إنّ طريقتنا في الإدراك والتّفكير هي التي تصنع حياتنا وواقعنا. فإن كانت إيجابيّة مشرقة فسوف تكون الحياة جميلة ومليئة بلحظات السّعادة والسّرور. وإن كانت سلبيّة متحجّرة فستكون حياتنا كئيبة مليئة بالانتكاسات ومشاعر الفشل…
في كتابه: كيف توقف القلق والأحاسيس السّلبيّة قال (ديل كارنيجي): إنّ أكثر من 93% من الأحداث التي نعتقد أنّها ستسبب الإحساسات السّلبيّة لن تحدث أبدًا، وإن 7% من الأمور حولنا هي فقط التي لا نستطيع التّحكم فيها مثل: الطّقس أو الموت …الخ.
ما هي الصّحّة النّفسيّة؟
هي التوافق النّفسيّ والاجتماعيّ الجيّد.
أو هي الخلوّ من مظاهر الاضطراب السّلوكيّ والنّفسيّ، وإليكم بعض الطّرق التي نستطيع من خلالها الحفاظ على صحّتنا النّفسيّة وتنميتها:
–حاصر القلق
–وابحثْ في ذاتك عن ألق
–ثم بادرْ وانطلقْ
1- حاصر القلق
إنّ أكبر مؤشّر على الاضطراب النّفسيّ هو وجود القلق عند الإنسان لفترات، والحقّ يُقال إنّ القلق هو مشكلة الإنسان المعاصر في كلّ مكان؛ فهو يعتصر الإنسان وينغّص عليه حياته، بل طبقًا للأبحاث العلميّة هو من أكبر القتلة للجنس البشريّ؛ ففي الحرب العالميّة الثّانية توفّي في أمريكا وحدها مليونا شخص نتيجة أمراض جسميّة ناتجة عن القلق مثل أمراض القلب وضغط الدّم، بينما قُتل في الحرب نفسها (300) ألف مقاتل فقط.
وقد رأيت في الأفلام أن "الجستابو" (وهو اسم البوليس الحربيّ الألمانيّ أثناء الحرب العالميّة الثّانية) كان يعذّب الأسرى بطريقة رهيبة؛ إذ كان يشدّ وثاقهم، ويثبّتهم أسفل صنبور الماء، فيسقط قطرة قطرة على رؤوسهم، وبعد قليل من الوقت تصبح هذه القطرات المتساقطة من الماء كأنّها دقّات، وتدفع بهؤلاء المساكين إلى الجنون، وبالتّالي كانوا يعترفوا في النّهاية.
فأنا أتصوّر أنّ القلق والتّوتّر ينخر الرّأس أكثر من هذه الوسيلة للتّعذيب!
ولقد قال"ألكسيس كاريل": إنّ رجال الأعمال الذين لا يعرفون كيف يكافحون القلق؛ يموتون موتًا مبكّرًا "
وفي الحقيقة إنّ أغلبنا في مصر لسنا رجال أعمال، ومع ذلك يمزّقنا القلق…
فلقد طالعت إحصائيّة مدهشة تقول إن 50% من المرضى بالمستشفيّات المصريّة مصابون بأمراض جذورها نفسيّة، وطبقًا للدّراسات هناك أنواع كثيرة من القلق المسبّب لإنهاك الطّاقة النّفسيّة؛ فالكَبَد النّفسيّ يؤدّي إلى إضعاف المناعة، وبالتّالي جعْل الإنسان أكثر عرضة للإصابة بالأمراض المختلفة.
ومن أهمّ مسبّبات القلق الخوف من المستقبل أو على المستقبل؛ فمن الأخطاء الشّائعة أنّنا نحمل هم الغدّ بقوّة حتّى العبث؛ فكثير من المصريّين وهم يتناولون غداءً لذيذًا قد يتساءلون: (يا ترى فيه أكل يكفي بكرة؟!).
