التصنيفات
السيدات و سوالف حريم

صرخت علي قدام الناس وجع! وجع! الله يفشلك يا الرفلة !‎

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حملقت أمي بي وصرخت بقوة..
– بنت!! ما تستحين؟ قومي.. بسرعة!.. ساعدي البنات في وضع العشاء..
شعرت بماء ساخن يصب على رأسي خاصة وأننا أمام زوجات أخوالي وخالاتي كما أن هناك بعض القريبات الأبعد..
قمت بسرعة وأنا أتعثر بطرف تنورتي من شدة الارتباك..
أسرعت للمطبخ وأنا أرتعش من شدة حرجي محاولة أن أخفي مشاعر كثيرة تتضارب داخلي..
كان المطبخ مزدحماً بالخادمات وبنات خالاتي..
أخذت أتساءل عما يمكن أن أفعله.. لكن أحداً لم يجبني..
تناولت طبق (السليق) الكبير من إحدى الخادمات لأحمله نحو السفرة..
كنت أجري بسرعة لأضعه على السفرة حين.. لا أعرف كيف – انزلقت قدمي.. و.. هوب..
وجدت نفسي على الأرض.. وقد طار الصحن ليسقط على الأرضية عن يميني.. واندلق (السليق) على الأرض وتناثر في كل مكان..
تمنيت في تلك اللحظة أن تنشق الأرض وتبتلعني..
تعالى صراخ أمي..
– وجع!.. وجع! .. الله يفشلك يا (الرفلة)!
كانت قدمي ملتفة وتؤلمني بشدة.. لكني تظاهرت بالابتسام وعرقي يتصب.. وضغطت على نفسي بشدة لأقوم بسرعة رغم الألم الشديد وأقفز نحو المطبخ..
أحضرت المنشفة وبدأت أمسح وأنا في قمة الحرج.. بينما أطراف ملابسي متسخة بما تناثر عليها من طعام..
كان كل من في الغرفة ينظر إلي بشيء من شفقة..
أخيراً مسحت خالتي على ظهري بحنان.. وقالت..
– لا بأس يا حبيبتي اتركي الخادمة لتكمل عنك.. أهم شيء أنه لم ينسكب عليك أو يحرقك ولله الحمد..
سحبتني من يدي.. وأنا أرتعش من شدة الحرج..

× × ×

في طفولتي.. كنت أنظر طويلاً لخالتي.. وكيف تعامل بناتها بحنان وحب..
كنت أستلذ بإحضار أي شيء لها فقط لكي أسمع منها كلمة (حبيبتي).. يا سلام ما أجملها.. كنت أنتشي للحظات حين أسمعها غير مصدقة.. وكثيراً ما دعوت الله أن أصبح ابنتها بأية طريقة..
وحين كنت متأثرة بقصص أفلام الكرتون في طفولتي- مثل (ريمي) و(بشّار) وغيره- كنت أعتقد أنه سيأتي اليوم الذي أكتشف فيه أن أمي ليست أمي الحقيقية بل هي خالتي الحنونة أو أم حبيبة أخرى لا زالت تبحث عني!!..
كنت أعامل نفسي كغريبة يتيمة تعيش في هذا البيت.. فلا أحد يهتم بي أو يقول لي كلمة طيبة واحدة.. الكل يصرخ علي.. والكل يعاملني بدونية وبقسوة..
كنت أراقب تصرفات بعض الأمهات مع بناتهن فأشعر بالبون الشاسع..
زوجة عمي كانت تستشير بناتها حتى في اختيار ملابسها هي.. وفي اختيار أثاث بيتهم.. كانت تثق بهن.. وتمنحهن امتيازات نادراً ما أحظى بجزء منها.. كنت أغبطهن لأنها تعاملهن كنساء ناضجات.. وتناقشهن في شتى الأمور..
وحين كنت أرى كيف كانت خالتي تعامل بناتها كنت أعود لغرفتي في الليل وأبدأ في البكاء..
كانت تحنو عليهن.. وتدللهن بأجمل الألقاب.. تمدح مظهرهن.. وطبخهن.. وذوقهن.. وتفن في تعزيز ثقتهن في أنفسهن مقارنة بالآخرين.. وفي كل مجلس كانت تذكر بناتها بالخير..
على العكس من أمي التي ما فتأت تنشر الأخبار عن فشلي وإهمالي مهما فعلت ومهما حاولت إرضاءها.. لقد حطمت ثقتي بنفسي تماماً..

