إنَّ كلَّ إنسانٍ له بيت يكنُّه ويُؤويه، وبيت الإنسان هو المرْآة الوحيدة التي تعْكِس ثقافتَه وأناقتَه، وجمال خلقه وعشرته، وقد ينجح الإنسان في بناء صورةٍ له رائعة خارج إطار المنزل، ويأبَي البيت إلاَّ أن يُخرج الصورة الأصل، والحقيقة البيِّنة، وهذه قضيَّة نكاد نتَّفق عليها بالكلّيَّة، وفي ذات السياق نكاد نتَّفق كذلك على أنَّ عناية الإنسان بالبناء الحسّي بلغتْ ذروتها في هذه الأزْمان، وبات النَّاس يتسابقون تسابُقًا محمومًا نحو صناعة البيوت صناعةً حسّيَّة قد تفوق خيال الإنسان في بعض الأوقات، ونسينا في ظلِّ ذلك أنَّ لهذه البيوت مشاعرَ بِحاجة إلى صناعة وبناء وزينة وعناية، وإلاَّ صارتْ هذه البيوت أحجارًا صلدة لا مكان فيها للقلب، ولا لحظة فيها لقرَّة عين، ولا أدلَّ على ذلك من توسُّع دائرة الطَّلاق بصورة ملحوظة زادت في العام الماضي على أكثر من عشرين ألف حالة.
إنَّ للبيوت مشاعرَ وأحاسيس متى هتفتْ بين جدران ذلك البيت عاشت تلك البيوت أروعَ لحظات الأنس والجمال، ولو كان بناؤُها من صفيح ساخن.
إنَّني كلَّما تأمَّلت سيرة نبيِّنا – صلَّى الله عليه وسلَّم – رأيت مشاعر البيوت وقد بلغ ألَقها وجمالها وأناقتها فوق ما يتصوَّر إنسان، ولم يأخذ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – تلك الفترة ألوانًا يزيِّن بها بيته رغبةً في استِمْرار تلك الحياة الجميلة، وإنَّما أخذ القلوب فنفث فيها مشاعر الحبّ، وطار بها من الأرض ليعانق بها السَّماء.
لقيه عبدالله بن عمْرو بن العاص وقد رأى من خلال صور تعامُل النَّبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – معه أنَّه أحبُّ إنسان إليْه، فسارع ليعرِف الخبر ويستظهر الأمر قائلاً: "مَن أحبُّ النَّاس إليك يا رسولَ الله؟ قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عائشة)).
هذه هي الحقيقة في كامل فصولها، عائشة تملك أسرار القلْب، وتهوي بالقلب في أرْقى مشاعر الحبِّ، أوكبيرٌ على أنثى أن تصِل إلى هذه المنزلة؟! كلا، ورسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – بشرٌ من النَّاس، يُمكن وفي أبسطِ الصُّور أن تأخذ من قلبه أُنثى كعائشة هذا الحظَّ من الحبِّ، ولا غرابةَ على رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وهو يقْذف باسم الأنثى بين النَّاس كأحبِّ إنسانة طافتْ بقلبِه في لحظة من الزَّمن، ومتى كان ذلك عيبًا إلاَّ في عادات الجاهليِّين؟!
ولك أن تتصوَّر أنَّ عائشة – رضِي الله عنْها – سمعتْ بهذا الخبر على ألسنة النَّاس، وأنَّ زوجها يقول بملْء فمِه أمام الملأ أنَّها أحبُّ إنسانة إليه، وأقرب حبيبة إلى قلبه، وألطف اسم يمرُّ على مشاعر قلبه! تُرى ماذا يبقى في مشاعر المرْأة من عواطف؟!
إذًا فلتعلم الأمَّة كلها أنَّ هذه الزَّوجة صغيرة السّنّ قد أخذت بمجامع قلْب أفضل رجُل، ورحلتْ به إلى عالمِ الحبِّ بكلِّ مشاعره، وهناك وقفتْ عليه تسقيه سلسبيل الحياة الكريمة.
