من الحقائق التي لا خلافَ عليها أنَّ الأسرة عماد المجتمع، وقاعدة الحياة الإنسانية، وأنها إذا أسِّست على دعائم راسخة من الدِّين والخلق والترابُط الحميم، فإنَّها تكون لبنة قوية في بنيان الأمة، وخلية حية في جسم المجتمع.
ومن ثَمَّ كان صلاح الأسرة هو السبيل لصلاح الأمة، وكان فسادها وانحلالها مناط فساد المجتمع وانهياره، وإذا ألقينا نظرةً على حال الأسرة المسلمة في هذا العصر، نَجد أنَّها قد هَبَّت عليها رياح التغيير، وتسلَّلت إليها الأدواءُ الفتَّاكة، فأصبحت تعيشُ في جو مَملوء بضباب التباعُد بين أفرادها الذين يعيشون حياةً جافَّة بعيدة عن الجوِّ الأسري الحميم القائم على التعاطُف والحنان والمشاعر القلبية الصادقة، والاحترام المتبادل، وطفا على السطح الأسري العناد والجفاف العاطفي، وأصبح الزوجان يعيشان كخصمين في حلبة مصارعة، ينتهز كل طرف منهما الفرصة ليُسدِّد للطرف الآخر الضربات القوية واللكمات الموجعة، التي اختفى معها الدفء الأسري، والروابط الحميمة التي ظلت عمادَ الأسرة المسلمة، ومصدر قوتها وعزتها في العصور السالفة.
ولو بحثنا عن أسباب افتقاد الدفء الأسري والترابط العائلي في عصرنا، فإنَّنا نرجع ذلك للأسباب الآتية
: 1- انشغال الأب الدَّائم عن أفرادِ أسرته، وقَصْر وجوده المنزلي عند حدود تناوُل الطعام والنوم، وأنَّه ما دام قد وفَّر لهم الطعام والملبس، فإنَّه قد قام بواجبه نحوهم خير قيام، في حين أنَّه يحرمهم من العطاء النفسي، والتواصل العاطفي والفكري، الذي يجعل منهم شخصيات سوية تنفع أسرتَها ومُجتمعها، ولقد أكدت الدِّراسات النفسية والبحوث الاجتماعية: "أنَّ ظواهرَ الإجرام والعنف، وانحلال الأخلاق، وتوتر العلاقات بين الدُّول، وظهور القيادات التي كانت سببًا في الحروب المدمرة، وحدوث المجاعات المهلكة – مردها إلى ضياع الرَّوابط النفسية في الأسر، وأنَّ أجيالاً تربت وترعرعت بَعيدًا عن مشاعر الحنان والموَدَّة والرحمة، فانتكست فِطرتُها، وانغمست في بُؤَر الفساد، واستحوَذ عليها حبُّ الانتقام، وإراقة الدِّماء، والاستهانة بكرامة الإنسان"[1].
2- إهمال الزوجة هي الأخرى لشؤون بيتها وأولادها نتيجة الإسراف في العلاقات الاجتماعية، بكثرة لقاء الصديقات، والخروج المستمر من البيت لحاجة وغير حاجة، وتنسى أنَّ البيت إنَّما هو واحة للراحة والسعادة للزوج والأولاد.
3- الطُّوفان الإعلامي الجارف في هذا العصر من تلفازٍ، وفضائيَّات، وكمبيوتر، وإنترنت، فقد استحوذت هذه الوسائل على وقت الأسرة، وبدلاً من أنْ يقضي أفراد الأسرة معًا جزءًا من وقت فراغهم في التحاوُر والمناقشة، جذبتهم هذه الوسائل الإعلامية أمامها لساعات طِوال، مُتباعدين نفسيًّا وعاطفيًّا وفكريًّا، كُلٌّ مَشغول بعالمه الخاص، صامت لا يُحدِّث الآخر أو يستمع إليه، مبهورًا بما يرى ويشاهد أمامه، وظهر ما عُرِف بإدمان التِّلفاز والكمبيوتر والإنترنت، الذي شغل الكثير من أوقات الأزواج والزوجات والأبناء، فهناك دراسة قام بها فريقٌ من الباحثين الأمريكيِّين حول أثر وسائل الإعلام على الروابط الأسرية، كان من أبرز نتائجها تناقُص التواصل الأسري بين أفراد الأسرة، وتضاؤل شعور الفرد بالمساندة الاجتماعية من جانب المقربين له، وتناقُص المؤشرات الدالة على التوافق النفسي والصحة النفسية.[2]
والسؤال الذي يطرح نفسه علينا الآن: كيف تكون الأسرة المسلمة الحضن الدَّافئ والملجأ الأمين لكل فرد من أفرادها؟، ونرى أنَّ هذا الهدف يتحقق عن طريق العودة إلى الأُسُس والدعائم التي أقامها دينُنا الإسلامي الحنيف بشأن العلاقة الزوجية، والتي عبر عنها القرآن الكريم أروع تعبير في قوله – تعالى -: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة: 187]، فهي علاقة الامتزاج الكامل والستر المشترك، ولن تكون كذلك إلاَّ إذا عبرت أصدق تعبير عن المودة والرحمة والإحسان ليسودَ الأسرة جوُّ من الوئام والحبور قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21]، وكذلك في أحاديث الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – الذي قدم من خلالها الفهم الصحيح لحقوق العلاقة الزوجية حينما قال: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح غريب، وأيضًا في قوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خلقًا، وألطفهم بأهله)) أخرجه الترمذي، وقال: حديث صحيح.
:11_1_122[1]::11_1_122[1]::11_1_122[1]::11_1_122[1]:
فإن الالتزام بهذه التعاليم الإسلامية من أهمِّ العوامل التي تُوحد بين قلبي الزوجين، وتبقيهما على حالة من الوئام والتواصُل المستمر، وكما دعا الإسلام إلى تنظيم العلاقة بين الزوجين، دعا أيضًا إلى تنظيم هذه العلاقة بين الآباء والأبناء، وذلك يكون بفتح قنواتٍ للحوار بين الوالدين والأبناء يُشعرونهم فيها بالقرب والمودة والرحمة، ولنا في الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – خير قدوة، وأعظم نبراس في ذلك، فقد كان – عليه السَّلام – يُصغي كلَّ الإصغاء إلى من يُحدِّثه، ويسأله، ويُقبِل عليه بكليته، ويلاطفه، فإنَّ ذلك يشعر الجميع بالدِّفء الأسري والتلاحم العائلي ليحل الود مَحل الجفاء، وتقام الروابط الأسرية بين الجميع على أسس متينة، وقواعد راسخة.