× × ×

حين مضت الأيام والسنون.. نظرت إلى نفسي.. فوجدت أني أصبحت حطام إنسان..
إنسانة ضعيفة الشخصية محطمة جبانة.. ترتجف كلما حادثها أحد.. ترتبك عند أبسط حوار..
حتى شكلي لم أعد أهتم به.. فكلما قمت بتعديل شكلي حسب ما أراه مناسباً.. كانت أمي لي بالمرصاد فهذا لا يناسبك.. وكان من الأفضل لو قمت بذاك.. البسي مثل ابنة فلان.. ومشطي شعرك مثل فلانة..
كنت أتمنى لو أمتلك الحرية لأهتم بنفسي كما أحب لكن لم أكن أستطيع.. فقد كنت أخاف انتقادها وسخريتها بي حين أقوم بأبسط تغيير..
تزايد ضعفي وخوفي بشكل كبير.. كنت أشعر أن الجميع يحتقرني..
حين أجيب على سؤال في المدرسة.. كانت يدي النحيلة ترتجف والعرق يتصب من جبيني بشكل ملفت..
لم يكونوا يعرفون أني لم أتمن يوماً لنفسي أن أكون هكذا.. لكنه شيء أقوى مني يحطمني ويضغط علي بقوة..

× × ×

ذات يوم.. كنت أجلس في الفسحة وحدي كالعادة.. أستند لجدار أصفر مثل وجهي الشاحب وأتناول شطيرتي.. حين مرت من بعيد معلمتي الجديدة أسماء..
كنت أنظر إليها.. ما شاء الله.. إنها شعلة من حماس ونشاط.. هي فتاة لا تكبرني سوى بأعوام بسيطة.. لكنها تفور بالحيوية والنشاط والثقة بالنفس.. لديها خط لتطوير المدرسة وللنهوض بأنشطتها.. كلامها ممتع ودرسها مسلٍ جداً.. في عينيها شعاع سحري .. مزيج من سعادة ومرح وقوة..
حين أنظر لعينيها أشعر بأن شيئاً من سعادة تتسل إلى نفسي.. تجعلني أتمنى أكثر لو لم أكن أنا.. بل شخصية أخرى..
كانت تقفز بخفة بحذائها الرياضي حين مرت بقربي.. فمدت عنقها نحوي بطرافة وقالت بمرح.. (أهلاً يا جميلة..!)
شعرت بصدمة.. وحرج.. من؟.. أنا؟.. جميلة؟..
التفت حولي.. واحمر وجهي خجلاً..
(ممكن مساعدة يا فجر؟.. إذا سمحت؟)
كدت أطير من الفرح.. مساعدة؟ بالتأكيد.. على الأقل ستكون أمتع من الجلوس وحدي على الأرض المغبرة..
قمت من مكاني بخجل.. ومضيت معها نحو المعمل.. كانت تريد مساعدتها في تنسيقه وترتيبه..
صعدت على الكرسي وسحبت إحدى الكراتين فتطاير الغبار منه..
(يا الله!! لا أعرف كيف مر على هذا المعمل عشرات المعلمات في مدرستكم دون أن تفكر إحداهن في ترتيبه وتنظيفه وتنسيق شكله..؟!)
لم يكن لدي ما أستطيع به تبادل الحوار معها..
فسكت بخجل..
أخذت تنزل المزيد من الكراتين وأنا أتناولها منها..
(الترتيب مهم جداً.. لا أستطيع أن أعمل إذا لم تكن غرفتي مرتبة.. كل إنسان يحتاج لترتيب أشيائه ما بين فترة وأخرى..)
أمسكت فوطة مبلة وبدأت تمسح الأرف..
(بل.. يحتاج.. حتى لإعادة ترتيب نفسه ما بين فترة وأخرى.. أليس كذلك؟)
أشارت بيدها لأناولها منظف الزجاج..
(أليس كذلك؟)
ارتبكت وقلت.. (م.. ماذا؟)
(أليس كل إنسان بحاجة لإعادة ترتيب نفسه ما بين فترة وأخرى؟)
(ما الذي تقصدينه يا أستاذة؟)
(ألا تعتقدين أن كل منا بحاجة لأن ينفض الغبار عن نفسه ما بين فترة وأخرى يعيد بناء شخصيته وصقل أفكاره؟)
احمر وجهي قليلاً.. وقلت مختصرة عليها الطريق.. (لا أستطيع..!)
استمرت في التنظيف بنشاط، وقالت بهدوء وبساطة (لماذا؟)..
(لو كانت ظروفك مثل ظروفي لقدرتني)..

