• أما ترى سؤالك هذا جاء متأخراً ؟
• المعذرة يا أخي إن كنت قد قصرت في حقك ، لكني تعودت ألا أستعجل في الاستفهام عما يجول في خاطر أخي من هم أو غم ، لربما أحرجته بسؤالي هذا ، فالنفس قد تتحمل سراً لا يحب صاحبه البوح به ، فتترجم فصوله على تقاسيم الوجه وملامحه .
• وهل تظن أن كل الناس يستطيع أن يستشف تلك المعاني من نظرته لأخيه ، إن مغموماً أو مسرورا ؟
• بالطبع كلا.
• إذن من هو الذي يستطيع ذلك ؟
• إما أن يكون زوجاً محباً ، أو خلاً وفيّا .
• أنت تعلم يا أخي أن لك منزلة الخلة في قلبي ، ولقد كنت أنتظر اللحظة التي تفتح فيها لي قلبك لتخفف من همي ولوعتي .
• أشكرك على ثقتك بي ، وإليك العذر مرة أخرى ، والآن أخبرني ما بك ؛ فلقد شغلت خاطري .
• أخبرني أنت ما حال رجل أتى من عمله يوماً مثقل الفكر ، متعب البدن ، قد أخذ منه الجهد كل مأخذ ، حتى أتى باب بيته ، فتناول المفتاح بكل ثقة وبدون تردد أنه سيفتح له بابه ، حتى ما إذا أداره يرتجي منه أن يدير له تعبه إلى راحة وهناء ، إذا به يأبى ذلك ، وهو يصرّ عليه أن يفتح ، وذاك يصرّ على عدم تلبية أمره ، وقد يصل به الإجهاد الفكري والبدني إلى عدم الاسترسال في المحاولة فيصل الحلم إلى منتهاه ، ويغادر الرفق عقله،عندها يحيل المفتاح إلى قطعتين إحداهما في القفل والأخرى في يده ، هل استوعبت الموقف ؟ إن كان الأمر كذلك فهيا أخبرني ما رأيك في تصرفه .
• إن رحى الموقف تدور على مدى تحمله للزمن الذي يعايشه أثناء محاولته لفتح باب سعادته ، فقد يكون ربيعاً مورقاً ، وقد يكون صيفاً محرقاً ، أو ..
• هنا حسبك ، فزمني يا صاحبي صيف محرق كما ذكرت .
• ليس الصيف لك وحدك ، بل كلنا يعيشه ، ولولا وهج الصيف ، ما استمتعنا بالربيع .
• وما الشأن فيمن كان صيفه دائماً ؟
• أنت متشائم .
• هل المتشائم من يبذر الحب مراراً ، ويسقيه تكراراً ، يرجو نمو البذرة ، وصلاح الثمرة ، وفي كل مرة يخيب أمله ، وتفشل مساعيه .
• ليست حالك كحاله ، فلقد بذر مراراً ، وسقى تكراراً ، وأنت كسرت المفتاح في موقف واحد ، فلا بيتاً دخلت ، ولا مفتاحاً أبقيت ، أين صبرك وثباتك ، وحلمك ورفقك .
• لا تلمني فقد أجهدني الصبر ، ومللت الانتظار ، فما عاد سكني لي سكنا .
• هذا ما كنت أخشاه ، من أجل مرة واحدة فقط أبى المفتاح أن يسعدك ، تصدر هذا الحكم ، وإني لأظنه جائرا .
• لقد آن الأوان للإفصاح عمّا يكنه صدري ، فلقد عشت عمري أبحث عن السعادة ، وأترقب إطلالة الربيع على أرضي المقفرة ، أحمل الهم فلا أجد من يخفف من حِمله شيئا ، ويتيه في الطريق ، فلا أجد من يدلني على صوابه ، وأعزم على السفر البعيد ، فلا صدراً يعانقني ، يودعني ، ولا نفساً تصاحبني ، فلا تسل بعدها عن تعب الطريق ، ووحشة المسير ، حتى ما إذا أثقلني حمل الهموم ، عدت إلى المنبع الأصيل لأجد فيه ارتوائي بعد العطش ، والسكن بعد الغربة ، ففتحت كتاب الله أقرأه ، فوقعت عيناي على قوله : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، فقلت : سكن فيه مودة ورحمة ؟ هذه بغيتي ، فعزمت ، وعقدت ، ودخلت ، وعشت … ثم مضت الأيام تتلوها الأيام …
• لقد أحسنت اختيار المسكن ، فسبحان من أرشدك ، وأنار بصيرتك ، اللهَ أسأل أن يجعله سكن مودة و رحمة .
