» ويتطلّب أوّلاً
» ويتطلب ثانياً :063:
» النَص
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين والعن الدائم على أعدائهم أجمعين.
تضمنت الخطبة الشهيرة التي ألقاها رسول الله صلى الله عليه وآله في آخر جمعة من شهر شعبان المعظم وفي استقبال شهر رمضان المبارك الكثير من الفضائل(1)، ولكننا سنتناول في بحثنا هذا نقطتين هما؛ الأولى: قوله صلى الله عليه وآله: «فإن الشقي مَن حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم». والثانية: الورع عن محارم الله، حيث سأله الإمام علي سلام الله عليه عن أفضل الأعمال في هذا الشهر، فأجاب صلى الله عليه وآله: «الورع عن محارم الله».
:sddhgh:
:. من هو الشقي
أما عن قول رسول الله صلى الله عليه وآله: «الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم». فقد قال علماء البلاغة: إن الجملة هنا تدلّ على الحصر، أي إن الشقيّ هو مَن حُرم غفران الله في شهر رمضان المبارك فقط، وليس في أي شهر آخر. فالشقاء منحصر في مَن شُقي في شهر رمضان وحُرم غفران الله فيه، لا غير. هذا هو الظاهر البلاغي للجملة، ومعناه أن الشقيّ كلّ الشقيّ هو الذي يحرم غفران الله في هذا الشهر خاصة.
ولا عجب فإن شهر رمضان هو شهر الله سبحانه وتعالى، اختُصّ به دون باقي الشهور، فهو شهر لتنظيم حياة الإنسان والتغيير نحو الأفضل والتطهّر من كل دنس، والطاعة لله سبحانه، وفيه يغفر الله للإنسا كل يوم وليلة أضعاف ما يغفر في سواه من الشهور، كما خصّه بليلة القدر التي هي أعظم من ألف شهر، ويغفر الله فيها ما لا يغفر في غيرها من اليالي والأيام، وكذلك يغفر الله في أوله وسطه وآخره. فشهر رمضان هو شهر «العفو العام». فمن لم يُشمل بالعفو فيه فهو الشقي حقاً.
:. أقسام الصوم ومراتبه
ونظراً لأهمية الصوم في شهر رمضان المبارك، ودوره في بناء الإنسان المسلم، فقد قسّم علماء الأخلاق الصوم إلى ثلاثة أقسام هي:
1. الصوم العام.
2. الصوم الخاص.
3. الصوم خاص الخاص.
الصوم العام: هو الكف عن المفطرات المذكورة في الكتب الفقهية والرسائل العملية من الأكل والشرب والكذب على الله ورسوله، والارتماس في الماء، والبقاء على الجنابة حتى الفجر، والتقيؤ عمداً وغيرها من الأمور التي إن لم يلتزم بها المرء لا يصدق عليه أنه صائم.
أما الصوم الخاص: وهو أرقى من الأوّل وأرفع درجة فهو الكفّ عن المحرّمات كلّها إضافة إلى ما ذكر، أو ما يسمى بصوم الجوارح مثل: كف السمع عن الاستماع إلى الغيبة، وكفّ البصر عن النظر إلى الأجنبية بريبة، وكفّ السان عما لا يحل له كالكذب واغتياب الآخرين، وهكذا.
وأما الصوم خاص الخاص: فلا يتوقّف حتى عند هذا الحد بل يترقى ليشمل النوايا والفكر أيضاً. فالصائم في هذه المرتبة لا يقتصر على الكفّ عن المفطرات وعموم المحرّمات فحسب بل لا يفكر فيها ولا تحدّثه نفسه بها.
أي أن هناك فريقاً من الناس لا يتورعون عن المعصية ويكفّون عنها وعن المحرّمات فحسب بل يتورعون عن التفكير فيها أيضاً، فهم يصومون عن المفطرات العامة، وتصوم جوارحهم عن ارتكاب الذنوب، كما تصوم جانحتهم عن التفكير فيها. وهذا صوم خاص الخاص. وهو أعلى مراتب الصوم وأقسامه.
:. لنصمم على بلوغ أعلى المراتب
لو أن أحداً صمم وعزم على الالتزام بالقسم الثالث والمرتبة الأعلى من الصوم، أي نوى الكف عن المفطرات وسائر المحرّمات وكذلك التفكير فيها أيضاً، فإنه قد يوفّق لبلوغ المرتبة الثانية أي ترك المحرّمات وصوم الجوارح إلى جانب ترك المفطرات العامة للصوم، فلو راجع نفسه بعد شهر رمضان لرأى أن فكره لم يكن صائماً وأنه ربما تخلّف عدة مرات وفكّر في الحرام، لكن جوارحه قد صامت والحمد لله.
