:0154:
أخد مكانه المعتاد، على تلك الطاولة المخصصة لشخص واحد، المنبوذة في آخر زاوية من المطعم، الذي أصبح فيه زبونا دائما منذ أكثر من عـام، ليـس لجودة الطـعــام، أو لحسن الاستقبال، بل بسبب تلك اللوحة المعروضة على الجدار، لوحة ثلاثية الألوان، الأبـيض، الأسود و الأحمر المتوهج، تعكس صورة إعصار هائج، كلما نظر إليها رأى من خلالها ثورة قلبه التي لم تحبطها الأيام و لا السنين، ثورة أعلنها قلبه منذ أكثر من ستة أعوام،
يتناول وجبة الغذاء و هو يتصفح ملامح غيره من الزبائن، غير بعيد عنه، أربعة فتيات جلسن يتصفحن قائمة الطعام، عرف أنهن جامعيات من عناوين الكتب الضخمة التي يحملنها، التف أربعتهن حول نفس القائمة، يتناقشن عن الطلب، و كأنهن أمام تشخيص نتائج و فحوصات مريض ليصفن له الدواء المناسب، فعرف أنهن ضحايا نقص المال، ابتسم و التفت عنهن إلى طاولة أخرى، جلس عليها ثنائي ظريف، يبدو أنه الموعد الأول بينهما، كلمات مقتضبة، نظرات مدروسة، و ابتسامات دائمة، لا يزال الأكل على شاكلته، لم يلمسانه، قطع الشوق شهيتهما، لكن لا تقلقا، هكذا يبدأ الحب الحقيقي، نظر في صحنه الذي لا يزال هو الآخر على شاكلته منذ أن وضعته النادلة و انصرفت.
لم يكن يعلم أنه هو الآخر ضحية نظرات فضولي آخر، يسترق النظرات إليه، أحس بحرارة تخترق جانب خده الأيمن، فانتبه… هناك من ينظر إليه نظرات متواصلة، أتراه اكتشف سره ؟ شعر بخجل و استياء، يريد أن يلتفت إليه، فلا يستطيع، فيعاتب نفسه : كم أنت أحمق …لقد انتبه إليك، انتبه أنك تسترق النظرات للغير.
و لكـن لا بـد أن يلـتـفت إليه، يجب أن يـضع حدا لنظراته الجريئة… و لكن لماذا لا يطاوعه عنقه، كيف أصبح متصلبا بعد أن كان لينا حين كان هو المعتدي على خصوصيات الغير، هل أصبح الآن جبانا ؟
حارب تصلب عنقه ليستدير صوب هذا القناص البارع، و نظر في عينية مباشرة، و توقف كل شيء من حوله و سكن، تماما كسكون ذلك الإعصار المسجون خلف إطار من زجاج، نظر في عيون هذا الشخص جيدا، ليُسقط نظراته على الأرض و يستدير إلى موقعه.
سكون رهيب تخلل المكان بعد تبادل تلك النظرات، صمت عم أجراء عقله …
إنها ………. هي ….. نعم هي ………….. لماذا عادت ؟
سؤال يتيم طرق باب عقله، يسأله جوابا يسد به جوعه و لو من نسج الخيال، رؤيته لها بعد كل تلك السنوات، سحبت منه كل شعور، لم يعد يدري هل يكرهها؟ أم لا يزال على حبها ؟
ألغى غذاءه و انصرف، تمنى للحظة أن يستدير من جديد صوبها، ليروي عيناه الهزيلتين من فيض نظرات عيناها الآسرتان، و لكن لا ……………. انصرف و فقط.
دخل غرفته و سحب من جيبه مفتاحا صغيرا، فتح علبة خشبية كانت مخبئة في زاوية درج مكتبه، كان قد أغلقها منذ خمس سنوات، فتحها ليجدد نذوره مع قلبه، أن لا خفقان بعد الآن.
كان بطياتها ورقة صغيرة، طويت على أربع، تلك الورقة كانت شهادة إعدامه، فتحها يقرأ محتواها، بصوت مسموع، يلقن جوارحه درس الخيانة، كدروس التاريخ الابتدائية التي لا تزال راسخة في عقله :
باريس في ليلة من ليال حزيران
عزيزي فؤاد
تعلم أني أحببتك من الصغر، كبر حبنا بداخلنا و ارتوى من دماءنا، كنت أنت عالمي الخاص، كنت أنت طموحي و حلمي الوحيدين، و لكني بعد أن سافرت خارج حدود عالمك، وجدت عالما آخر يحوي عالمنا الصغير، الذي صنعناه سويا فأدركت حينها أنه غير مكتمل و أنه فاتني الكثير في هذه الدنيا علي اكتشافه وأشياء أخرى علي تجربتها، حينها أدركت أني غير مستعدة للارتباط الآن، هذا لا يعني أنني لم أعد أحبك و لكن ………………
باختصار أريد أن أجرب حياتي هنا في قلب باريس، أنت تعلم أن لأمي صديقة فرنسية تملك دارا للأزياء، و أنــا أفــكـر في شـق طـريـقـي فـي هـذا المجــال، و لا أريد أن تنتهي موهبتي بين أربعة جدران.
لذلك لا تنتظرني فقد تطول إقامتي هنا، عش حياتك و كأني لم أكن، و تأكد انك ستبقى دائما حبي الوحيد.
" آية "
عش حياتك و كأني لم أكن ……….. أغمض عيناه وهو يردد هذه الجملة الحمقاء بداخله، طوى الرسالة من جديد ليعيدها إلى معتقلها الصغير.
مرت على تلك الرسالة ست سنوات و لا تزال رائحة عطرها بين طيات كلماتها، جاءته هذه الرسالة بعد شهر من سفرها إلى فرنسا لشراء فستان الزفاف، جاءته في استحياء محملة بخبر ثقيل، كانت ترتجف بين يديه كرسول جيش بعثه قائده برسالة تهكمية إلى نظيره العدو، رسالة لم يكتبها هو، و لكن قد تكون كلماتها سببا في اقتلاع عينيه و قطع لسانه، إلا إن كان العدو يحترم مقولة " ما على الرسول إلا البلاغ ".
و لكن لماذا عادت الآن؟ ماذا تريد مما تبقى مني ؟ ألا يكفيها أنها استبدلت حبي بمجموعة أزياء أوروبية تافهة؟
مر ذلك اليوم رتيبا … و لكن أقل رتابة من الأيام السابقة، أحس بشعور غريب بداخله، الألم الممزوج بالطمع في زواله عن قريب.
اليوم … نفس المكان، نفس التوقيت، نفس قائمة الطعام و لكن الشعور مختلف، جلس بهدوء يتلصص على طاولة الأمس أين كانت تجلس كمزهرية من دون أزهار، حتى أنه لم ينظر هذه المرة ناحية معشوقته، التي قتلها الانتظار على الجدار أمامه …. لوحة الإعصار تلك.
تقدمت النادلة بابتسامتها العريضة كعادتها، لا يعلم إن كانت من مشاعرها الصادقة، أم هو فقط نظام المطعم تماما كارتداء الزي الموحد الإجباري من مالك المطعم، كان يحس بجوع على غير عادته، فطلب عدة أطباق، و ما إن وُضعت أمامه، حتى أيقن أنه لم يكن جوع المعدة و إنما كان جوع القلب و الوجدان، فأطرق رأسه يرثي حالة قلبه الضال.
– مرحبا بك سيدتي، تفضلي من هنا.
كان هذا صوت النادلة
– شكرا لك … و لكني أفضل تلك الطاولة
فانتبه للصوت، إنه صوتها الفريد من نوعه، دافئ مع تلك البحة اللطيفة … رفع بصره ناحيتها فتصادمت العيون مرة ثانية، كانت قوة نظراته صارمة فألقت بنظراتها بعيدا ناحية تلك اللوحة المنبوذة على الجدار، لترى نفسها فيها كمرآة الصدق الأسطورية.
أخدت مجلسها، تختلس النظرات إليه … لم يتغير أبدا، فقط بعض الشعيرات البيضاء تتنطط على فروة رأسه السوداء، و ذلك الخط الأسود الرفيع يحوط شفتيه بلحية خفيفة تحرس ابتسامته الساحرة من الهروب.
ســافـرت فـي بحـر عينه، غير آبهة بالإعصار المرتقب بعد هدوء دام ستة أعوام، و غاب عقلها و تشبثت نظراتها بتلك اللوحة السر، تريد أن تتواجد بقلب الإعصار الذي بداخله، فهي تعلم انه لن يؤذيها لأنها هي قوة مركزه.
بقيا ساكنين في مكانهما يرتقبان تحركاتهما بحذر شديد، كجيشين ينتظران أن ينشق الخيط الأبيض عن الأسود، ليندفعا صوب بعضهما يتعانقان بأحضان من فلاذ.
الخطـوة الأولى مـن واجب من؟ إنها من واجبها هي، يجب أن تتحرك ناحيته، و همت بالوقوف، و إذا به يسبقها إليه، طلب فاتورة الحساب و انصرف دون أن ينظر ناحيتها…
أيقنت أنها إشارة من مــركــز الأرصاد الجوية، تعلن عن هدوء الإعصار و أن وقت الإقلاع قد حان.
لملمت ما بقي من كرامتها، و خرجت من هناك بعد آخر معركة من دون سلاح، إتجهت صوب سيارتها المركونة في حظيرة المطعم .
– كيف حالك ؟
سؤال حرك الإعصار بداخلها من جديد، التفتت إليه لتجده واقفا وراءها لا تفصلها عنه سوى خطوتين:
– بأفضل حال ما دمت لا تزال تتذكرني.
فابتسم بسخرية : لا تزال ذاكرتي ممتازة، إن لم تصدقيني سأردد لك كل كلمة قلتها لي، قبل رحيلك إلى باريس لشراء فستان الزفاف منذ ستة أعوام.
سكتت عنه و علمت أن الربع الأول من الإعصار بداخله قد خمد.
– كيف كان مشوارك في عالم الأزياء و الموضة؟
– فردت عليه : جيد … فقد تخصصت في تصميم فساتين الزفاف.
– فرد من جـديد بسـخـريــة : حـقـــا ؟ ممتاز، إن لم يخني اعتقادي أظن أن فستان زفافك كان من تصميمك … صح؟ عفوا … كان يجب أن أسألك أولا … هل تزوجت؟
– كلا … ليس بعد
– رد عليها مستفزا : لا بد أن هناك أشياء أخرى لم تجربيها بعد.
– فأجابته بابتسامــة أذابت قـلـبـه المكابر : بقيت فقط تجربة وحيدة لا أستطيع أن أجربها، لا قبل الزواج و لا بعده.
سكت قليلا، فعلمت أن الربع الثاني من ذلك الإعصار قد هدأ.
فجاء صوته من جديد : أما أنا، فقد تزوجت و أنجبت ولد و بنت رائعين حقا.
– أعلم ذلك، كما أعلم أن البنت سَميتي " آية "
– فبتسم بسخرية: أرى أنك وظفت جواسيس حولي.
– و هل هي جريمة أن أتابع أخبار صديق طفولتي
– أتعلمين لماذا أسميتها على إسمك ؟ فقط حتى لا أكرهك
– لم يكن هناك من داع، فأنت لن تستطيع أن تكرهني أبدا
– لا تكوني واثقة
– قد تكذب على نفسك و لكن أن تكذب علي ….
– لماذا عدتي الآن ؟
– و هل أنا ممنوعة عن زيارة بلدي ؟
– سأغير السؤال إذا، لماذا عدتي بعد مرور عامل كامل على وفاة المرحومة زوجتي ؟
– تـأمـلـتـه جـيدا ثم ردت : لاقف على قبرها و أشكرها أنها منحتك ما لن أستطيع أنا منحه إياك.
و نزلت دمعة مباغتة على خدها الأيسر، فسارعت لتمسحها، فسبقتها يده إليها، و هنا أيقنت أن الربع الثالث من الإعصار قد هدأ.
– غدا سأعود إلى فساتين الزفاف التي تنتظر مني اللمسة الأخيرة.
– اللعنة، ما هذا الغموض الذي يحوطك، لم أعد أفهمك منذ أن سافرتي و ابتعدتي عني.
– لا ترهق نفسك بتساؤلات عقيمة، عدت فقط لأناشدك أن تبتسم كلما مر طيفي على ذاكرتك.
ركبت سيارتها و انطلقت تشق ضباب الهرب نحو الضباب.