لم يكُن النَّبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – زوجًا يُدغْدغ مشاعر هذه المرْأة بهذه الكلِمات فحسب، بل كان الفعل أبلغ، والرسالة أكبر، والواقع أعمق، حين يقعد – صلَّى الله عليْه وسلَّم – مع عائشةَ على وجبة الأكْل، فيراها وقد أخذتِ الإناءَ تشرب منه، فيرقب موْضع فمِها وهي تشرب، فتتسلَّل يداه إلى الإناء من فمِها فيأخُذه ثمَّ يضع فمَه على موضع فمِها، ويشرب يتذوَّق بذلك ريق من يحب، ويراها – رضِي الله عنها – وهي تأكل من العظْم فيرقب موضِع أكلِها، ثم يأخذه من يدِها ويتتبَّع بفمه مواطن فمِها ليأكل على آثارها.
فتصوَّر حجم هذه الرِّسالة من الحبّ كيف تقع على قلب عائشة؟! وكم تحْمل من مشاعر الحب في طيَّاتها؟! أما – والله – كلَّما قرأت هذه الرسالة من الحبِّ التي تلقَّتها عائشة في لحظة من لحظات ذلك العمر، أدركتُ أنَّ صُنَّاع المشاعر هم الَّذين يبنون تاريخ الإنسان كإنسان.
إنَّ هذه اللَّحظة بالذَّات كافية لبناء مستقْبل عريض لهذا البيت، مهْما كانت العوائق والعقبات والمشكلات التي تعترض سيره وطريقه، فكيف إذا قيل لك: إنَّ هذه المشاعر لم تكُن حبيسة لحظة ثمَّ تقف لظرف، وإنَّما كانت تتجدَّد بتجدُّد الأيام في حياة حبيبين.
كان – صلَّى الله عليه وسلَّم – قبل أن يودِّع البيت لا يغادر الباب حتَّى يتوجَّه إلى زوجِه وحبيبتِه عائشة – رضي الله عنها – فيمنحها قبلة الحبِّ رسول الشَّوق من قلبِه إلى وجهها، ثمَّ يخرج بعد ذلك، وهي ممتلئة بأعْظم مشاعر وعواطف تعيش في قلب أنثى، والأبلغ في هذه الرِّسالة أنَّها لم تكن في لحظات الشَّهوة، وفوران عواطف الإنسان للمرأة، كلا، وإنَّما كانت حتَّى في الأوقات التي تبرد فيها تلك المعالم في إنسان، في حال الصوم تَحكي – رضِي الله عنْها – هذه الرِّسالة فتقول: "كان يقبّلني وهو صائم".
كان – صلَّى الله عليه وسلَّم – رسول أمَّة، ورأس ملَّة، وكتاب تاريخ، ومع ذلك كلّه كان زوجًا مثاليًّا للدَّرجة التي يصعب عليْك أن تحيط بوصف اللَّحظات الكبيرة التي يصنعها في قلب من يحب.
فيكفي إذا قيل لك: إن هذه الرسالة قصرت أن تكتُب عن لحظات المزاح وأفراحها ومشاعرها، ليس في بيت عائشة وإنَّما في بيوته كلها، أما إنِّي أقلّ من أن أستشرِف مثل هذه الحياة، وقلمي أقصر من أن يضخَّ حبره في إبراز معالمها، لكنَّني تطاولتُ على بعض الصُّور الَّتي علقت بالقلب وأمسكتْ بالمشاعر وتشبَّثت بالروح، فأبت أن تبرح إلاَّ بعد أن أُعطيها الميثاق في أن أرشَّ عليْها ببعض ما عندي من عِطْر فقط لينثر عبَقها في أعين القرَّاء الكرام.
وأدْعو نفسي وكلَّ زوج يقرأ هذه الصَّفحات: أنَّ مهْما بلغتْ هي أنثى لها مشاعر وعواطف، وقلب يرقص طربًا بذكر الحبّ، وتحتاج من زوجها الكريم أن يدغْدغ تلك المشاعر، ويعْبث في تلك العواطف عبث المحبِّين، وستُريه الأيام كيف يكون البيت حين يُبنى على صروح الحب؟!
منقول
نور الهدى
ام عزوزى
نورتونى