التصنيفات
منتدى اسلامي

مشاهد الناس فى المعاصى والذنوب

الناس فى البلوى التى تجرى عليهم أحكامها بإرادتهم وشهواتهم متفاوتون- بحسب شهودهم لأَسبابها وغايتها- أَعظم تفاوت. وجماع ذلك ثمانية مشاهد:

أحدها: شهود السبب الموصل إليها، والغاية المطلوبة منها فقط. وهو شهود الحيوانات، إِذ لا تشهد إلا طريق وطرها، وبرد النفس بعد تناولها. وهذا الضرب من الناس ليس بينه وبين الحيوان البهيم فى ذلك فرق إلا بدقيق الحيلة فى الوصول إِليها، وربما زاد غيره من الحيوانات عليه مع تناولها ولذاتها.

المشهد الثانى: من يشهد مع ذلك مجرد [الحكم] القدرى وجريانه عليه، ولا يجوز شهوده ذلك. وربما رأى أن الحقيقة هو توفية هذا المشهد حقه، ولا يتم له ذلك إلا بالفناءِ عن شهود فعله هو جملة، فيشهد الفاعل فيه غيره والمحرك سواه، فلا ينسب إلى نفسه فعلاً ولا يرى لها إساءَة، ويزعم أن هذا هو التحقيق والتوحيد وربما زاد على ذلك أَنه يشهد نفسه مطيعاً من وجه وإِن كان عاصياً من وجه آخر فيقول: أَنا مطيع للإِرادة والمشيئة وإِن كنت عاصياً للأمر، فإِن كان ممن يرى الأَمر تلبيساً وضبطاً للرعاع عن الخبط والحرمان مع حكم الطبيعة الحيوانية فقد رأى نفسه مطيعاً لا عاصياً، كما قال قائلهم فى هذا المعنى:

أصبحت منفعلاً لما يختاره منى ففعلى كله طاعات

وأصحاب المشهد الأول أقرب إلى السلامة من هؤلاءِ وخير منهم. وهذا المشهد بعينه هو المشهد الذى يشهده المشركون عبّاد الأصنام ووقفوا عنده كما قالوا: { لَوْ شَاءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]، وقالوا: {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا ولا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، {وإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقُكُم اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47]، فهذا مشهد من أشرك بالله ورد أَمره، وهو مشهد إبليس الذى انتهى إليه إذ يقول لربه: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِى لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39]، والله أعلم.

المشهد الثالث: مشهد الفعل الكسبى القائم بالعبد فقط ولا يشهد إلا صدوره عنه وقيامه به، ولا يشهد مع ذلك مشيئة الرب له، ولا جريان حكمه القدرى به، ولا عزة الرب فى قضائه ونفوذ أَمره، بل قد فنى بشهود معصيته بذنبه وقبح ما اجترمه عن شهود المشيئة النافذة والقدر السابق: إِما لعدم اتساع قلبه لشهود الأمرين- فقد امتلأ من شهود ذنبه وجرمه وفعله- مع أنه مؤمن بقضاء الرب وقدره، وأن العبد أقل قدراً من أن يحدث فى نفسه ما لم يسبق به مشيئة بارئه وخالقه، وإما لإنكاره القضاءَ والقدر جملة وتنزيهه للرب [تعالى] أن يقدر على العبد شيئاً ثم يلومه عليه، فأما الأول وإن كان مشهده صحيحاً موجباً له أن لا يزال لائماً لنفسه مزرياً عليها ناسباً للذنب والعيب إليها معترفاً بأنه يستحق العقوبة والنكال، وأن الله سبحانه إن عاقبه فهو العادل فيه وأنه هو الظالم لنفسه، وهذا كله حق لا ريب فيه، لكن صاحبه ضعيف مغلوب مع نفسه غير معان عليها، بل هو معها كالمقهور المخذول، فإِنه لم يشهد عزة الرب [تعالي] فى قضائه ونفوذ أمره الكونى ومشيئته وأنه لو شاء لعصمه وحفظه، وأنه لا معصوم إلا من عصمه ولا محفوظ إلا من حفظه، وأنه هو محل لجريان أقضيته وأقداره، مسوق إليها فى سلسلة إرادته وشهوته.

وأن تلك السلسلة طرفها بيد غيره فهو القادر على سوقه فيها إلى ما فيه صلاحه وفلاحه وإلى ما فيه هلاكه وشقاؤه، فهو لغيبته عن هذا المشهد وغلبة شهود المعصية والكسب على قلبه لا يعطى التوحيد حقه ولا الاستعاذة بربه والاستغاثة به والالتجاء إليه والافتقار والتضرع والابتهال حقه، بحيث يشهد سر قوله صلى الله عليه وسلم: "وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ [بعفوك] من عقوبتك، وأعوذ بك منك".

فإنه سبحانه رب كل شيء وخالق كل شيء، والمستعاذ منه واقع بخلقه ومشيئته، ولو شاءَ لم يكن، فالفرار منه إليه والاستعاذة منه به ولا ملجأ منه إلا إليه ولا مهرب منه إلا إليه لا إله إلا هو العزيز الحكيم.

منكر القضاء والقدر- فمخذول محجوب عن شهود التوحيد مصدود عن شهود الحكمة الإلهية، موكول إلى نفسه [فهو] ممنوع عن شهود عزة الرب فى قضائه وكمال مشيئته ونفوذ حكمه وعن شهود عجزه هو وفقره وأنه لا توفيق له إلا بالله، وأنه إن لم يعنه الله فهو مخذول وإن لم يوفقه ويخلق له عزيمة الرشد وفعله فهو عنه ممنوع، فحجابه عن الله غليظ، فإنه لا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق إلى الله أقرب من دوام الافتقار إليه.




خليجية



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.