وهذا يرجع إليه غالبيّة القلق الذي يعاني منه المصريّون.. ولعلّ العلاج يتمثّل في حديث الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- والذي يُعدّ علاجًا نفسيًّا ناجعًا لهذا القلق:
"من بات آمنًا في سرْبه معافًى في بدنه، مالكًا قوت يومه فقد حيزت له الدّنيا بحذافيرها". صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
إذن عليك أن تفكّر في اليوم هكذا يقول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم..
وكذلك يقول المسيح: "فلا تهتمّوا للغد؛ لأنّ الغد يهتمّ بما لنفسه يكفي اليوم شره. (متى 6- 34).
كما قال المسيح: (أعطِنا خبزنا كفاف يومنا)؛ أي كان يدعو من أجل خبز اليوم فقط، لم يكن يفكّر فى خبز الأمس الفاسد أو من أين يأتي خبز الغد؛ فالأمس ليس إلاّ حلمًا، والغد ليس إلاّ خيالاً…
وهذا لا يعني أن نترك التّفكير في المستقبل تمامًا، ولكن يجب أن نستعدّ له.. ولكن لا نهتمّ، وحين تبدو الأمور كئيبة في المستقبل يجب أن أتركها؛ لأنّ التّفكير فيها سينغّص عليّ حياتي، ولكي تفعل ذلك اتّبعْ هذه الحيلة:
تخيّل أنّ المستقبل خارج نافذة بيتك، وأغلقها في مخيّلتك وعشْ يومك فقط.
كلّنا يعرف السّاعة التي اخترعها المسلمون، وكانت هناك فجوتان من الزّجاج بينهما أنبوب دقيق من الزّجاج يمرّر الرّمل واحدة – فقط – تلو الأخرى من تجويف لآخر.. تخيّل أيّامك كحبّات الرّمل، وجهازك العصبيّ كالأنبوب الدّقيق؛ فهو لايحتمل إلاّ التّفكير في يوم واحد فقط، فلو مرّت أكثر من حبّة رمل لانكسر الأنبوب..
يقول( جيمس) عالم النّفس الكبير:
"إنّ الله يغفر لنا خطايانا، لكنّ الجهاز العصبيّ لاينسى ولا يغفر".
فكلّ إنسان مهيَّأ لتحمّل عبء اليوم الواحد مهما صعب، ويكون قرير العين محبًّا صبورًا حتى تغرب شمس هذا اليوم.
فإذا كانت هناك كارثة سوف تحدث يوم الخميس وأنت يوم الأحد مثلاً، فإذا فكّرت فيها بشدّة وقلقت؛ صدّقني قد تموت قبل أن تصل إلى يوم الخميس!
وهنا أذكر حكاية حدثت أثناء الحرب العالميّة، حين أراد هتلر الزّعيم الألمانيّ أن يعاقب ثلاثة من الضّباط الذين عصوا الأوامر بحيث يموتون، ولكن دون عذاب جسديّ، حتى لا يخسر شعبيّته وسط جنوده… بالطّبع كانت معضلة، لكنّ أحد علماء النّفس فكّر في طريقة تحقّق هذه المعادلة؛ فقد تركهم فى ثلاث حجرات منفردة، وفي كلّ يوم كان يسرّب لهم أخبارًا عن ألوان جديدة من التّعذيب تنتظرهم .. بالفعل لم يناموا رعبًا وهلعًا، وفي النّهاية مات منهم اثنان خلال أسبوع، والآخر كانت حالته خطيرة.. وهذا يبيّن لنا أنّ الإنسان إذا اهتمّ كثيرًا بما سوف يحدث في المستقبل فلن يعيش طويلاً ليرى هذا، وأرجو أن تقرأ هذه الأبيات للشّاعر الرّوماني "هوراس":
2- الصّحة النّفسيّة هي الطّريق الملكي للصّحة الجسديّة
لقد قال أفلاطون:
(إنّ أكبر أخطاء الأطبّاء أنّهم يحاولون علاج الجسد دون العقل، في حين أنّ الجسد والعقل وجهان لعملة واحدة؛ فلا ينبغي علاج أحد الوجهين على حدة).
