يقول ابن القيم رحمه الله :
لشهادة أن لا اله الا الله عند الموت تأثير عظيم في تكفير السيئات واحباطها, لأنها شهادة
من عبد موقن بها عارف بمضمونها, قد ماتت منه الشهوات ولانت نفسه المتمردة, انقادت
بعد ابائها واستعصائها وأقبلت بعد اعراضها وذلت بعد عزها, وخرج منها حرصها على
الدنيا وفضولها, واستخذت بين يدي ربها فاطرها ومولاهاالحق أذل ما كانت له وأرجى
ما كانت لعفوه ومغفرته ورحمته, وتجرد منها التوحيد بانقطاع أسباب الشرك وتحقق
بطلانه, فزالت منها تلك المنازعات الي كانت مشغولة بها, واجتمع همها على من أيقنت
بالقدوم عليه والمصير اليه, فوجه العبد وجهه بكليته اليه, وأقبل بقلبه وروحه وهمه
عليه. فاستسلم وحده ظاهرا وباطنا, واستوى سره وعلانيته فقال: "لا اله الا الله" مخلصا
من قلبه. وقد تخلص قلبه من التعلق بغيره والالتفات الى ما سواه. قد خرجت الدنيا كلها
من قلبه. قد خرجت الدنيا كلها من قلبه, وشارف القدوم على ربه, وخمدت نيران شهوته,
وامتلاء قلبه من الآخرة, فصارت نصب عينيه, وصارت الدنيا وراء ظهره, فكانت تلك
الشهادة الخالصة خاتمة عمله, فطهّرته من ذنوبه, وأدخلته على ربه, لأنه لقي ربه
بشهادة صادقة خالصة, وافق ظاهرها باطنها وسرها علا نيتها, فلو حصلت له الشهادة
على هذا الوجه في أيام الصحة لاستوحش من الدنيا وأهلها, وفر الى الله من الناس,
وأنس به دون ما سواه,لكنه شهد بها بقلب مشحون بالشهوات وحب الحياة وأسبابها,
ونفس مملوءة بطلب الحظوظ والالتفات الى غير الله. فلوتجردت كتجردها عند الموت
لكان لها نبأ آخروعيش آخر سوى عيشها البهيمي والله المستعان.
ماذا يملك من أمره من ناصيته بيد الله ونفسه بيده, "وقلبه بين اصبعين من أصابعه يقلبه
كيف يشاء" جزء من حديث صحيح أخرجه مسلم في القدر برقم 2654 عن عبدالله بن
عمرو بن العاص, ونصّه: " ان قلوب بني آدم كلها بين اصبعين من أصابع الرحمن كقلب
واحد يصرفه حيث يشاء". وحياته بيده وموته بيده وسعادته بيده وشقاوته بيده وحركاته
وسكناته وأقواله وأفعاله باذنه ومشيئته. فلا يتحرك الا باذنه,ولايفعل الا بمشيئته.
ان وكله الى نفسه وكله الى عجز وضيعة, وتفريط وذنب وخطيئة. وان وكله الى غيره,
وكله الى من لا يملك له ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. وان تخلى عنه
استولى عليه عدوّه وجعله أسيرا له. فهو لا غنى له عنه طرفة عين, بل هو مضطر اليه
على مدى الأنفاس في كل ذرة من ذراته ظاهرا وباطنا, فاقته تامة اليه. ومع ذلك فهو
مختلف عنه معرض عنه, يتبغض اليه بمعصيته, مع شدة الضرورة اليه من كل وجه, قد
صار لذكره نسيا, واتخذه وراءه ظهريا, هذا واليه مرجعه وبين يديه موقفه.فرغ خاطرك
للهم بما أمرت به ولا تشغله بما ضمن لك, فان الرزق والأجل قرينان مضمونان. فما دام
الأجل باقيا, كان الرزق آتيا واذا سد عليك بحكمته طريقا من طرقه, فتح لك برحمته
طريقا أنفع لك منه. فتأمّل حال الجنين يأتيه غذاؤه, وهو الدم, من طريق واحدة وهو
السرّة (الحبل السرّي), فلما خرج من بطن الأم, وانقطعت تلك الطريق, فتح له طريقين
اثنين وأجرى له فيهما رزقا أطيب وألذ من الأول, لبنا خالطا سائغا. فاذا تمت مدة
الرضاع وانقطعت الطريقان بالفطام فتح طرقا أربع أكمل منها:
طعامان وشرابان, فالطعامان من الحيوان والنبات, والشرابان من المياه والألبان وما
اضاف اليهما من المنافع والملاذ. فاذا مات انقطعت عنه هذه الطرق الأربعة. لكنه سبحانه
فتح له –ان كان سعيدا- طرقا ثمانية, وهي أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها يشاء.
فهكذا الرب سبحانه لا يمنع عبده المؤمن شيئا من الدنيا الا ويؤتيه أفضل منه وأنفع له.
وليس ذلك لغير المؤمن. فانه يمنعه الحظ الأدنى الخسيس, ولا يرضى له به ليعطيه الحظ
الأعلى النفيس.والعبد لجهله بمصالح نفسه, وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه, لا يعرف
التفاوت بينما منع منه وبين ما ادخر له. بل هو مولع بحب العاجل وان كان دنيئا, وبقلة
الرغبة في الآجل وان كان عليا. ولو أنصف العبد ربه, وأنى له بذلك, لعلم أن فضله
عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها ونعيمها وأعظم من فضله عليه فيما آتاه من ذلك, فما منعه
الا ليعطيه, ولا ابتلاه الا ليعافيه, ولا امتحنه الا ليصافيه, ولا أماته الا ليحييه, ولا
خرجه الى هذه الدار الا ليتأهب منها للقدوم عليه وليسلك الطريق الموصلة اليه. { جعل
الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذّكّر أو أراد شكورا} الفرقان 62, و { فأبى الظالمون
الا كفورا} الاسراء 99, والله المستعان.
كلامك جواهر
مشكوره علي المرور