• الأمر ليس كما تظن يا أخي ، فلا مودة وجدت ، ولا رحمة لاقيت .
• فاجأتني !
• هل من المودة أن تُلاقى الزوجة زوجها الحنون بجفوة وغلظة ؟ هل من المودة أن تتجاهل ظروف زوجها ، فلا تسعد بسعادته ، ولا تحزن لحزنه ، أم هل من المودة أن تبخل بالابتسامة عليه ، وتجود بها لغيره ، إن أصابها الكرب ألفته حاملاً له بشفقة ، وإن أصابه أدارت له ظهرها وأصمّت لحديثه آذانها ، لا تنشغل لتأخر ، و لا تقلق لسفر ، و لا تفرح لقدوم ، ولا تسعد بهدية ، ولا تشكر لتفانٍ ، ولا تندم على زلة ، ولا تذكر معروفا ، ، ولا تستر عيبا ، شغلت عقلها بالتفاهات ، وقلبها بالغيرة والمنافسات ، وفي ماذا ؟ فيما لا يعود عليها
ولا على زوجها و أولادها بنفع أو فائدة ، تمر ساعات يومي كأمثال الجبال على قلبي ، ويا لسعادتي حينما ينفلق الصبح لتشرق فيه نفسي ، فأعود لعملي أبتغي النجاة ، ومع هذا كله يعاودني الأمل كل مرة ، فأتصور أنني دخلت البيت ، فما أن أدخل حتى تسارع زوجتي الشفوق بمسح حبات العرق عن جبيني ، ثم تشير إلى المكان الذي أعدته لأجلس فيه ؛ فتقدم لي فيه كأس الماء البارد ممزوجاً بأعذب كلمة ، وأجمل همسة ، بها أنسى كل همي ، وأتجاهل كل تعبي …
وفي لحظة الوصول أفاجأ أني كنت أنظر إلى فقاعة صابون غرتني ألوانها ، وهزأ بي تطايرها، حتى إذا التفت يمنة ويسرة لم أجد لهذا الجمال سحرا ، و لا لذاك البهاء لونا ، وأجد نفسي أحملق في مفتاحي ذي القطعتين ، أندب حظي ، وألوم صيفي .
• خفف على نفسك يا رعاك الله ؛فليس غريباً على من أراد فتح قفل لا يملك مفتاحه ، أو يملكه وهو لا يحسن استعماله ألا يفلح في فتحه.
• أنا الذي أصبحت الآن لا أحسن استعمال المفتاح ؟! أنت هكذا دائماً ؛ آتي إليك شاكياً ، فترجع عليّ بالعتاب.
• نحن لا نريد بعد سماع الشكوى أن نبحث عن المخطئ ، بقدر ما نتعرف على سبب الخطأ .
• إن سبب الخطأ واضح لا يحتاج إلى كثير تأمل ، وهو أن المرأة فرّطت في مهمة السكن التي أسندها الله إليها حيث يقول : (( لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا )) ، فمتى ما رأيت الزوج لا يهدأ باله ، ولا يفتر فكره ، و لا يلوي على بيته ، فاعلم أنه فاقد للسكن الذي كان يأمل ، والراحة التي كان يبتغي .
• أما ترى أنك أخذت جزأً من الآية وتركت جزأً آخر ؟
• عجيب !
• نعم ، وإلا فأين سمعك من قول الله تعالى : (( وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ))، فالمودة والرحمة ينبغي أن تكون من الجانبين ، وليس من جانب واحد فقط ، هذا إن أردت أن تصل إلى السكن المؤمل .
• كلامك هذا يحتاج إلى توضيح وتفصيل .
• إن الله سبحانه وتعالى يقول : (( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ))، وليتك تعلم ماذا قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة .
• وما علاقة هذه الآية بحديثنا .
• إن كلام الإمام القرطبي هنا يكفي ويشفي ، يقول رحمه الله : (( إن للزوجات من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن ؛ ولهذا قال ابن عباس: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن أستنزف كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها عليّ ، لأن الله تعالى قال: (( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ))، أي : زينة من غير مأثم ، وعنه أيضا: أي لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن لأزواجهن ، وقيل: إن لهن على أزواجهن ترك مضارتهن كما كان ذلك عليهن لأزواجهن )) إلى آخر كلامه رحمه الله .
• الحق أني لم أتصور أن هذه الآية ستكون ضدي ، وأنها تحمل هذه المعاني كلها !
• لست أنت وحدك الذي يفاجأ بما تحمله هذه الآية من إنصاف في قسم الحقوق الزوجية بين الزوجين ، فالزوج الذي يحب أن تقابله زوجته بابتسامة جميلة ، فليبدأها بها ، والرجل الذي يرغب في سماع الشكر على المعروف ، فليعودها الثناء على ما تبذله من حسن المعاشرة وطيب السكن ، والزوج الذي يفتقر إلى حنان في وقت التعب أو المرض ، فعليه أن يبادلها ذلك في حال تعبها ونصبها ، وقل مثل ذلك في كل أمر يؤلف بين القلوب ، ويجمع الشتات .
• أرجوك .. أنا في حاجة إلى تفصيل أكثر .
• أقصد التزين في الملبس ، والنظافة في البدن ، وعذوبة الكلام ، وغض الطرف عن الزلل ، وحسن الاستقبال ، وجمال التوديع ، والبهجة عند الفرح ، والمواساة عند المصيبة ، والإيثار عند الخصاصة ، والهدية بين الحين والآخر ، وإسقاط الكلفة ، وإبقاء الاحترام ، والاتزان عند بدء الخلاف ،والتودد في آخره ، وحصره في نقطة واحدة دون تشقيقها ، ومحاولة العلاج دون البحث عن الأخطاء أو التذكير بها ، ولتكن هي محل شكواك ، ولتكن أنت محل شكواها ، الشكوى بينكما ملح الحياة ، إن تعدت إلى غيركما صارت حنظلها وغصتها ، المعاشرة رحمة ، والمداعبة مودة ، والستر جميل ، والعفو أجمل ، والتعاون على البر والتقوى سرّ الهناء والسعادة لزوجين صالحين .
• هذا رائع !
• أكثر من ذلك روعة : أن نسمع ، ونفقه ، ثم نطبق .
• فإن طبقت أنا ، فهل تجد أنها تساعدني في ذلك ؟؟
• هذا لا أشك فيه ، إلا من كتب الله عليه الشقاوة ، فلا أنا ولا أنت يستطيع أن يسعده ، غير أن المعاشرة بالمعروف دين ينبغي أن نتعلمه ، ونعلمه الناس ، والأقربون أولى بالمعروف .
• هل ترى أن ما ذكرته لي حل لمعضلتي ؟
• أرجو ذلك .
• إذاً أخطأ ذلك الرجل حينما كسر المفتاح ؟
• نعم أخطأ ، وقد يصيب غيره بكسره ؟
• هذا لغز !!
• يقول الرسول صلى الله عليه وسلم 🙁 إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ ، فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا ، اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا ).
• لقد فهمت منك أن الحياة الزوجية يعتريها الخلاف والنزاع ، والسآمة والضجر ، لكن هذه الأمور أدواء لها دواء ، وقد تداوى أحياناً بالطلاق .
• لكنه آخر الدواء ، وقد تكفل الله تعالى بوضع ثلاثة حلول قبله فقال : ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا)).
• الآن أدركت أمرين .
• ما هما ؟
• أنه لابد للزوجين من ثقافة زوجية شرعية عميقة ، بها يبنيان بيتهما ، وعلى أساسها يحافظان عليه .
• والثاني ؟
• أن على الزوجين أن يعلما علم اليقين أن الحياة التي كانت تدور فصول قصتها في أذهانهما قبل الزواج لا يمكن أن تقع كما تخيلا ، فلن يأتي الزوج على حصان طائر أبيض ليخطف الفتاة ثم يحلق بها إلى القمر ، ولن تكون الزوجة حورية من الجنة ، وإنما جميعنا يعتريه النقص والخطأ ، والسعيد منا من توخى طريق السعادة لا من تنكب عنها .
كلام رااائع كروعة روحك
نورتوني بجد