الحمد لله رب العالمين،ولا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيئ قدير والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لما أنزل الله سبحانه وتعالى قوله: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ))، قال الصحابة: يا رسول الله، وأينا لم يظلم نفسه؟
قال: إنه ليس بذلك، أما سمعتم الله يقول:
((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ))) (1) .
ومعنى الحديث: أن لهم الأمن في الآخرة، والأمن في الدنيا.
فالأمن في الدنيا: من الغواية، ومن الضلالة، ومن الخطأ، ومن الانحراف.
والأمن في الآخرة: من الجحيم، ومن النار، ومن العذاب، والله المستعان.
((وَهُمْ مُهْتَدُونَ))، أي: سالكون طريق الهداية، الناجون، بإذن الله، الموفقون. فالأصل أن محمد حصل الهداية المطلقة، حصل الاهتداء المطلق، حصل في الآخرة الأمن المطلق، والناس يتفاوتون في هذا حسب الإيمان والأعمال، وعلى هذا: فمن حصل أصل الهداية، وهو: الإسلام، حصل أصل الهداية، وحصل في الآخرة أصل الأمن، لا الأمن كله (1) .
لكن ما معنى الظلم؟
ظنّ الصحابة، رضوان الله عليهم، أن الله لما أنزل قوله: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ))، أي: أنهم الذين لم يذنبوا، ولم يخطئوا، ولم يرتكبوا عموم المخالفات.
فقالوا: يا رسول الله مَن يطيق هذا؟
نعم، لأننا جميعاً من الظالمين.
فالمقصود بالظلم الذي في الآية الشرك.
فالحمد للّه الذي جعل الظلم هنا شركاً، ولو جعله معصية أو خطأ لكنا وقعنا جميعاً في هذا الظلم وما كان لنا مخرج.
والرسول صلى الله عليه وسلم هنا فسَّر القرآن بالقرآن قال: (إنه ليس كما تظنون، أما سمعتم الله يقول: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ))) فسمَّى الله الشرك ظلماً. وهذا يقصد به صلى الله عليه وسلم وصية لقمان لابنه: ((وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)).
وفي الحديث: أن الله سبحانه وتعالى لما أنزل قوله تبارك وتعالى: ((لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا))، قال أبو بكر : يا رسول الله، كُلفنا من الأعمال ما لا نطيق، فكيف العمل بعد هذه الآية؟
فمعناها إذا عملنا سوءاً نُحاسَب به.
فقال صلى الله عليه وسلم: (غفر الله لك يا أبا بكر ، ألستَ تهتم، ألستَ تغْتَم، ألستَ تحزن، ألستَ تمرض؟
قال: بلى.
قال: فهو ما تجزون به) (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يصيب المؤمن هم ولا غم ولا حزن ولا مرض حتى الشوكة يُشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) (1) .
قال شيخ الإسلام : والمؤمن إذا فعل سيئة، فإن عقوبتها تندفع عنه بعشرة أسباب:
1- أن يتوب فيتوب الله عليه؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
2- أو يستغفر فيغفر له.
3- أو يعمل حسنات تمحوها فإن الحسنات يذهبن السيئات.
4- أو يدعو له إخوانه المؤمنون، ويستغفرون له حياً وميتاً.
5- أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به.
6- أو يشفع فيه نبيه صلى الله عليه وسلم.
7- أو يبتليه الله تعالى في الدنيا بمصائب تكفر عنه.
8- أو يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه.
9- أو يبتليه في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه.
10- أو يرحمه أرحم الراحمين. اهـ (1) .
في الحديث أمور:
أولها: أن الله لا يغفر الشرك للمشرك، ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)).
وفي الحديث عن معاذ : (أنه كان رديف الرسول صلى الله عليه وسلم، فسأله عن حق الله على عباده.
فقال: الله ورسوله أعلم.
قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً.
ثم سأله عن حق العباد على الله؟
قال: الله ورسوله أعلم.
قال: حقهم عليه ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً) (1) .
ثانياً: أن الظلم درجات، قال سبحانه وتعالى: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ))، والأصناف الثلاثة جميعاً يدخلون الجنة عند ابن تيمية وابن القيم ، ومن وافقهما.
والجمهور يرون: أن السابقين بالخيرات، والمقتصدين في الجنة، وأما الظالمون ففي النار.
ونحن من الظالمين للأنفس، فنسأل الله أن يكون التفسير على ما قال ابن تيمية لندخل معهم!
ثالثاً: من هم السابقون، والمقتصدون، والظالمون (1) ؟
السابق هو: من أتى بالفرائض، والنوافل، وترك الكبائر، والصغائر، والمكروهات.
والمقتصد: من أتى بالفرائض، ولكن ما تزوَّد بالمستَحَبات، ومن ترك الكبائر، لكن ربما أتى بالصغائر.
والظالم لنفسه: من يترك بعض الفرائض، ويأتي ببعض الكبائر.
والصحيح: أن الثلاثة كلهم من المسلمين؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ((جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا))، فأعاد الضمير جميعاً على الأصناف الثلاثة.
وقالت عائشة رضي الله عنها: السابقون هم: الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر ، و عمر ، ومن سار معهم.
والمقتصدون: من يتبعهم بإحسان.
والظالمون: أنا وأنت (أي: السائل، وهو: الأسود بن يزيد ).
هذه عائشة تقول هذا، وهي مَن هي، فكيف بنا نحن؟
قال رجل للحسن البصري : ذهب القوم من السلف على الخيول وبقينا نحن نركب الحمير، يعني: في العمل الصالح، وفي الزهد، وفي العبادة.
قال الحسن : والله، لتلحقنّ بالقوم، ولو كنت على حمير معقّرة إذا كنت على الطريق.
إذا كنت على طريق السنة لحقت بالقوم:
قال أنس رضي الله عنه: يقول صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب) (1) فنحن نشهد الله أننا نحبهم، فنسأل الله أن يدخلنا معهم في الجنة، أما عملنا فلا عمل.
رابعاً: أن العصمة لا تكون إلا للأنبياء، وأن من قال من الصوفية : أن الولي يكون معصوماً، فقد كذب على الله، بل الولي يخطئ، ويذنب، ويسيء، ويعصي الله، ولا يكون معصوماً، ولكن يغفر الله له باستغفاره، وتوبته، وعمله الصالح.
خامساً: تواضع الصحابة؛ لأنهم اعترفوا بالذنوب.
سادساً: أن العلماء قد يخفى عليهم بعض المسائل، وأكبر الصحابة خفي عليهم هذا اللفظ ففسره صلى الله عليه وسلم.
سابعاً: أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، وهي طريقة أهل السنة كما فعل ابن كثير فإنه فسر القرآن بالقرآن، والقرآن بالسنة، والقرآن بلغة العرب، وبكلام التابعين، وتابعيهم بإحسان.
ثامناً: الأخذ بالظاهر من النصوص، ما لم يرد ما يرد الظاهر، فإن الصحابة أخذوا بالظاهر، فما أنكر صلى الله عليه وسلم أخذهم بالظاهر، وإنما أرشدهم إلى المعنى الخصوصي للآية.
تاسعاً: أن الذنوب غير الشرك يغفرها الله تعالى، وقد دلت الأحاديث والآيات على ذلك، ففي الحديث قوله سبحانه وتعالى: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي.. يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي.. يا ابن آدم لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تُشرك بي شيئاً لأتيتك بقُرابها مغفرة) (1) .
نسأل الله أن يغفر لنا خطايانا، وذنوبنا، وظلمنا لأنفسنا.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات