي تراه في ديوانه (حصاد الدمع) يذكر ذكرياته مع زوجته وطبائعها وأخلاقها، ويسرد ذكرياته المؤلمة ورحلتها مع المرض وسفرها معه وكيف عاد إلى أولاده دونها فيقول على لسان أولاده
يقولون ماما كلما عنّ مشكل
وأولى بهم أن يسكتوا لو تعقلوا
يصيحون هلا قد ذهبت تعيدها
كأني برد الراحلين موكل
يقولون ماما من يلوم مقالهم
وقد غاب عنهم وجهها المتهلل
وهكذاً كل قصائ ديوانه تؤكد لوعة فراقه ومدى مأساته واختلاج شوقه لزوجته وقال في أبيات معبراً عن نار وجده وضنى فراقه:
رفيقه دربي كيف أقطعه وحدي
وما لي من حول وما بي من جهد
أراه طويلاً لا تني عثراته
تعرقل من خطوي وتلثم من حدي
هذه نماذج من شعر الرثاء العربي قديمه وحديثه، قد لا تعطي صورة كاملة عن هذا الفن الشعري المستقي من منابع العاطفة من القلب دون تزوير أو تلوين، لكنها تعطي لمحات متكاملة عن صور حزينة من صور النفس الإنسانية، وهذا غيض من فيض.
تسلم ايدك