لنتأمل هذه الآية الكريمة.. وما تحمله بين ثناياها من معنى ومنهج للحياة الزوجية؛ فهي توضح لنا قوام العلاقة الزوجية، والتي تقوم على التفاهم والرحمة والمودة، و هي علاقة ليست من طرف واحد، وإنما من الطرفين معاً.. فيجب عليهما شحن هذه العلاقة باستمرار بشحنة من العواطف والمودة ودفء المشاعر الحميمة المتبادلة بينهما.. هكذا يتكامل المعنى في علاقة السكن التي جاء ذكرها في الآية..
فالعلاقة الزوجية من أسمى العلاقات بين البشر، وعليها يقوم بناء مجتمع كله، وبمدى التواصل بين الزوجين وصحته ونجاحه.. وبمدى الاختلال والاضطراب العاطفي والزواجي بينهما. .تُقاس نسبة النجاح والفشل في هذه العلاقة. وقد سن الله تعالى ووضع الأسس لهذه العلاقة.
والمودة في القاموس اللغوي تعنى (المحبة).. أي الحب بكل ما يحمله الحرفان من معانٍ جميلة.. تترجمها التصرفات والتعاملات الحياتية بين الزوجين على مدار رحلتهما الزوجية.. من ودٍّ وبشاشة وتواضع وصفاء واحترام متبادل ..الخ.
والسكن.. معناه هنا هو كل ما سكنت إليه النفس، واستأنست به.. وعندما أشار الله تعالى في الآية بقوله (أنفسكم) أي أن آدم وحواء من كيان واحد.. فمنه خُلقت، ولذلك يظل الطرفان في حالة شوق لبعضهما البعض..
ولكن في بعض العلاقات الزوجية -وحينما يتوقف أحد الزوجين عن أداء دوره الإيجابي في هذه العلاقة- يقع النشاز باللحن، وتصبح هذه العلاقة معزوفة مملة لكلا الطرفين، وتبدأ الأوتار في التمزق، وتضيع أبجديات المعزوفة الزوجية، وربما أتت معزوفة أخرى بلحن جديد أكثر طرباً لتحل محل المعزوفة النشاز هذه.. فعلاقة السكن والتآلف الزوجي تحتاج لشحن متواصل من المشاعر بكل صورها الحسية والمادية.. وإلاّ اهتزت وانهارت هذه العلاقة..
في بداية الزواج شحنة العواطف تكون شديدة التوهج.. والرومانسية طاغية.. ولكن بمرور الوقت يفتر الحب، وتغادر الرومانسية الديار ربما مستأنسة أو ساكنة دياراً غير الديار..
ويتسرب أيضاً الفتور والبرود للعلاقة الحميمية الزوجية بين الزوجين، فيصيبها التوتر والبرود، وتصبح عملية حيوانية وظيفية روتينية بحتة.. وربما يرجع ذلك لضعف الرغبة المتبادلة بين الزوجين ببعضهما البعض..
فيقع الطرفان فريسة لشرك الإهمال وسلبية التعامل، وقد يكون ذلك من البداية نابعاً من أحد الطرفين فقط، ولكن -و بمرور الوقت- يتسرب للطرف الآخر نتيجة برود المشاعر التي يجدها لديه..
وذلك يأتي بنا للسؤال ..هل يموت الحب؟!
بداية الحب..البعض يعرفه على أنه مزيج من المشاعر المختلطة من الانفعال والإعجاب بالآخر، بما فيه من صفات مثالية تلقى القبول والإعجاب بها، فتنتقل من الشعور بالإعجاب إلى الشعور بالراحة والسكن لهذا الآخر..
والحب بمعناه الطبيعي لا يموت أبداً. وهذا برأيي المتواضع.. الحب موجود داخلنا، ولكن ربما يكسوه في بعض الأحيان بعض الصدأ، وتغلفه سحابات الصمت… و مشاغل الحياة ترسل به للعناية المركزة، ويصبح في حالة احتضار..
ولكن من يتأمل.. ما يحدث بين أي زوجين كان الحب يوماً ما يسكنهما، وبصدق وليس بزيف مشاعر.. نرى أنه مهما كُبتت وغلّفت هذه الأحاسيس بسكون الأيام وبرودة الليالي ومتغيرات الزمن، يظهر هذا الحب عند أول كبوة يتعرض لها أحد الزوجين.. فلو مرض الزوج.. فستجد أن أول من ستجري، وتحاول الاطمئنان عليه زوجته التي أهملها يوماً.. والعكس صحيح أيضاً.. سيظل الزوج بجوار زوجته حتى تمر من أزمتها ..ويذهب أي خلاف خلف جزر النسيان.. وتنفك عقدة الألسنة وعصيان القلوب المؤقت.
هنا أستطيع القول بأن ما يحدث بين الزوجين من خرس عاطفي ليس موتاً للحب.. بقدر ما هو نوع من البرود العاطفي..
قد تكون أحد أسبابه: فتور مزمن أو مؤقت للعلاقة بينهما.. تباين الاهتمامات بين الزوجين، والتباين الثقافي والاجتماعي والفكري وقولبة الرجل لزوجته في إطار المتعة الحسية والجسدية المؤقتة فقط.
وقد يكون هناك صمت زوجي مرضي.. كأن يكون أحدهما يمر بحالة اكتئاب مؤقتة فعلى الطرف الآخر المحاولة المستمرة لإخراجه من هذا الجو ..إلى أن يتم له التوفيق من عند الله..
