التصنيفات
منوعات

|♥| الاختزال يوقع أستاذ التربية البدنية في أخطاء |♥|

خليجية

يواجه مُدرّسو مادة التربية البدنية والرياضية عدة إشكالات أثناء العملية التعليمية -التعلمية أبرزها إشكالية تقويم تعلمات التلاميذ، بعد عدد من الحصص التعلُّمية، لعدة اعتبارات، منها كون هذه المادة لها خصوصيات تميزها عن باقي المواد الدراسية الأخرى. فموضوع التعلمات هو السلوكات الحركية (قدرات -مهارات وكفايات…) والتي ترتبط، بشكل وطيد، بالمجالين المعرفي والوجداني، أي أنها تهم شخصية المتعلم في شموليتها. كما أن تنمية وتطور السلوكات الحركية مرتبطان، في نفس الآن، بالقدرات والمهارات المكتسَبة بفعل التعلم، إلى جانب المؤهلات المحددة وراثيا، إضافة إلى التجارب الشخصية، من خلال التفاعل مع المحيط الاجتماعي والثقافي والتحولات الناجمة عن النمو والنضج. من هذا المنطلق، تطرح علامة استفهام حول أسس الإنجاز البدني والرياضي: هل هو فقط نتاج للتعلمات خلال حصص التربية البدنية أم تساهم فيه عوامل أخرى خارجة عن تدخل مدرس التربية البدنية؟
ومما يزيد العملية تعقيدا ويؤرق المدرس تداخل الأداء الفردي بالأداء الجماعي بالنسبة إلى الألعاب الرياضية الجماعية، إضافة إلى مسألة في غاية الأهمية وتخص أسس المؤسسة المدرسية والتي تتأرجح بين خيارين متباينين: انتقاء النخبة، من جهة، وتكوين الجميع من جهة ثانية. ومن هنا، يطرح جوهر إشكالية التقويم، فإذا كانت عملية التقويم المدرسي تتوخى، في بعدها السياسي والفلسفي، تحقيق البعد الديمقراطي، من خلال مبدأ الاستحقاق (Méritocratie)، فمن اللازم أن تهتم بما تم فعلا تدريسه وتُقلِّص من وقع المؤثرات الخارجية ذات الطبيعة الوراثية أو المكتسبة من الواقع السوسيو-ثقافي.
لذا فرغم التطور الملحوظ في تقنيات وطرق التقويم، فإنها تبقى غيرَ كافية لتبرير شرعية المادة وتكافؤ فرص الجميع داخل المؤسسات التعليمية.
ومن هنا، ينبثق السؤالان المحوريان لإشكالية التقويم في مادة التربية البدنية: هل نُقوِّم بالفعل ما نُدرِّسه للتلاميذ؟ وهل ندرس، فعلا من جهة أخرى، كل ما نقوم بتقويمه؟ وهذا ما سنحاول الإجابة عنه من خلال هذه المقاربة.
بين التعلم المدرسي والمؤثرات الأخرى
استجابة لضرورة مؤسساتية ولضمان موقع متميز ضمن المواد الدراسية الأخرى، تقترح كل التوجيهات الرسمية التي عرفها تدريس التربية البدنية في بلادنا، منذ الاستقلال، طرقا لتقويم مكتسبات التلاميذ خلال الحصص التعليمية -التعلمية، وكان الإنجاز الرياضي (la performance) يحظى دوما بمكانة متميزة خلال عملية التقويم، والذي يُعتبَر، في عمقه، انتقائيا ويتنافى ومبدأ تكافؤ الفرص، لأنه يرتبط في بعض جوانبه بعوامل خارجة عن موضوع المحتويات التعليمية (Les epiphenomenes). حقيقة، إن الغاية من أي ممارسة رياضية -شئنا أم أبينا- هي تحقيق إنجاز فردي أو جماعي، وهو الذي يعطي معنى لنشاط التلميذ، لأنه في المخيال الجماعي تبقى صورة البطل مرجعا لا محيد عنه، كيفما كانت مقاربتنا الديداكتيكية، لأن الأنشطة الرياضية أمست واقعا ثقافيا وحضاريا لا محيد عنه، بسبب التطور المدهش الحاصل في وسائل الإعلام والاتصال.