أما إذا عزم المرء على المرتبة الثانية فيُخشى أن لا يوفَّق حتى لهذا، ولا يبلغ أكثر من المرتبة الأولى وهي الصوم العام، وذلك لأن الإنسان لا يوفَّق – عادة – إلا لما دون ما عزم عليه. يقول الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه : «مَن طلب شيئاً ناله أو بعضه»(2). ولا نعني بذلك أن الإنسان مجبر على ذلك، بل هو لا يملك نفسه في الغالب، وهذا أمر قد ثبت بالتجربة. فإن الشخص الذي ينوي مطالعة عشرين صفحة مثلاً قد لا يشعر بالتعب إذا بلغ بضع صفحات (ثلاث أو أربع)، لكنه قد يشعر بالتعب وقد يتوقف إذا بلغ عشر صفحات أو أكثر. أما الذي يعزم على مطالعة ثلاث صفحات فقط فإنه سيتعب بمجرد قراءة صفحتين، وهذا يعني أن الإنسان يشعر بالتعب دون مقصده. وهذا حال أغلب الناس دون النادر من ذوي التوفيق الخاص.
ومن هنا ينبغي على الإنسان أن يكون ذا تصميم قوي وإرادة فولاذية لكي يوفّق إلى طاعة الله عزّ وجلّ في أعلى مراتبها ونيل أعلى الدرجات، لا أن يقول حسبي ترك مفطرات الصيام؛ فإنه قد يُحرم غفران الله.
فليجلس كلّ منا ولو ساعة قبل شهر رمضان يقلّب فكره في هذه الأقسام من الصوم ويتساءل مع نفسه: ماذا يحدث لو عزمت على المرتبة الثانية على أقل تقدير، ولا أترك نفسي دون تحضير واستعداد وعزْم على ترك المحرّمات قبل أن أواجهها؟ فإن هذه الساعة من التفكير ستلعب دوراً في تغيّر الإنسان تجعله يختلف عن غيره من أوّل رمضان إلى آخره. حتى إذا راجع صحيفة أعماله بعد الشهر الكريم رأى أن سيئاته قد قلّت بدرجة كبيرة واقترب من غفران الله أكثر وابتعد عن الشقاء أكثر.
وهذا ليس بالأمر الصعب فهو لا يتطلب أكثر من أن تجلس قبل شهر رمضان ساعة من الزمن تخلو فيها بنفسك وتفكّر في مراتب الصوم وتعزم على بلوغ المرتبة الأعلى، فإنّ «تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة» كما في الحديث(3).
:. ولنحدّد المحرّمات التي تواجهنا
كما علينا أن نظر ما هي محرّمات البصر وما هي محرّمات السمع وما هي محرّمات السان ثم نصمّم على الكفّ عنها، ونحاول ذلك.
في بعض الأدعية: «إلهي خلقتني سميعاً، فطالما كرهت سماعي، وأنطقتني فكثُر في معاصيك منطقي، وبصّرتني فعمى عن الرشد بصري، وجعلتني سميعاً بصيراً، فكثر فيما يرديني سمعي وبصري»(4).
فلنظر ما هي المحرّمات التي قد نتعرض لها؛ لأن كلّ إنسان معرَّض لقسم من المحرّمات، فليصمّم على ترك المحرّمات التي تواجهه، فربّ محرّمات لم يكن قادراً على فعلها أو أنها ليست من شأنه. فطالب العلم الديني مثلاً لا يصدر منه شرب الخمر عادة، لأن ذلك ليس من شأنه بل لا يفكّر فيه ولا يتصوّر وقوعه في هذا الفعل الحرام، وهكذا الواط والزنا والسرقة وتطفيف الميزان وما أشبه، ولكنه قد يقع في الغيبة أو الإيذاء أو إهانة الناس، فليحد المحرّمات التي من هذا القبيل وليصمم على تركها.
:. وليكن لنا في المتحولين عبرة
ولا بأس أيضاً أن يتذكر الإنسان أن هناك أناساً كانوا عصاة وفساقاً، ولكنهم انقلبوا بسبب قلوبهم المستعدّة والرقيقة- بموعظة أو أكثر، إلى أناس طيبين وعدول؛ فسوف نتحسّر كثيراً يوم القيامة إذ لا مجال لإصلاح أنفسنا عندما نعرف أن إنساناً بعيداً عن المطالب الدينية انقلب طيّباً وخيّراً وأصبح أحسن منّا عند الله سبحانه وتعالى ولم نغيّر نحن أنفسنا مع أننا كنا نعرف المسائل الدينية أكثر منه.
فإن كان التأمّل في هذا الأمر يؤلمنا فلنحاول أن نصلح أنفسنا خصوصاً في هذا الشهر الكريم.
:.الورع عن محارم الله
ذكرنا في مطلع الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله.
إذن علينا أن نعرف أولاً ما هي الأمور التي حرّمها الله تعالى؛ لأن الورع شيء والمحرّمات شيء آخر.