وهذا فى القرن الرّابع قبل الميلاد، وهاهو العلم الحديث يثبت صحّة هذه النّظريّة؛ فقد ظهرت أعداد ضخمة من الأمراض النفسجسميّة أو السّيكوسوماتيّة، وهي أمراض تحدث لأسباب نفسيّة مثل قرحة المعدة والاثني عشر وضغط الدّم (الذي يُطلق عليه القاتل الصّامت) والبول السكري، وآلام المفاصل، وضعف المناعة بصفة عامة – وهذه كارثة الكوارث- وخلل في إفرازات الغدّة الدّرقيّة والشّيخوخة المبكرة، وتساقط الشّعر، والضّعف الجنسيّ، وغيرها من الأمراض. التي أثبت العلم الحديث أنّها تنتج عن أسباب نفسيّة…. لكن كيف نستطيع وقاية أنفسنا من هذه المشكلات النّفسيّة القاتلة؟ يمكن تلخيص وسائل الإنقاذ فيما يلي:
أوّلاً: ضرورة تقبّل الذّات كما هي:
لأنّك تلازم نفسك بشكل دائم؛ تستطيع التحلّل من أيّ شيء، وأيّ أحد، لكنّك لاتستطيع التّحرّر من ذاتك؛ فعليك أن تتقبّلها كما هي؛ بخاصّة إذا كانت هناك عيوب لدينا.. وإلاّ سيكون الأمر خطيرًا. مع الوضع في الاعتبار إمكانيّة تطوير الذّات للأحسن في حدود الواقع والممكن، وليس الخيال الجامح؛ لأنّ هذا يؤدّي إلى الفشل، وبالتّالي الشّعور بالإحباط والتّوتّر ممّا يؤدّي إلى خلل وظيفيّ في الجهاز العصبيّ.
ثانيًا: تفانَ في خدمة الآخرين:
اكتشف علماء النّفس أنّ النّاس الأقرب إلى الصّحة هم الأشخاص الذين يتفانون في خدمة الآخرين – دون مقابل- كأن يصلح بين الأزواج، أو يساعد النّاس مادّيًّا وعلميًّا، أو يساعد المسكين والمحتاج.
إذا أردت أن تكافح القلق فابحثْ في ذاتك عن الألق (النّور).
وأنا شخصيًّا كانت لي قريبة أُصيبت بالسّرطان فى الثّدي، وكان ينتشر بسرعة مذهلة وهي سيّدة كبيرة بالسّن…. لقد توقّف الأطبّاء طويلاً بالتّأمل أمام هذه الحالة؛ إذ كيف قاوم الجسد النّحيل ذاك المرض الخطير؟
إنّ السّرّ يكمن فى الحالة النّفسيّة السّعادة والإقبال على الحياة، والشّعور بالقيمة، وحبّ النّاس لك، ومدى مساهمتك في إسعاد الآخرين، وفوق هذا كلّه إيمانك العميق بالله. إذن أنت وحدك تستطيع أن تمنح نفسك السّعادة النّفسيّة، و بالتّالي الصّحة والقوّة البدنيّة ليس بالجاه و السّلطان أو المال.
اسمع ماذا قال "نابليون" في منفاه في جزيرة سانت هيلانة:
رغم ما حقّقته من شهرة ومجد وعظمة، إلاّ أنّني لم أذق في حياتي السّعادة الحقّة إلاّ ما يعادل ستّة أيام سويًّا.
بينما (هيلين كيلر) – العمياء، الصّماء، البكماء-قالت:
لقد استمتعت بمباهج الحياة، ونعمت بجمالها. لقد عشت نصف قرن وتوصّلت لشيء واحد: إنّه ما من شيء على الإطلاق يمنحك السّعادة والرّاحة والصّحة إلاّ أنت نفسك!
الكاتب:د. خالد كمال جوهر
موضوع جميل جدا