لكن المشكل المطروح يتعلق بطبيعة الإنجاز الرياضي الذي يرتبط، بشكل وطيد، بالمهارات الحركية التي تكون وراء تحقيقه، إذ يصعب الفصل بينهما. فالمهارة، في جل التعريفات، تُعتبر أحدَ المحددات الأساسية للإنجاز، ويبقى الأخير (الإنجاز) مؤشرا محتملا للمهارة،. في المجال الرياضي، يتغير الإنجاز من محاولة إلى أخرى، فحتى الأبحاث في هذا المجال لا ترتكز على إنجاز واحد بل تشتغل على معدل مجموعة من الإنجازات. كما أن مستوى المهارة لا يحدد لوحده الإنجاز، لأن هذا الأخير يرتبط بمؤهلات أخرى، كالخصائص المورفلوجية وطبيعة الاستعدادات (Aptitudes) التي يمتلكها الشخص، وهي عوامل تتحكم فيها، بالدرجة الأولى، الخصائص الوراثية، إضافة إلى تأثير التجارب الشخصية المستمَدّة من المحيط السوسيو -ثقافي.
بناء على هذه المعطيات، تُطرَح مدى مشروعية عملية التقويم استنادا على الإنجاز، الذي تتحكم فيه كذلك عوامل خارجة عن العملية التعليمية -التعلمية والتي تتداخل فيها المؤهلات الأولية الناجمة عن النمو والمكتسبات المحصَّل عليها خارج حصص التربية البدنية، فالتجارب الحركية تختلف من شخص إلى آخر.
من هنا، يُطرَح السؤال الأساسي بالنسبة إلى التربية البدنية: هل يجب تجاهل التّعلُّمات التي تمت خارج الحصص المدرسية؟ ماذا سيبقى من أداء التلميذ وإنجازاته البدنية عندما نتجاهل المؤثرات الخارجية المذكورة؟
قد يجيبنا البعض بأنه من أجل إضفاء نوع من المصداقية على التقويم، يجب التركيز على التقدم المسجل خلال الحصص التعلمية (Le progrès)، لكن ما مدى موضوعية النقطة الممنوحة للتلميذ بعد نهاية حلقة ما، إذا علمنا أننا نعاين خلال عملية التقويم التشخيصي في بداية الحلقة تباينا مثيرا بين مستوى التلاميذ بالنسبة إلى نشاط رياضي معيَّن، إذ نجد عددا كبيرا من التلاميذ في مستوى المبتدئين وقلة من المتفوقين… فهل سنكون صادقين، إن منحنا نقطة جيدة لمبتدئ ارتقى بشكل ملحوظ، وهو أمر جد سهل، ما دام الهامش كبيرا، فقد استطاع تدارك التأخر، وفي نفس الحين، ماذا سنمنح لتلميذ متميز يصعب عليه تحقيق تقدم كبير؟!
من هنا، تطرح إشكالية بناء أدوات للتقويم تأخذ بعين الاعتبار المكتسبات والتقدم -إن كان هناك تقدم- وتحترم مستويات المهارات. وحتى إذا سلّمنا بوجود هذه الأدوات، فإن تطبيقها يبدو في غاية الصعوبة، بسبب إكراهات متصلة باكتظاظ الأقسام وتفاوت المستويات بين الذكور والإناث وضيق الوقت بالنسبة إلى التعلمات وبالنسبة إلى التقويم. وهكذا، نكون كمن يدور في حلقة مفرَغة، إذ نجد أن جل التلاميذ مجرد مبتدئين في جل الأنشطة الرياضية طيلة مسارهم الدراسي، أي ما نسميه المبتدئين الخالدين (Les éternels débutants)، حيث يغيب أي تأثير لمادة التربية البدنية على السلوكات الحركية والثقافية الرياضية، بصفة عامة، طيلة مراحل التمدرس.