وهناك الجمود العاطفي والذي يكون من حالة التعود على الآخر واعتياد وجوده؛ فالحياة أصبحت نمط روتيني مقولب.. فقد حفظ كل منهما الآخر، وأصبح الرمز يحل مكان الحرف..
فالعين واليد والبسمة تحل محل الحرف.. وذلك يكون ناتجاً من طول مدة الزواج (العشرة)، فعرف كل منهما أبجديات الآخر، فيقل الكلام، وتُستبدل مساحته بمعانٍ ووسائل أخرى.. ولكن لا بد من القول بأنه لا بديل عن الكلمة في أي حال من الأحوال..
فالأذن تتوق لسماع الكلمة الطيبة، وتؤكدها اللمسة الحانية، وتغلفها النظرة الحالمة.. فتكتمل الصورة، ويتم التفاعل الصحي الصحيح.
ويجب أن نفرق هنا أيضاً بين الصمت المؤقت والمزمن.. فالصمت المؤقت يكون في أوقات الخلافات وهذا شيء حميد.. ويُفضّل ألاّ يطول الصمت.. ولكن يجب المناقشة وتعرية المشكلة تماماً حتى يمكن القضاء على جذورها.. وتُستأنف الحياة الزوجية الطبيعية.
والصمت المستعصي.. يكون بمثابة المسمار الأول في نعش الحياة الزوجية.. هنا يكون القلب قد فقد البوصلة الخاصة به.. فيحتار، ويسير أحياناً بمسارات خاطئة قد تزيد من حالة البرود العاطفي الموجودة لدى الزوج أو الزوجة.. فيصنع حائلاً بينهما، ويحول الحب إلى نفور، ويتحول الزواج من سكن ومودة إلى مباراة من مباريات الضربة القاضية.. وتكون الصعوبة في إمكانية عودة الحب من جديد بينهما.. فقد فقدت العلاقة بينهما صفة الامتنان والمودة..
ولابد من معرفة سبب هذا النفور الذي أدّى إلى هذا الصمت الزوجي بينهما.. فلا بد من جلسة ودية وصافية في مكان مريح ووقت مناسب.. حتى يتم إذابة وتسييل ما علق بالنفوس من تراكمات..
والتذويب للصمت العاطفي لا يكون بإلقاء التهم على الآخر، واللوم وتحميل الخطأ لطرف دون آخر، ولكن يكون بحسن الاستماع والوصول للب المشكلة، والغوص بمعاناة الآخر.. فالحل ليس بمحاكمة طرف لطرف بقدر ما هو بحث عن أسلوب يكون قوامه المودة والرحمة، ويكون هناك استعداد من كلا الطرفين وعقد لنية تجاوز هذا الخرس العاطفي..
والمصارحة بما تضيق به النفس بشكل دوري يقلل من هذا الصمت المذموم.. فالتوافه في الحياة أحياناً تكون أصل جبال الصمت العاطفي في حياتنا..
ويتبقى بعد المصارحة، المشاعر الدفينة المتراكمة في النفس، وما خلّفه الصمت العاطفي هذا من إساءة.. هي لا تزول وتظل في الداخل.. قد تتحول من الشعور إلى اللاشعور، وقد يتم ترحيلها من الوعي إلى اللاوعي.. ولكنها موجودة .. ومهما حاولنا إخفاءها ستبقى جداراً حائلاً، ولو شفافاً بين الزوج وزوجته، إلى أن يجعل الله لها مخرجاً..
قد يكون هناك طريقة للتنفيس عن هذا التراكم الموجود في اللاشعور. .قد تكون طريقة انتقامية، وقد تريح النفس، ولكنها ستقضي على كامل الحياة الزوجية، وستكون رحلة ذهاب بلا إياب.
وهناك طريقة دعانا الله إليها.. في كتابه الكريم، وذُكِرت في محكم آياته، وذكرها لنا رسولنا الكريم .. وهى المسامحة والعفو ..أن تعفو وتغفر لمن أساء إليك لهو الثواب العظيم عند الله، وعندما نتعامل مع الله الخالق.. فنحن ننحي المخلوق جانباً.. أن تسامح الغير من القلب وليس بلسانك فقط.. لهو الكرم بعينه .. والمقدرة الحقة..على تجاوز ما علق بالنفس.. لهو قمة الطهر والإيمان..
وكظم الغيظ والعفو من أفضل الخصال الإنسانية.. وقد قال الله سبحانه وتعالى في محكم آياته: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران:133-134].
وأخيراً.. قد يكون الخرس أو الصمت العاطفي أو الزواجي أحد أهم أسبابه الملل..
فليحاول كل من الطرفين البحث في أهم أسباب هذا الملل، ومحاولة الوصول لطريقة تقضي على هذا الملل، وإن لم يستطع فعليه باستشارة من يثق بهم، والأفضل الذهاب لمختص يزوده بالنصيحة الجادة.. ولكنْ تجنب الأصدقاء العابرين في حياتك، ولا تفضِ بمشاكلك إلاّ لمن تثق به.. وإلاّ وقعت فيما لا تُحمد عقباه.. وسيكون هذا موضوعي القادم..إن شاء الله..
ولكم أرق تحية، وكل المنى بثرثرة عاطفية تروي عطش مشاعركم وما علق بها من جفاف عاطفي..
ولكم تحيتي
:428: