عندما خطب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أم سلمة رضي الله عنها ـ وكانت معدودة من عاقلات النساء ـ اعتذرت عن القبول لأسباب ثلاثة ذكرتها منها: الغيرة.. وقبلت عندما أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيدعو الله أن يذهب غيرتها.. ومن الطبيعي أن ما تشير إليه أم سلمة هو غيرة غير طبيعية أو زائدة، تدرك هي أن لها أثراً في العلاقة مع الزوج.. ولم تكن هي رضي الله عنها لتقبل أن ينال النبي صلى الله عليه وسلم منها أذى فتدخل النار!! ودليل كونها غيرة غير طبيعية أن النبي صلى الله عليه وسلم وعدها أن يدعو الله لها أن يذهب غيرتها، كما أن الغيرة في حدودها الطبيعية كانت موجودة عند زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أو بعضهن على الأقل.
أخواتي الكريمات: إن الغيرة عندما تتجاوز حدودها الطبيعية تنعكس سلباً على ، ومن ثم على الحياة الزوجية.. ف قد تزداد غيرتها من فرط حبها لزوجها، وخوفها من أن تتحول (بوصلة) قلبه إلى غيرها فتتكوّن لديها حساسية مفرطة تحسب من أجلها على زوجها نظرات عينيه، بل وربما (خطرات) قلبه، حين تسأله في لحظة استغراق وصمت: هاه.. فيم تفكر؟!! والزوج قد يكون محباً لزوجته معجباً بها، تملأ (قلبه) قبل (عينه).. لكن انعكاس غيرتها على سلوكها قد يبدأ مشروع (اقتلاع) أشجار ذلك الحب من القلب! إذ تتحول الزوجة حينذاك إلى (شرطي) يطارد، و(محقق) يحاكم.. وستتحول (كثير) من سلوكيات الزوج إلى (قضايا)، وستحال إلى (ملف) تحقيق.. لماذا تأخرت عن الموعد الذي قلت إنك سترجع فيه؟ هل استغرق مرورك على (….) كل هذا الوقت؟ قل لي بصدق أين توجهت بعد خروجك من زميلك الذي زعمت أنك ذهبت إليه؟! هل حضر معكم أحد؟ ماذا كان موضوع الحديث؟! حين اتصلت عليك وجدت هاتفك مشغولاً.. من كنت تحادث؟ اتصلت عليك مرة أخرى وكان مشغولاً أيضاً، هل كل هذا الوقت كنت تحادث زميلك في العمل؟! حين كنت راجعاً هل كنت تتلفت كما كنت تتلفت وأنا معك؟! يبدو أنك أخذت راحتك أكثر.. إذ لم أكن معك لأراقبك!!
وبالطبع فإن الزوج في هذه الحالة سيحاول تلافي (مطارداتها) له، مراعاة لنفسيتها ومحاولة للمحافظة على جو الهدوء بينه وبينها!! لكنها ـ بسبب الغيرة ـ (مولعة) بالمطاردة، فإذا بها يذهب بها الشك في كل أحواله لأن الشك هو الأصل في حياتها!
لقد وقفت على شكاوى أزواج يبدون إعجابهم بزوجاتهم وحبهم لهن، لكنهم يشعرون أن العيش معهن يبدو مستحيلاً، إذ إن (نار) الغيرة المتقدة بدأت تدفع بذلك الحب والإعجاب إلى (التبخّر).. ووصل الحال ببعضهم إلى أن يفك (أسر) نفسه من ذلك الحب المزعوم ولو بالطلاق!
إن الغيرة (احتراق) لداخل نفس الإنسان لا يلبث أن يظهر على خارجه! ولكم أن تتصوروا غرفة محترقة قد نفذت الأدخنة منها إلى الخارج فلوّثته.. فكل امرأة تحب زوجها جداً وإلاّ لم تبقَ معه! وقد يكون فيه ما يسخطها أو يكدر عليها (حبها)، لكن ذلك لا يعني أبداً كرهه إلا ربما لمدة قصيرة يكون العقل سافرا فيها بفعل شدة الغضب!! وهذه معفوّ عنها.
أختي الكريمة: من حقك أن تأسري زوجكِ ـ الذي تحبينه كثيراً -.. بل إن الزوجة المثالية ـ كما يقول أحدهم لعبد الملك بن مروان ـ هي التي يقول أهل الزوج: قد سحرته!!.. لكن ذلك السحر ـ وهو ما أريده بالأسر ـ يأتي عن تفكير جاد وفهم لنفسية الزوج، ثم العمل على أن تكون الزوجة ملء عينه وقلبه.. لقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم أسس مواصفات ذلك الأسر والسحر حين قال: (التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، وتحفظه في نفسها وماله). إن السحر يكون بالكلمة الرائعة، والنظرة المكتنزة بالمعنى، والتصرف الذي يعكس بقوة عمق المكان والمكانة في الداخل.
وبعض الأزواج الطيبين لا يواجهون (عاصفة) انفعال زوجاتهن الغيورات بـ (إعصار) انفعالي ـ كما يفعل الكثيرون، وإنما يطلب منها ـ بهدوء ـ (الهدوء)!، ويوجهها وهو محق إلى أن النصح لا يكون بالانفعال ورفع الصوت. فتظن الزوجة ضعفه وتتمادى في ملاحقتها له، حتى يضجر منها ويسيطر عليه الرغبة في الانعتاق مهما كانت النتائج.
إن الزوجة العاقلة هي التي تدرك مشكلتها، وتحددها بطريقة جيدة، وهي من خلال معايشتها للمشكلة تدرك السلبياتالضخمة على كل المستويات التي تنجم عن هذه الغيرة الزائدة.. ولعل هذا ما يجعلها تسارع إلى (اتخاذ) قرار بالانسحاب لأنها مهما فرضت من الحصار على زوجها، ومهما أمعنت في المطاردة (حتى لنظراته) سيخترق ـ حين يريد ـ كل (سياجاتها) الأمنية!!، وسيجد كل الأجوبة التي يخرج بها من (جلسات) التحقيق التي تعقدها له كل لحظة!!
لكنها حين تضع مجهودها في تأسيس العلاقة القوية بينها وبينه وتعزيزها بكل سبيل, وتمنحه الثقة كما تريد أن يمنحها إياها فإنه سيكون حينذاك مندفعاً نفسياً وسلوكياً إلى تجنّب ما يرى أنها لا ترتاح إليه.. أشعريه بالحب بالكلمة والنظرة والسلوك..
فكّي (الحصار) عنه.. واسحبي (قوّاتك) إلى أمور أجدى قد تكون أضعتِها في (حملة) المطاردة التي (تستنزفك) وقتاً وجهداً ونفساً وذهناً وجسداً!!.. غيّري (استراتيجيتك) من (الهجوم) إلى (الاحتواء)!! ربما وجدت صعوبة في الانسحاب.. لكن قرارك القوي سيجعلك (تنفّذين) الانسحاب ولو بالتقسيط لأن التقدم والمضي والاستمرار في ذلك الاتجاه معناه (الإنهاء) لحياتك الزوجية، و(التدمير) لحياتك النفسية.
أخيراً.. لو (تقمّصت) شخصية زوجك وتصورت مدى أثر سلوكك المدفوع بالغيرة عليه لهالك الأمر! وأذكر لك كم يعاني عدد من النساء ـ اطلعت على مشكلاتهن ـ من (مآسٍ) بسبب (غيرة) أزواجهن المفرطة!.. ولم ينهِ معاناة البعض منهن إلا (الهروب) من (جحيم) الزوج ولو (بدون أولاد) لأن الحياة باتت لا تطاق في ظل الحصار الذي يخنق الأنفاس، والتهم التي تحطم النفوس!!
أسأل الله أن يعين من ابتلي بهذا البلاء على الخروج من (نفقه) المظلم إلى صلاح البال ونور الهداية.
تسلمى للمجهود يا سكر