فهناك مسألة في الفقه يدور النقاش حولها وهي ما هو حكم مَن تتوفر فيه ملكة العدالة ولكنه لا يعلم كلّ المحرّمات، كالبدوي الطيب الذي لو عرف أن شيئاً بعينه حرام لتركه، ولكنه يجهله، ولنفرض أن جهله كان عن قصور لا تقصير، فهل تترتب عليه آثار العدالة أم لا؟
فلنحتمل الشيء نفسه في أنفسنا. فما أدرانا أنّا عرفنا كلّ المحرّمات؟ ولو عرفناها فما هي حدودها؟ فلعلّ بعضها غير واضح لبعضنا. إذن علينا لاسيما نحن أهل العلم أن نستفيد من فرصة هذا الشهر الكريم لمعرفة المحرّمات. فاحتمال عدم معرفتنا لكل المحرّمات يسوقنا إلى أن نوفر بعض الوقت لمعرفتها في هذا الشهر فهو خير فرصة لنا.
وإذا كان الورع عن محارم الله أفضل الأعمال في هذا الشهر، فمعرفة هذه المحارم مقدمة له.
والورع عن محارم الله أفضل حتى من قراءة القرآن في هذا الشهر، خلافاً لتصور بعض الناس.
إنّ ختم القرآن الكريم فضيلة عظيمة خاصة في هذا الشهر الكريم، وينبغي للإنسا أن يختمه فيه ولو ختمة واحدة، وهناك مَن يختمه حتى ثلاثين مرة! ولكن هناك فضائل أخرى كالإطعام وهداية الناس قد تكون أفضل حتى من قراءة القرآن، هذا إذا كانت تلك الفضائل مستحبة، أما إذا كانت واجبة فالقضية أعظم لأن المكلّف يأثم بتركها.
أما أفضل الأعمال كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله فهو الورع عن محارم الله.
ويتطلّب أوّلاً :
معرفة المحرّمات كما ذكرنا .
:11_1_212[1]:
ويتطلب ثانياً:
مطالعة الروايات التي عدّدت المحرّمات، لأن كثيراً من هذه الروايات تؤثر في دفع الإنسان لترك المحرّمات، بسبب توفّرها على علل التحريم وكذلك العقوبات التي تنتظر مرتكبيها. فرق بين أن يسمع المرء أن الغيبة حرام وحسب، وبين أن يسمع أن رسول الله صلى الله عليه وآله رأى المغتاب في ليلة المعراج ولسانه يُقرض أو يُفعل به كذا وكذا، فهذا يؤثّر في ترك الغيبة أكثر.
وهذه الروايات مذكورة في كتب الأخلاق مثل جامع السعادات والكتب التي تذكر آداب المحرّمات كحلية المتقين، والآداب والسن في بحار الأنوار…
ويتطلّب ثالثاً: الابتعاد عن كلّ المناهي؛ لأن من المناهي ما هو حرام ومنها ما هو مكروه، لاسيّما إذا لم يتضّح لنا بعد أن الأمر الفلاني مكروه أو حرام؛ فإنّ ذلك من مقتضيات الورع. أرأيت الذي يسير في أرض شائكة كيف يحتاط في رفع قدمه وضعها لئلا تصيبه شوكة بل حتى ما يشكّ أنها شوكة. ولذلك قال العلماء: إن الورع درجات. سئل الإمام الصادق سلام الله عليه عن أورع الناس فقال: «الذي يتورّع عن محارم الله ويجتنب هؤلاء فإذا لم يتَّقِ الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه»(5).
إن الورع عن المحرّمات أدنى درجات الورع، نسأل الله سبحانه أن يوفّقنا لأعلى درجاته ولما يحب ويرضى:067:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة على محمد وآله الطاهرين والعن الدائم على أعدائهم أجمعين. *
« اللهم لا تدع لي خصلة تعاب مني إلا أصلحتها، ولا عائبة أؤنّب عليها إلا حسّنتها، ولا أكرومة فيَّ ناقصة إلا أتمتها ».
:. ضرورة التدبّر في كلمات الدعاء
في هذه الفقرات الثلاث نرى أنّ الإمام السجاد سلام الله عليه يسأل الله تعالى ثلاث حاجات، ولكنّه في سؤاله عن كلّ حاجة يستعمل كلمة غير التي يستعملها في السؤال عن الحاجة الأُخرى، فمع أنّ الإمام يطلب من الله تعالى في هذه الفقرات إصلاح الحال وما تنطوي عليه النفس من نقائص، وتغييرها إلى ما هو أحسن، ولكنّه سلام الله عليه يعبّر عن النقص الأوّل بالخصلة المعيبة ويطلب من الله تعالى إصلاحها، ويعبّر عن النقص الثاني بالعائبة التي يؤنّب بسببها ويسأل الله تعالى تحسينها، ويعبّر عن النقص الثالث بنقصان الأكرومة ويطلب من الله تعالى إتمامها.
ولا شكّ أنّ هناك ربطاً بين سؤال الإمام وحاجته؛ فالخصلة التي تعاب بحاجة إلى إصلاح، والعائبة التي يؤنّب بسببها المرء ويلام تحتاج إلى تحسين، والأكرومة الناقصة تتطلّب إتماماً.
ولا شكّ أنّ الألفاظ التي استعملها الإمام سلام الله عليه تنطوي على بلاغة عالية وعلى عالم من المعاني والمفاهيم.
:. للتوضيح أكثر نأتي بمثال:
قد يكون الشخص سيّئ الخلق، وقد يكون حسن الخلق ولكن عنده إفراط، وقد لا يكون سيئ الخلق ولا مفرطاً، ولكنّه حسن الخلق مع بعض الناس دون بعض، فهذه حالات ثلاث.
أمّا الشخص الأوّل (سيّئ الخلق) فبحاجة إلى إصلاح لأنّ سوء الخلق فساد والفساد يتطلّب إصلاحاً.
وأمّا الشخص الثاني (حسن الخلق المفرط، كالشخص الكثير الضحك) فبحاجة إلى تحسين وضعه وحاله، لأنّ الإفراط عيب.
وأمّا الشخص الثالث الحسِن الخلق مع بعض دون بعض، فهو ينطوي على أكرومة ولكنّها ناقصة؛ فيقتضى إتمامها.
الحالة الأُولى لا حاجة للوقف عندها كثيراً؛ لأنّ كلّ فاسد بحاجة إلى إصلاح، فسوء الخلق فساد لابدّ من إصلاحه.
أمّا الحالة الثانية وهي حالة وجود الفضيلة ولكن وجود إفراط فيها فتطلّب تحسيناً، لأنّها ليست فساداً لكي تُقلع بالمرّة؛ بل لابدّ من التحسين فقط.
يقول علماء الأخلاق: إنّ كلّ فضيلة هي وسط بين رذيلتين هما الإفراط والتفريط في الحالة. فالكرم وسط بين البخل والإسراف، والشجاعة وسط بين الجبن والتهوّر، وهكذا. وكلّ شيء جاوز حدّه انقلب إلى ضدّه. وخير مثال على ذلك وضع الملح في الطعام فإنّ زيادة الكمية نقص كما نقصانها.
فالفضائل مطلوبة لكن ضمن حدودها، فإن تجاوزتها انقلبت إلى أضدادها فيحصل التأنيب، وتحتاج إلى التحسين.
وأمّا الحالة الثالثة فمثالها وجود الفضيلة أحياناً دون أُخرى، فترى الشخص مثلاً حسن الخلق في المجتمع ولكنّه ليس كذلك مع أهله، أو العكس، فمثل هذا الإنسان ليس سيّئ الخلق مطلقاً ليكون محتاجاً إلى الإصلاح ولا حسن الخلق مع إفراط فيحتاجَ إلى التحسين، ولكنّه لا يتوفّر على بعض الفضائل وإن كان يتوفّر على بعض آخر، فهو لذلك بحاجة إلى إتمام ما ينقصه.
وهكذا يتّضح أنّه كما ينبغي التدبّر في آيات القرآن الكريم بل قد يجب أحياناً من باب مقدّمة الوجود – حسب الاصطلاح العلمي – فكذلك ينبغي وقد يجب التدبّر في أدعية المعصومين عليهم السلام ومواعظهم؛ فإنّ التدبّر فيها يكشف عن دقائق ونفائس في كلماتهم تنير حياتنا.
خذ مثلاً كلمة (عائبة) فهي مؤنّث (عائب) والشيء العائب يحتاج إلى تحسين ومعالجة؛ كالسفينة إذا خرقت أصبحت معيبة فإن لم تعالج نفذ إليها الماء تدريجياً وآل أمرها إلى الغرق، كما نقرأ ذلك في قصة موسى والخضر عليهما السلام في قوله تعالى حكاية عنهما:
(أمّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كلّ سفينة غصباً)(1)، وهكذا الحال مع النفس الإنسانية إذا كان فيها عيب وخلل يلام عليه الإنسان، فلابدّ من ترميمها وإزالة ذلك الخلل والعيب؛ ولذلك يقول الإمام سلام الله عليه «ولا عائبة أُؤنّب بها إلاّ حسّنتها».
وإذا كان الأئمّة المعصومون وهم في أعظم مقام يمكن أن يبلغه مخلوق، يطلبون من الله دائماً أن يعينهم في التكامل، فما أحرانا وما أحوجنا لأن نتوسّل بالله تعالى في الإطار نفسه، فإنّ الإنسان كلّه نقص وافتقار لله تعالى، ومن ثم فهو مدين لله تعالى ويجب عليه أن يتوجّه إليه بالشكر على كلّ النعم سواء في الأُمور المادّية أو المعنوية. حتّى نعمة الشكر على ما أنعم عليه، فإنّها تستوجب شكراً، ولذلك لا يتوقّف شكر الإنسان لله تعالى عند حدّ.
لقد أنعم الله تعالى على الإنسان بالنعم المادّية لكي يستطيع أن يزكّي نفسه، ومنحه القوى لكي يكتسب المعالي والفضائل.
