ما أعجب هذا المسجد يا أحبابي الصغار! ولكن ما حكايته؟ تعالوا نسمعها من بدايتها:
كان بالمدينة قبل قدوم رسول الله r إليها رجل من الخزرج يقال له: "أبو عامر الراهبُ". وكان قد قرأ في كتب أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فدخل دين النصارى، وتفرغ للعبادة، وكانت له مكانة كبيرة بين قومه من الخزرج.
فلما قَدِم رسولُ الله r إلى المدينة، وصارت للمسلين دولة وقوة بعد انتصارهم في غزوة بدر، اشتدت كراهية أبي عامر الراهب للنبي r وزاد غيظه.
فأعلن بين أصحابه المنافقين عداوته للنبي r، ثم ترك المدينة لينضم إلى كفار مكة، وخرج معهم لقتال النبي صلى الله عليه وسلم عند جبل أُحُد، فلما اشتدت المعركة وأوشك المسلمون على الانتصار، خالف بعض رُماة السهام أمر النبي r وتركوا أماكنهم، فحدث اضطراب في صفوف المسلمين، وهاجمهم الكفار بقوة، وكان أبو عامر قد حفَر حُفرًا ليُوقع فيها المسلمين، فوقع في إحداهن رسول الله r وأُصِيبَ.
وعود كاذبة ورسائل خطيرة:
لم ينتصر المسلمون في غزوة أُحُد بسبب مخالفة بعض المسلمين لأمر من أوامر النبي r، ولكنهم تعلموا الدرس، واستغفروا الله، فاستعادوا قوتهم وثقتهم بأنفسهم بسرعة، فلما رأى أبو عامر الراهب أن قوة المسلمين في ازدياد، سافر إلى هرقل، مَلِك بلاد الروم، وكان هرقل مثله نصرانيًّا، وطلب أبو عامر منه أن يُعينه بجيش لمحاربة محمد والقضاء عليه، فوعده هرقلُ بالعون والنصرة.
أقام أبو عامر عند هرقل، وفي أثناء ذلك كان يكتب رسائل إلى جماعة من قومه في المدينة من المنافقين يَعِدُهم ويُبشّرهم بأنه سيأتي بجيش يقاتل به محمدًا ويغلبه، وأمرهم أن يبنوا له بناء حصينًا؛ ليكون موضعًا ينتظرونه فيه، ويجهزون فيه قوة منهم تكون مهيأة للانضمام إليه عندما يأتيهم بجيش من عند هرقل.
مسجد الضرار والحيلة الخبيثة:
أطاع المنافقون من أصحاب أبي عامر أوامره، وبنوا بناء على شكل مسجد، وسموه مسجدًا حتى لا يشك المسلمون في أمرهم، ثم أرادوا أن يخدعوا بعض المسلمين ليأتوا للصلاة في هذا المسجد الجديد؛ حتى يستطيعوا بعد ذلك أن يقنعوهم بالانضمام إليهم وإلى الجيش الذي سيأتي به أبو عامر من عند هرقل، وفكروا في حيلة لتنفيذ خطتهم.
وكانت الحيلة أن يطلبوا من النبي r أن يأتي فيصلي في مسجدهم مرة، حتى يطمئن بقية المسلمين ويأتوا للصلاة فيه، وعندها يتمكنون من خداع المؤمنين.
كان النبي r في ذلك الوقت يتجهز مع الصحابة y لخروج إلى غزوة تبوك، فلما طلب منه أصحاب أبي عامر الراهب أن يصلي في مسجدهم الجديد، سألهم النبي r عن الغرض من بنائه، فأقسموا بالله وحلفوا أنهم أرادوا بنائه الخير للمسلين، وحتى يكون قريبًا يَسهُل الوصول إليه، خاصة للضعفاء والمرضى، فصدّقهم النبي r وعدهم بالصلاة فيه عندما يعود من الغزو.
وانكشفت الخدعة:
انتصر النبي r في غزوة تبوك، وفي طريق العودة إلى المدينة نزل عليه الوحيُّ بآيات تخبره بحقيقة المسجد الجديد الذي بناه المنافقون من أتباع أبي عامر الفاسق، وتخبره بحقيقة أغراضهم الخبيثة، وأمرت الآياتُ النبيَّ r وأصحابه y بعدم الصلاة في مسجد المنافقين، وسمّاه الله مسجد الضرار؛ لأن هدف بنائه هو إيقاع الضر بالمسلمين، والتفريق بينهم، والإعداد لمحاربة النبي والمؤمنين، وكانت الآيات هي: ]وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَالَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا، لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ[…[التوبة: 107، 108]. ومعنى لا تقم فيه: لا تصلِّ فيه.
وزال الخطر:
بعث النبي r إلى ذلك المسجد اثنين من أصحابه ليهدماه ويحرقاه، فهدماه وأحرقاه بعد أن فرّ من كان فيه من المنافقين.. وهكذا انتهى خطره.
بقي المؤمنون يُصلون في مسجد قُباء الذي بناه النبي r وأصحابه من أول قدومهم إلى المدينة مرضاةً لله، ومن أموال حلال.
أما أبو عامر الفاسق فقد مات شريدًا طريدًا في بلاد الروم بعد أن فشلت خُطته، وانكشفت مكيدته.