إن تنوع وثراء الأنشطة البدنية والرياضية غالبا ما يتجاوز، وبشكل مثير، المعاييرَ المعتمَدة خلال التقويم. وبالفعل، فإن ظروف التعليم والوسائل المتاحة والغلاف الزمني غير الكافي يُلزِم المدرس باختيار محتويات تعليمية مختزَلة، وهذا الاختزال و«التفقير» للنشاط الرياضي يوقع المدرس في أخطاء بخصوص طبيعة ومنطق الأنشطة الرياضية، في حالة ما لم تكن الاختيارات دقيقة وموفقة، فالزمن المخصَّص للتقويم، والذي يكون غالبا غيرَ كافٍ -ظاهرة الاكتظاظ- يجعل المدرس إما يركز على سلوكات حركية كمية، من قبيل عد الكرات الملعوبة بالنسبة إلى نشاط رياضي جماعي مثلا (الكرات المحصَّل عليها، الكرات الضائعة، كرات الهجوم، القذفات الناجحة والفاشلة…). وهنا، يتجاهل جودة اللعب (اللعب بدون كرة، سرعة الإنجاز، المبادرة، الإبداع وتدبير ميزان القوى…).
مكتسبات مغيبة خلال عمليات التقويم
إذا كان المدرس، كما سبق الذكر، يقوم بتقويم قدرات ومهارات وإنجازات غالبا لا يقوم بتدريسها ولا تكون موضوع محتوياته التعليمية، خلال حصص التربية البدنية، فإنه -أي المــــــــدرس- يعمل بالمقـــــابل على إكساب التــــــــــــــــــــــلاميذ سلـــــــــــوكات لا يعيرها الاهتمام خلال حصص التقـويم وتــــــــــــــرتبط بكفـــــــــــــــايات ممتدة(Les compétences transversaux) من قبيل الاستقلالية، التنشئة الاجتماعية والتعاون، والتي غالبا ما يتم تغييبها أثناء إعداد معايير التقويم. كما يتم، في الغالب، تجاهل الكفايات المنهجية (Les compétences méthodologiques) كالملاحظة والتنظيم والعمل الجماعي والقيام ببعض العمليات والمبادرات، كالإحماء مثلا. تبدو هذه الكفايات، من الناحية التربوية، أكثر أهمية ويجب إيلاؤها العنايةَ اللازمة، إذا كنا نتوخى، فعلا، مدرسة الاستحقاق ومدرسة «النجاح للجميع»…
على سبيل الختم
إذا كنا قد لامسنا بعض إشكالات التقويم بالنسبة إلى مادة التربية البدنية باعتباره -أي التقويم- جزءا أساسيا ضمن سيرورة العملية التعليمية -التعلمية، فإننا نؤكد على صعوبة وتعقد هذه العملية، إذ لا أحد باستطاعته الإدعاء بامتلاكه وصفةً سحرية ونهائية لحل هذه الإشكالات.
لقد أُنجِزت عدة أبحاث وأعمال حاولت -قدر الإمكان- بلورة أدوات تقويمية أكثر موضوعية وصدقية وصلاحية، وهي مجهودات تستحق التقدير. إلا أن علاقة التلميذ (الذات) بالنشاط الرياضي (الموضوع) تتسم بالتّعقُّد ولا تحتمل، في نفس الوقت، الاختزال والتبسيط المبالَغ فيه.
إن الخلاصة الأساسية هي أن عملية التقويم في مادة التربية البدنية تبقى، رغم كل الجهود المبذولة، عملية جزئية وغير محايدة (Partiale et partielle)، فهي متحيزة وذاتية، لأنه يستحيل التقويم بمعزل عن تأثير النسق القيمي للأستاذ، وجزئية، لأن واقع الممارسة التعليمية، بكل تعقيداته، يستحيل التحكم في كل جوانبه، فمفعول العملية البيداغوجية يتجاوز، في الغالب، كل ما هو قابل للملاحظة.
وحينما نتمكن من تقويم ما ندرس ومن تدريس ما نقوم بتقويمه، فإننا سنكون قد وضعنا أسس مدرسة الاستحقاق (Ecole méritocratique) والتي تتوخى تكافؤ الفرص وتحقيق النجاح للجميع، والتي ما تزال -إلى حد الساعة- بعيدةَ المنال.

خليجية




م/ن



خليجية



منؤوؤورة حبيبتي >~



خليجية



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.