و عــاد هو يـركــض إلى بـيـتـه، كـمـجنون أعلن الهدنة مع المهدئ، فتح تلك العلبة من جديد و أمسك الرسالة المرتعشة بين يديه، و صرخ بها : أخبريني سر هذه الأسطر الأحجية، ماذا كانت تقصد بأنها تعجز عن منحي ما منحتني زوجتي؟ ماذا كانت تقصد ؟
صرخته تلك، جعلت وحيديه الصغيرين يركضان نحوه في جزع مبين، ليرتميان بين أحضانه الملتهبة، ضمهما إليه، ثم انتبه إليهما، هذا ما منحتني إياه زوجتي، أنتما و فقط.
ثم تذكر الجواسيس، الذين كانوا ينقلون لها أخباره عن آخرها، نعم قد يعلمون السر وراء تصرفاتها المبهمة، صديقتها نادية، لطالما كانت مقربة منها، و دائما كنت ألاحظ وجودها بأحداث حياتي اليومية.
و ما هي إلا دقائق ليجد نفسه أمام باب منزلها، دق الجرس و ما إن فتحت له، حتى اغرورقت عيناها بالدموع مع ابتسامة أمل لاحت على محياها، رحبت به بحرارة و دعته للدخول، و هنا تفاجأ بتواجد حبه الأبدي عندها، نعم كانت آية تنفرد بنفسها عند صديقة طفولتها نادية، و قد ابتلت وجنتاها من دموعها الغزيرة، و ما إن لمحته حتى هجمت بنظرات عتابية على صديقتها التي فهمت مغزى تلك النظرات فردت عليها :
– لا تقلقي يا قاسية القلب على قلبك، لست من أرسل في طلبه، و لكنه قلبك من فعل.
– فزجرتها صارخة : كفى …أسكتي .
– إلى متى ستعذبين نفسك و تعذبين الرجل الذي أحبك؟
– قلت كفى … أرجوك أتوسل إليك … كفى
كان فؤاد يقف كشخص لا يفهم لغة من حوله، كان صامتا، في حين كانت نظراته تتوسل آية أن تخبره سرها الدفين، و لكنها فضلت الهرب، فرحلت تركض خارجا أمام حيرته و توسلات نادية.
حاول اللحاق بها و لكن نادية منعته قائلة: انتظر، أنا من سأكشف لك سرا أتعب قلبي لخمسة سنوات متتالية، ما عدت أحتمل.
– أي سر يا نادية، أرجوك تكلمي، أزيحي عني هذا الركام من العذاب
– أتذكر يا فؤاد حين سافرت آية إلى باريس لشراء فستان الزفاف؟ ألم تنقطع عنك أخبارها لأسبوعين كاملين؟
– أجل أذكر، و حين اتصلت بي، اعتذرت بانشغالها بمرض صديقة أمها الفرنسية، لتصلني بعد ذلك بأسبوعين تلك الرسالة التي حطمت كل شيء جميل بيننا.
– لم يكن انقطاعها عنك بسبب ما ادعته، بل لأنها في تلك الفترة كانت منقطعة عن العالم كله.
– ماذا تقصدين، يزيد الأمر تعقيدا و ما عدت أفهم ما يدور حولي، ماذا تقصدين بالله عليك ؟
– لقد أمضت الأسبوعين الاولين في غرفة الإنعاش، بعد حادث مرور كان يودي بحياتها.
سقط الخبر على فؤاد كلوح ثلجي، فأشعل في قلبه ألف نار متأججة.
– نعم لقد كانت تحـتـضــر، و لـمـا استفاقت أخبرها الأطباء عن نجاتها من الموت بأعجوبة و لكن …
– و لكن ماذا ؟
– و لكن حلمها بالأمومة لم ينجو، لقد استأصلوا رحمها بعد أن تضرر من ذلك الحادث اللعين.
و في هذه اللحظة أجهشت نادية ببكاء مر، قطع أوصال فؤاد كخنجر صدئ تعاقبت عليه ست سنوات تحت ركام من كلمة صغيرة، ذات حمل ثقيل ………… لماذا ؟.
– أه يا فؤاد لو تعلم ما مرت به آية و هي بعيدة عنك، لقد عذبتني كثيرا حين أرغمتني على كتمان سرها، و عذبتني أكثر حين جعلتني أنقل لها كل أخبارك، فرحتها يوم زفافك من زوجتك المرحومة، مزقتني، فرحتها بأول مولود لك دمرتني، ما عدت أستطيع الاستمرار في ذلك، و يوم وفاة زوجتك، أتعلم أنها أُدخلت مصحة نفسية لأسبوع كامل بسبب انهيار عصبي حاد، كانت دائما تردد، أريده أي يحي سعيدا، لأنه يستحق ذلك.
– فعاتبها بصوت متقطع من بكاء مر : يا خائنة الصداقة، لماذا لم تخبريني من قبل ؟
– لم أكن أعلم، علمت فقط يوم زواجك، حين اتصلتُ بها أعاتبها كيف سلمت قلبها و حبها لغيرها، فاجأتني فرحتها التي قفزت من بين كلماتها: حقا … الحمد لله الذي استجاب لدعائي … و أقفلت الخط، و بعد ذلك اكتشفت حقيقة سرها الحزين من أمها، التي طلبت مني الوقوف إلى جانبها في هذه الظروف القاسية.
– لذلك كنت جاسوسها عليك، أعلمها بكل شيء جميل حدث لك، سعادتك بالنسبة لها كانت الحافز الذي يدفعها للعيش.
أما الآن أرجوك أن تخرج من بيتي حالا، و لا تعودان هنا مجددا، لا أريد أن أعرفكما بعد الآن، ما ذنبي أنا أن أعيش كل لحظة عذاب من حياتها.
عاد فؤاد إلى بيته و وقف أمام صورة زوجته المتوفاة، كانت ملامح وجهها قريبة جدا من ملامح آية، لذلك اختارها زوجة له، علها تنسيه حبه الأزلي.
خاطبها بقلب منكسر: سامحيني يا أم أولادي، لم أستطع أن أسعدك رغم ما قدمته لي يا كريمة الأصل.
سامحاني كليكما، ضحيتما بحياتكما من أجل رجل لا يستحق حبكما.
و فاجأته آية الصغيرة تسحبه من بنطاله، كجرس المدرسة القديم : بابا … متى تعود أمي من السفر ؟ كل مرة تقول لي عن قريب، و لكنها لم تعد إلى حد الآن.
نظر أليها فرآها تمسك بيد أخاها الصغير، فرد عليها برد الواثق هذه المرة : غدا يا قطتي الصغيرة، غدا ستعود أمك، نامي الآن و أعدكما أنكما ستنامان غدا بين أحضانها.
في المطار … تتجه آية تحمل حقيبة صغيرة، يختبئ جسدها المنهك من ليلة بيضاء، تحت معطفها الأسود الطويل، تلف حول عنقها وشاحا مخمليا بنيا، تتجه إلى بوابة العالم الآخر، لتغرق حلمها من جديد بين الأقمشة البيضاء اللؤلئية.
– ماما … ماما
كلمة اخترقت أذناها، و لم تلتفت فهي تعلم أنها غير موجهة لها، واصلت سيرها إلى الأمام، و جاء الصوت من جديد : ماما … ماما.
أحست أنها المنادى عليه، و لكنها لم تلتفت، و إذا بوقع أقدام صغيرة غير متوازنة تركض ناحيتها، استدارت من باب الفضول، و جمدت مكانها، إنهما آية الصغيرة و شقيقها الأصغر منها، يركضان ناحيتها فاتحين أذرعهما كطائرين صغيرين يتعلمان أصول الطيران.
ارتميا بين أحضانها، فأطبقت عليهما بجنون، و رفعت نظرها إليه، تناشده أن يوقف هذا الحلم، قبل أن يلتهمها، فخاطبها بصوت مرتفع:
– يا لك من أم قاسية، كيف تسافرين مخلفة خلفك طفليك الصغيرين ؟
إنعقد لسانها و لم تدر ما تصنع، و اتجـهـت أعـيـن المــارة الـفـضـولـيــة ترمقها بنظرات قاسية، و أشارت بعض الأصابع الجريئة نحوها مرددة : أنظروا إلى تلك الأم الجاحدة، تتسلل هاربة من زوجها و أطفالها الصغار.
فتداركت الموقف ببداهة سريعة: لا … فقط جئت أودع توأمي المسافرة إلى باريس دون رجعة، أما أنا، فليس لي مكان غير قلبك يا أول و آخر رجل عرفته في حياتي .
و هنا هدأ الربع الأخير من إعصار عجز عن تدمير حبهما الأزلي.
……………………إنتهى
:0154: