ضرب العلماء هذا المثل لبيان كيفية التحكم في ما بعد" النظرة الأولى" سواء من قبل الرجل أو المرأة. كان هذا في زمن يختلف كثيرا عن زماننا الحالي الذي من سماته المميزة اختلاط الرجال بالنساء سواء في الشوارع أو الأسواق أو المدارس أو الجامعات أو في مجالات العمل المختلفة، أو حتى داخل البيوت بين الأقارب والأصدقاء. لم يعد اليوم لمسألة النظرة الأولى مكان، الأمر الآن علاقة فعلية بين الرجال والنساء متعددة الأشكال: في صورة قرابة أو زمالة أو صداقة أو حب وحتى الجنس، سواء في عالم الواقع الحقيقي أو عالم السينما والتلفاز والإنترنت والقنوات الفضائية المفتوحة. ولهذا يبدو الحديث عن " النظرة الأولى " حديثا غير واقعي إن لم يكن متخلفا في نظر الناس إلا من رحم الله.
تفتح أجيالنا الناشئة عيونها عبر الواقع والإعلام على هذه العلاقة المفتوحة وكأنها الأصل في العلاقة بين الجنسين، أما الشباب والكبار، فالأمر بالنسبة إليهم هو المألوفات والعوائد والتمدن والتحضر، لا ضوابط الشرع.
يختلف الأمر إذا ما نظر رجل إلى امرأة (أو العكس) ثم صرف بصره، عما لو أنه كرر النظر وفتش عن محاسن المرأة، ونقلها إلى قلبه. حينما تنتقل محاسن المرأة إلى قلب الرجل يكون ذلك إشارة إلى بداية تعلقه بها، وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقى الشجرة، فتنمو شجرة الحب حتى يفسد القلب وينصرف عن التفكر فيما أمره الله به، وكذلك التفكر في مصالحه والإشتغال بها، وهكذا حتى يقع في المحظور. والسبب في ذلك هو أن النظرة تشعر القلب بالذة، فيطلب معاودة النظر، ويشبه هذا من يأكل طعاما لذيذ المذاق، فإذا تناول منه لقمة طلب أخرى.وهكذا هي النظرة الأولى، ولو أن الناظر غض بصره منذ البداية لاستراح وسلم من العواقب.
ويطلق العلماء على النظرة الأولى " نظرة الفجأة "، وهى النظرة التي تقع بغير قصد من الناظر، فإذا نظر الثانية متعمدا، يكون قد وقع في الإثم. وقد سأل جرير بن عبد الله رضي الله عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمره أن يصرف بصره.
وسأل رجل العلماء أنه نظر إلى امرأة وتعلق قلبه بها حتى أحبها واشتد عليه هذا الحب، فهل له أن ينظر إليها مرة أخرى لعله يجد ما ينفره منها، فيخلص نفسه مما وقع فيه ويبتعد عنها؟ أجاب العلماء: "هذا لا يجوز له، إن الله تعالى أمره بغض بصره، ولم يجعل شفاء قلبه فيما حرمه عليه. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمداواة نظرة الفجأة بصرف النظر لا بتكراره، وقوة التعلق بالمرأة يكون بالنظرة الثانية لا الأولى، والنظرة الثانية قد تجعله يرى فيها ما يزيد تعلقه، لا ما يصرفه عنها، وأنه إذا قصد النظرة الثانية فقد يزين له الشيطان ما يوقعه في الإثم، وإذا كانت النظرة الأولى سهم مسموم من سهام إبليس، فلاشك أن الثانية ستكون أشد سما من الأولى. وفوق هذا كله، فإنه لم يمتثل أصلا لأوامر الشرع، فكيف يعينه الله تعالى على ما وقع فيه، والأجدر بالطبع ألا يعينه على ذلك، كما أنه لم يقصد أصلا برغبته في النظرة الثانية الإعراض عن المرأة من أجل الله تعالى وإنما ليتأكد من حال المرأة التي إن لم تعجبه تركها، فالمسألة هنا ليست رضا الله عز وجل".
لقد جعل الله تعالى العين مرآة القلب، فإذا غض الإنسان بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته، وبين العين والقلب منفذا وطريقا ينتقل بموجبه أحدهما إلى الآخر، يصلح بصلاحه ويفسد بفساده، فإذا فسد القلب وخرب فسد النظر وخرب، وإذا فسد النظر وخرب فسد القلب وخرب. والنظرة كالسهم إن لم يقتل يجرح من يصوب إليه.وهى أيضا كالشرارة التي تلقى في حشيش جاف إن لم تحرقه كله أحرقت بعضه. وفتنة النظر هي أصل لكل فتنة لأنها أقرب الوسائل للوقع في الحرام، ولهذا كان غض البصر هو العائق لزنا اليد والرجل والقلب والفرج، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، والسان يزنى وزناه النطق، والرجل تزني وزناها الخطى، واليد تزني وزناها البطش، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه. وهذا يعنى أن غض البصر هو أصل لحفظ الفرج. والله تعالى لم يأمر بغض البصر مطلقا، بل أمر بالغض منه، فهو يباح للمصلحة الراجحة، ويحرم إذا خيف منه الفساد ولم تعارضه مصلحة أرجح من تلك المفسدة، أما حفظ الفرج فإنه واجب بكل حال لا يباح إلا بحقه ولذلك عم الأمر بحفظه.
وضع العلماء قاعدة جليلة مؤداها." من ترك المألوفات والعوائد لأجل الله صادقا مخلصا من قلبه، فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة، ليمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب، فإن صبر على تلك المشقة قليلا استحالت لذة " ويقول العلماء كذلك: " من ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه، والعوض أنواع مختلفة، وأجل ما يعوض به الأنس بالله ومحبته وطمأنينة القلب به وقوته ونشاطه وفرحه ورضاه عن ربه تعالى ".
ومن كرم الله تعالى على عباده كما قال العلماء: " أن الذى يترك الشهوات من أجله وإن كان ينجيه ويوجب له الفوز برحمته لفعله هذا، فإنه فوق هذا يعطه من ذخائره، وكنوز بره، ولذة الأنس به والشوق إليه، والفرح والابتهاج به، مالم يعط غيره. ولكن بشرط أساس هو ألا يكون في قلب هذا العبد أحد سوى الله، فالله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك. ويمنع الله تعالى عطاؤه هذا عن العبد الذي في قلبه أحدا غيره حتى وإن كان من أهل العبادة والزهد والعلم".
وذخائر الله وكنوزه لمن يغضون أبصارهم كثيرة منها أنه تعالى: " يمنحهم إلى جانب الذات السابقة لذة أكمل، وهى لذة العفة، وقد قال البعض في هذا: " والله للذة العفة أعظم من لذة الذنب"، كما يودع في قلوبهم أيضا نورا وإشراقا يظهر في العين وفى الوجه. ومنها أنه تعالى:" يسد عنهم بابا من أبواب جهنم، فإن النظرة باب الشهوة المؤدية إلى وقوع الفعل، ثم إلى جهنم " ومنها أنه تعالى: "يمن عليهم بفراسة صادقة يميزون فيها بين الحق والباطل والصادق والكاذب، يقول أهل العلم في ذلك:"من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وغض بصره عن المحارم وكف نفسه عن الشبهات والتزم الحلال لم تخطئ له فراسة" فمن غض بصره عن محارم الله عوضه الله بإطلاق نور بصيرته عوضا عن حبس بصره لله".
ومنها أنه تعالى:" يودع في قلوبهم ثباتا وشجاعة وقوة، كما في الأثر " الذى يخالف هواه يفرق أي "يخاف" الشيطان من ظله" ومنها أنه تعالى " يقوى عقولهم ويزيدها ويثبتها، فإطلاق البصر لا يحدث إلا من خفة العقل وطيشه وعدم ملاحظته لعواقب" وخاصية العقل هي ملاحظة العواقب، ولو علم الذى يطلق بصره العواقب التي سترتب على نظراته لما أقدم على ذلك".
ومنها أنه تعالى: " يفتح لهم طرق العلم وأبوابه ويسهل لهم أسبابه، وذلك بسبب نور القلب الذى إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات".
ولكن أين المخرج والعالم قد تغير، والإنسان يطلق بصره ليس بنظرة واحدة بل عشرات المرات في اليوم الواحد، ولو أحصى نظراته منذ بلوغه إلى مماته لما كان مصيره إلا تنور جهنم تودع روحه فيه إلى يوم حشر جسده.
يشير العلماء إلى قاعدة تبين رحمة الله تعالى بعباده مؤداها: " من علامات مغفرة الله للعبد وأنه أراد به خيرا، أن يفتح له باب التوبة من ذنب أذنبه حتى يكون هذا الذنب بابا له من أبواب الحسنات".
يقول العلماء: "إذا أراد الله بعبده خيرا فتح له من أبواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار والاستعانة به وصدق الجوء إليه ودوام التضرع والدعاء و التقرب إليه بما أمكن من الحسنات ما تكون به تلك السيئة رحمة له، حتى يقول الشيطان: يا ليتني تركته ولم أوقعه. وهذا معنى قول أحد العلماء " إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة ويعمل الحسنة يدخل بها النار" قالوا كيف قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه منه مشفقا وجلاخائفا باكيا نادما مستحيا من ربه تعالى ناكس الرأس بين يديه منكسر القلب له فيكون ذلك الذنب أنفع له من طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة، ويفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه ويتكبر بها ويرى نفسه ويعجب بها ويستطيل بها ويقول فعلت وفعلت فيورثه من العجب والكبر والفخر والاستطالة ما يكون سبب هلاكه فإذا أراد الله تعالى بهذا المسكين خيرا ابتلاه بأمر يكسره به ويذل به عنقه ويصغر به نفسه عنده، وان أراد به غير ذلك تركه في عجبه وكبره وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه ".
وقد يتوب الإنسان عن النظر لكنه قد يعود، وكيف لا والحرام يحيط به ويشده من كل مكان. وهنا يذكر العلماء قاعدتين: الأولى: "من أوجب الواجبات التوبة بعد الذنب" والذنب هنا ناتج عن تحقق أثر النظرة الأولى. والثانية: "أن ضمان المغفرة لا يتوجّب تعطيل أسباب المغفرة" ولشرح ذلك جاء في الحديث: " أذنب عبد ذنبا فقال: أي رب أذنبت ذنبا فاغفر لي، فغفر له، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم أذنب ذنبا آخر فقال، رب أصبت ذنبا فاغفر لي فغفر له، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم أذنب ذنبا آخر فقال: رب أصبت ذنبا فاغفر لي، فقال الله: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنوب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء". وهذا لا يعنى إطلاق وإذن منه سبحانه وتعالى للإنسا بإتيان المحرّمات، وإنما يدل على أنه يغفر له ما دام كذلك. أي "إذا أذنب تاب". وخلاصة ذلك كله: أن الواقع الإجتماعى القائم البعيد عن تعاليم الإسلام، وإن فرض نفسه على بعض الناس، فإن أناسا آخرين قادرون على عدم الاستسلام لهذا الواقع بل فرض أنفسهم عليه وكسب احترامه.فهل تستطيع امرأة اليوم أن تلوم رجلا لأنه غض بصره عنها؟ إنها تجله وتحترمه وتهابه لأنه هاب الله وأطاعه وخالف المألوفات والعوائد.
موضوع فعلا رائع