أخذت تعيد الكراتين لمكانها بترتيب وتناسق.. ثم جلست وقد أنهكها التعب.. ونظرت إلي بقوة.. وقالت..
(تعتقدين أني ولدت وفي فمي ملعقة من ذهب؟.. أو أني كنت سعيدة في أسرة دافئة؟.. كلا.. إذا كنت تعقدين ذلك فأنت مخطئة!!..
انظري إلي.. لا تكوني ضعيفة وترمي السبب على الآخرين مثل أسرتك وبيئتك..
أنت تستطيعين أن تكوني قوية إذا أردت ذلك..
القوة.. هي شعار المؤمن ورمزه.. القوة التي أقصدها هي العزة.. والمؤمن دوماً مميز بعزته..
لا أحد يستطيع أن يحطمك أو يضعفك إذا اعتقدت أنك قوية بإذن الله وتوكلت على الله..
كوني قوية.. ولا تستسلمي لإغراء الضعف..
لا أحد سيأتي ويجعلك قوية.. أنت فقط من تستطيعين ذلك بإذن الله..)

قلت بتأثر.. (أمي.. إنها أمي يا أستاذة.. إنها تحطمني.. صدقيني.. أنت لا تعرفين..)

ردت بثقة وسرعة..
(مهما كانت شخصية أمك قاسية.. فهذا ليس سبباً للاستسلام.. إنها أمك أولاً وأخيراً.. عليك برها وإرضاؤها وتلين جانبك لها والصبر عليها.. لكن في نفس الوقت.. لا تجعلي قسوتها سبباً لتحطيمك.. كوني أقوى واصمدي وإلا لن تستطيعي العيش طويلاً في هذا العالم القاسي!!
وتذكري دوماً أن ما لا يقتلني.. يتركني أقوى..
كل الآلام والجروح تستطيعين ترويضها وجعلها دافعاً لقوتك وتحملك بإذن الله)..

كنت أسمع كلامها بتأثر عجيب وأنا أخفي دموعي بالنظر للأرض.

(فجر.. انظري إلي.. لا تنظري للأرض.!
فجر!.. أنت إنسانة رائعة فيك الكثير من الصفات الطيبة.. لكنك تدفنين كل ذلك باستسلامك للضعف والخوف والانطواء!)

رن صوت الجرس معلناً انتهاء الفسحة، فبدأت ترتب ما بقي وتجمع الأدوات بسرعة وهي تقول..
(حسناً سأقول لك شيئاً..
إذا كنت تعتقدين أن الأقوياء هم من لم يمروا بظروف قاسية.. فأنا عشت بين أبوين منفصلين.. عشت متنقلة ما بين بيت أبي وجدتي.. هل جربت يوماً شعور ألا تكوني مستقرة في بيت واحد؟
أنا عشت هكذا.. ولن أذكر المزيد من التفاصيل الحزينة.. ويكفي أن تعلمي أني حرمت من رؤية أمي خمسة عشر عاماً.. بل هي التي لم تكن ترغب برؤيتي أصلاً!!..
لكن فقط.. أنا .. لم أرد أن أكون ضعيفة.. لقد قررت أن أصبح قوية ودعوت الله أن أكون كذلك لأساعد غيري)

خرجت معها من المعمل وأنا منبهرة تماماً.. قالت بمرحها المعتاد..
(سنعود لترتيبه مرة أخرى قريباً.. لا بد من إعادة الترتيب ما بين فترة وأخرى.. أليس كذلك)

ابتسمت لها موافقة.. وفي أعماقي شيء رائع يشرق..

**
مجلة حياة العدد ( (59) ربيع أول 1443ه




من اروع ماقرات..
شاكره لك ياعسل موضوعك الرائع




مشكورة ياقلبي



:dancegirl2gv7: مشكورة ع الموضوع الحلو :0139:



طرحتِ .. فأبدعتِ وتميزتِ
ربي يعطيك العافيه غاليتي..
سلمتِ لنا بذائقتك المتألقة
رآآق لي ماختارته أاناملك..
‏‏ودمتِ بجميل عطاءك
خليجية
/




اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.