:. الورع وترويض النفس
يظهر من الروايات أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يلقي خطبة في استقبال شهر رمضان كلّ عام، ولكن هناك خطبة معروفة في هذا المجال ولعلّها أشهر تلك الخطب وأجمعها. في آخر هذه الخطبة يتوجّه الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه بالسؤال من رسول الله صلى الله عليه وآله عن أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ ولا شكّ أنّه سؤال العارف الذي يعرف الشيء ولكنّه يسأل ليفهمه للآخرين.
يلاحظ المتبّع أنّ الإمام سلام الله عليه لم يقل: «ما أفضل هذه الأعمال؟» بل قال: «ما أفضل الأعمال؟» أي أعمّ مّا ذكره وما لم يذكره النبي صلى الله عليه وآله في الخطبة، ويقول علماء اللغة إنّ الجمع المحلّى ب «أل» ظاهر في العموم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله قد ذكر أُموراً عديدة في خطبته الشريفة ينبغي للصائم عملها في شهر رمضان، وحثّ المؤمنين عليها، ولكنّه لم يأت على ذكر أيّ منها في جوابه للإما، بل قال صلى الله عليه وآله: «الورع عن محارم الله»(2).
ولكن هل يحصل الورع عند الإنسان بمجرد أن يشاء ذلك؟
بالطبع كلاّ، لأنّ هناك موانع كثيرة تقف في طريقه، كالشيطان والشهوات والنفس الأمّارة بالسوء، ولابدّ من ترويض النفس وتمرينها للتغلّب على هذه الصعوبات والموانع، كما هو الحال في كلّ مجالات الحياة فإنّه لا تقوى استعدادات الإنسان من دون ممارسة وتمرين.
ينقل أنّ أحد كبار العلماء المعروفين من مراجعنا الماضين (رحمة الله عليهم جميعاً) لم يمارس الكتابة منذ بدأ دراسته، فظلّ لا يجيدها حتّى بعد أن بلغ مراحل عالية في العلم وأصبح مرجعاً درَس ودرّس الكتب الكثيرة، وألقى آلاف المحاضرات. وقيل في أحواله أنّه كان يجد صعوبة حتّى في كتابة سطر واحد، وإذا كتب شيئاً لا يكون مفهوماً.
فإذا كان من قرأ آلاف السطور لا يجيد كتابة سطر واحد لأنّه لم يمارس الكتابة، فهل يمكن للإنسا أن يصبح ورعاً (أي حائزاً على ملكة الابتعاد عن محارم الله تعالى) من دون ممارسة وتمرين؟ كلاّ بالطبع، وشهر رمضان المبارك خير فرصة للقيام بهذا التمرين.
صفة المتّقين
لقد وصف الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه المتّقين بقوله: «فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون»(3). فرغم أنّهم لم يشاهدوا الجنّة والنار بأعينهم الباصرة ولكنّهم متلئون يقيناً بهما، فترى أحدهم يحلم ويصفح عمّن سبّه أو ظلمه لأنّه يعلم أنّه سينال بذلك درجة في الجنّة، فهو سعيد منعّم حتّى في هذه الحالة، لأنّه كمن يرى الجنّة ودرجة المحسنين فيها بعين البصيرة وإن لم يرها بالعين الباصرة.
إنّ الورع هو الذي يبلغ بالإنسان إلى هذا المقام، ولكن هل يتحقّق هذا دون سعي وعمل؟ إنّ القرآن الكريم يصرّح في قوله تعالى: (وأن ليس للإنسا إلا ما سعى)(4) أنّ الله تعالى هو الذي يفيض على الإنسان وهو الذي يعطيه ولكن ذلك لا يتمّ إلاّ مع السعي والتمرين من قِبل الإنسان نفسه.
لو أنّ شخصاً تثق بأقواله أخبرك أنّه مستعدّ لتعويضك عن كلّ ما ستنفقه من أموالك في مجال الخير ويزيدك عليه شيئاً، فهل تتأخّر عن الإنفاق أم ستبسط يدك في سبيل الخير؟ لا شكّ أنّك لا تتأخّر عن الإنفاق لأنّك تعلم أنّه سيعوّضك عن كلّ ما ستخسره من أموال، وما ذلك إلاّ لأنّك تشاهد الشخص الذي تثق به عياناً، وترى أمواله وإمكاناته وتحسّ بعلاقتك المباشرة معه. فهكذا يكون المتّقون في تعاملهم مع الله تعالى؛ لذلك ترى الإنسان المتّقي لا يقول لماذا عمل معي فلان كذا مع أنّي خدمته؟! بل لا يفكّر في ذلك، لأنّه يؤمن بقوله تعالى:(إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم)(5) بل تراه يتّهم نفسه دائماً، فقد روي عن أمير المؤمنين سلام الله عليه قوله: «المؤمنون لأنفسهم متّهمون…»(6) أي أنّ المؤمن يتّهم نفسه ويراها مقصّرة دائماً! وما دام الأمر كذلك تراه لا يتألّم ولا يقلق ويبقى أرقاً حتّى الصباح لمجرد أنّ شخصاً ما لم يردّ عليه إحسانه، وأمّا حاله مع سخط الله تعالى فتراه يحتاط حتّى في قول كلمة واحدة ويحذر من أن تصبح له فخاً يؤدّي به إلى النار.
لقد نقل لي سجين سابق: أنّه كان جالساً مع زملائه في السجن لتناول وجبة الصباح، إذ نودي باسم أحدهم للذهاب إلى المحكمة، وكان يحمل كوب الشاي بيده فبدأت يده ترتعد وترتعش حتّى فرغ كلّ ما في الكوب من الشاي وسقط الكوب من يده إلى الأرض.. كلّ ذلك لخوفه من المثول أمام محكمة المخلوق، ويقينه بوقوعها.
هكذا هي حال المتّقين في يقينهم بمحكمة الخالق، فما أعظمها وأعظم أهوالها!
:. من يرى الجنّة لا يبالي بالصعاب
نقل أحدُ مراجع التقليد من أرحامنا أيام دراسته وقبل أن يتصدى للمرجعية، عن أحوال السيّد أبي الحسن الإصفهاني أيّام مرجعيته، قال: كنت قد كتبت استفتاءً للسيّد ولم أشأ أن أُزاحمه لأخذ الجواب في الأوقات العادية حيث يكون مشغولاً إمّا بالتدريس أو القاءات العامّة والخاصّة في بيته الذي يغصّ بالوافدين، فقرّرت أن أذهب إليه قبيل صلاة الفجر؛ لعلمي أنّه يكون مستيقظاً آنئذ لأنّه كان يصلّي صلاة الصبح جماعة في روضة أمير المؤمنين سلام الله عليه، فذهبت قبل أذان الفجر بزهاء ساعة إلى بيته فرأيت المصباح مضاءً فطرقت الباب، وعندما خرج الخادم سألته فيما إذا كان السيّد مستيقظاً فأجاب بالإيجاب، فطلبت منه أن يخبر السيّد أنّ فلاناً وراء الباب، فمكثت هنيهة حتى عاد الخادم واصطحبني إلى داخل الدار، فرأيت السيّد والرسائل متناثرة بين يديه يجيب عليها، في بعضها استفتاءات، وفي بعضها الآخر حاجات يطلب أصحابها قضاءها.
فقلت للسيّد: أرسلت لكم منذ أيام رسالة أستفتيكم فيها عن مسائل.
فقلّب السيّد الرسائل حتّى استخرج رسالتي ثمّ قال لي: عندما عدت إلى البيت كان بعض الأشخاص – كالعادة – ينتظروني لقضاء بعض الحاجات أو للإجابة على أسئلتهم، وبعد أن خرجوا رأيت أن أنتهي من الإجابة على هذه الرسائل قبل تناول العشاء، فبقي الطعام على الموقد الذي تراه أمامك على نار هادئة والرسائل لم تتمّ بعد، ومنها رسالتك هذه. ثمّ تناول رسالتي فأجاب عليها.
أقول: لا شكّ أنّ السيّد أبا الحسن الإصفهاني لم يكن آنئذ شاباً بل كان شيخاً ضعيف البنية وكان هذا الجهد المتواصل والبقاء دون عشاء حتّى الفجر لا يخلو من أثر سلبيّ على بدنه الضعيف، ولكن عندما يكون الإنسان كمن قد رأى الجنّة فهو فيها منعّم، تكون روحه كبيرة وتقوى على تحمّل هذه الصعاب، وهكذا عندما يكون الإنسان كمن قد رأى النار فهو فيها معذّب، تراه يحتاط في أُموره كثيراً؛ حذراً من الوقوع في ما يسخط الله تعالى ويستوجب النار.
:. لنتهز الفرص من أجل بناء أنفسنا
لينتهز كلّ منّا الفرص – لا سيّما شهر رمضان – من أجل بناء نفسه، فإنّه لا حدّ لبناء النفس، ولا يتصوّر أحد أنّه سيصل الحدّ الذي يتوقّف عنده جهاد النفس وبناؤها، ولقد ذكرنا في بداية البحث أنّ الإمام السجّاد سلام الله عليه يطلب في هذه الفقرة من الله تعالى ثلاث خصال في سبيل بناء النفس وتكاملها؛ فإنّه لا حدّ للتكامل والرقيّ أبداً، حتّى عند المعصوم مع أنّ العصمة هي أعلى درجات الرقي بالنسبة لسائر الناس، ولن يبلغوها لأنّها خاصّة بأُولئك الذين اصطفاهم الله لبلوغ هذا المقام، ولكن هذا لا يعني التوقّف عن بناء النفس وتكاملها، فما أحرى بالإنسان أن يسعى لبلوغ منزلة «فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون».
بالسعي والتمرين – خاصّة خلال شهر رمضان – يمكن أن يصل الإنسان إلى تلك المرتبة، لأنّ هذا الأمر لا يتحقّق دفعة واحدة بل يتطلّب الممارسة والرياضة من أجل الرقي درجة درجة؛ فإنّ الله تعالى جعل عالم الدنيا عالم الأسباب، فلا يمكن أن ينام الشخص في إحدى اليالي ثمّ يستيقظ صباحاً ليجد نفسه قد تحوّل تحوّلاً كاملاً دفعة واحدة من الصفر حتّى بلوغ مرحلة (فهم والجنّة كمن قد رآها ..).
أجل، قد تحصل عند الإنسان حالة من التغيّر بسبب حالات خاصّة أو ظرف طارئ أو بسبب بعض المشكلات أو نتيجة التحرّز والاحتياط في ما يدخل الجوف من الطعام إلاّ ما ثبت حلّيته من جميع الوجوه، أو التأثّر بموعظة سمعها من خطيب أو وصايا قرأها لأهل البيت سلام الله عليهم، وربما اجتمعت عوامل عدّة في خلق هذه الحالة عند الإنسان، فيشعر أنّ قلبه قد تنوّر بعض الشيء، فينعكس هذا على سلوكه ومشاعره لتكون أفضل، ولكن هذه الحالة لا تستمرّ معه أبدا،ً فسرعان ما تبدأ بالذوبان كقطعة الثلج التي تذوب تدريجياً، وإذا به بعد أسبوع مثلاً يعود إلى سابق وضعه وحاله، وما ذلك إلاّ لفقدانه الرصيد الذي يمدّه، أمّا إذا كان متّصلاً بالرصيد والموّن الذي يستمدّ منه الفيض باستمرار، فإنّه سيبقى على تلك الحالة بل يزداد تصلّباً وتماسكاً فيها – كقطعة الثلج التي توضع في المجمّدة لا تذوب ما زالت المجمّدة تعمل- وشهر رمضان خير موّن للإنسا في هذا المجال، فلنستثمر أيامه ولياليه وساعاته ومناسباته وأدعيته العظيمة، فلنقرأ في كلّ ليلة مقاطع من دعاء أبي حمزة الثمالي بتأمّل وتدبّر، ونقف متمعّنين عند كلّ جملة أو عبارة أو فقرة من الدعاء؛ لأنّ التمعّن أفضل من القراءة العابرة لكلّ الدعاء.
ولا أقول لا تقرأوا الدعاء كلّه، فالدعوة للتأمّل بعض فقراته كلّ ليلة لا تتنافى مع قراءته كلّه، لأنّ قراءة الدعاء والمواظبة عليها تخلق هي الأُخرى ارتكازاً وحالة في النفس تساهم مع التأمّل والتدبّر في بعض فقراته في البلوغ بالداعي نحو مرحلة (فهم والجنّة كمن قد رآها)، وتعين العبد على أداء أفضل الأعمال في هذا الشهر وهو (الورع عن محارم الله)، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله في معرض جوابه لأمير المؤمنين سلام الله عليه حين سأله عن أفضل الأعمال في هذا الشهر.
وكان النبي صلى الله عليه وآله قد نبّه المسلمين في خطبته التي استقبل فيها شهر رمضان على استثمار هذا الشهر، ومن جملة ما قاله لهم صلى الله عليه وآله: «أيّها الناس إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم فكّوها باستغفاركم»(7). وهذا معناه أنّ كل عمل نقوم به مهما كان صغيراً فإنّه يرهن أنفسنا. فالنظرة، والكلمة، وكلّ عمل يصدر عنّا يجعلنا رهائن، ولا نستطيع أن نفكّ أنفسنا إذا صارت رهائن إلاّ بالاستغفار.
ولا يشترط أن تكون الأعمال التي نقترفها كبيرة لكي نصبح رهائن لها، بل كلّ عمل كفيل بأن يرهن صاحبه مهما كان صغيراً؛ قال تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره)(8). فمن القطرات يتكوّن السيل الذي يجرف البيوت، ومن القطرات يتكوّن ماء المطر. إنّ الإنسان مسؤول عن كلّ صغيرة وكبيرة، كما ورد في الحديث الشريف: «ألا وإنّ الله عزّ وجلّ سائلكم عن أعمالكم حتى مسّ أحدكم ثوب أخيه بإصبعيه»(9) فلعلك تضع إصبعك على الثوب تريد معرفة نوعه أو لغاية أُخرى ولا يكون صديقك راضياً بذلك، فإنّك إن فعلت ذلك ستسأل عنه يوم القيامة، وفي الحديث أيضاً: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه»(10). يقول العلماء إنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم و«مال امرئ مسلم» نكرة وجملة «لا يحلّ» نفي فتكون جملة «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه» مفيدة للعمو ويندرج تحتها المورد المذكور في الحديث المتقدّم (حتى مسّ أحدكم ثوب أخيه..) وإن كان في مستواه الأضعف وليس الأشد كالسرقة والعياذ بالله.
وثمّة رواية أُخرى تقول: «في حلالها حساب وفي حرامها عقاب»(11) أي أنّ الإنسان سيسأل يوم القيامة حتّى عن النفخة ينفخها، كما لو نفخ في وجه إنسان يتأذّى من ذلك فإنّه سيعاقب عليه، أو نفخ في نار قدر الإطعام للمشاركين في عزاء الإمام الحسين سلام الله عليه مساهمة منه في تعظيم شعائر الله تعالى فإنّه سيثاب على ذلك.
وهكذا يحتاط الإنسان الورع في كلّ أعماله لأنّه هو والجنّة كمن قد رآها فهو فيها منعّم، وهو والنار كمن قد رآها فهو فيها معذّب.
:. الورع واجب عيني وفي كلّ حال
ثمّ إنّ الورع واجب دائماً وليس في شهر رمضان فقط، وهو واجب عيني على كلّ مكلّف وليس كفائياً بحيث إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين.
أمّا كيف يكون الورع واجباً فجوابه: لمّا كان ترك المحرّمات واجباً مطلقاً، وكان الورع – وهو تحصيل ملكة ترك المحرّمات – مقدّمة وجودية له، والمقدّمة الوجودية للواجب المطلق واجبة (من باب إذا وجب شيء وجبت مقدّمته)، إذن يكون الورع واجباً على المكلّف.
وهذا من قبيل ما ورد في عبارات الفقهاء: «يجب على كلّ مكلّف أن يكون في عباداته ومعاملاته مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً»، فإنّه أيضاً وجوب نشأ من نفس الطريق وهو كونه مقدّمة وجودية للواجب المطلق.
ثمّ إنّ الورع الذي قلنا بأنّه واجب بالوجوب العيني – بحيث لا يسقط عن شخص وإن بلغ أخوه أعلى درجاته – إنّ هذا الورع لا يأتي من فراغ وهكذا اعتباطاً، كما تقدّم منّا، ولا يكفي الدعاء أيضاً في حصوله بل لابدّ من أن يسعى الإنسان لتحصيله عبر السعي والممارسة والاستفادة من المناسبات التي وفّرها الله تعالى للإنسا المؤمن كشهر رمضان المبارك مثلاً، فلنحاول أن نختار في كل يوم من هذا الشهر الفضيل – وهكذا في سائر شهور السنة _ إحدى الإرشادات الدينية، ونعزم ونصمّم على تطبيقها في ذلك اليوم، فإنّ الأمر بحاجة إلى عزيمة، وكما ورد عن الإمام الرضا سلام الله عليه «فإنّما هي عزمة»(12) والتاء في قوله «عزمة» للمبالغة وليست للتأنيث.
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: «ليس منّا من لم يحاسب نفسه كلّ يوم…»(13).
وهذه رواية مستفيضة رويت عن أكثر من إمام معصوم وقد أفرد لها المرحوم الكليني باباً في كتابه الكافي وكذلك المجلسي في البحار، وعبارة (كل يوم) غير مختصّة بشهر رمضان كما هو واضح، ولكن لنفعل ذلك في شهر رمضان على الأقل أو لنبدأ منه.
ولقد روي في هذا المجال أيضاً عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنه قال: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وبّخوها قبل أن توبّخوا» (14).
:. حذار أن نكون مّن لا ينتصح بما ينصح
ولنحذر نحن – أهل العلم خاصّة – أن نكون يوم القيامة مصداقاً لما ورد في الحديث الشريف: «أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره»(15).
وإنّي أتصوّر أنّه حتّى لو لم ترد هذه الرواية لكان ينبغي لنا إدراك ذلك بالتأمّل، كما يفترض بنا الاهتداء والاقتداء بأقوال وأفعال الأئمّة المعصومين سلام الله عليهم الذين يعلّموننا ما هو الخطأ وما هو الصواب، ويمكننا القول إنّ هذا مّا يمكن استفادته حتّى من عموم رواياتهم الأُخرى.
حقّاً ما أعظم حسرة الإنسان وهو يرى نفسه متردّياً خاسراً لعدم استرشاده بالنصح الذي قدّمه لغيره، في حين يرى أنّ من نصحه قد أخذ بنصحه ونجا وفاز يوم القيامة!
إنّ الطريق إلى «فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون» طويل جدّاً، لكن هذا لا يعفينا أبداً، بل علينا أن نسير فيه دوماً، ولقد وعد الله تعالى عباده الساعين والمتوكّلين عليه بالتوفيق، وهو تعالى صادق الوعد، فلنترفّع عن صغائر الأُمور ونضاعف من اهتمامنا بأُمور الآخرة عسى الله تعالى أن يأخذ بأيدينا بركة أهل البيت سلام الله عليهم ويجعلنا من المستفيدين من شهر رمضان المبارك لكي نرى أنفسنا بعد اامه وقد تغيّرنا نحو الأفضل، وازدنا ورعاً وتقوى واقتراباً من حال الذين «فهم والجنّة كمن قد رآها…».
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين :4_8_4v[1]: