3-أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ
أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ (150 هـ/766 م – 204 هـ/820 م)، أحد أبرز أئمّة أهل السنة والجماعة عبر التاريخ، وصاحب المذهب الشافعي في الفقه الإسلاميّ. كما ويُعَدّ مؤسّس علم أصول الفقه، وأول من وضع كتابًا لإصول الفقه سماه "الرسالة". وهو مجدد الإسلام في القرن الثاني الهجري كما قال بذلك أحمد بن حنبل[1]، كما بشّر به رسول الإسلام محمد في قوله[2]: «لا تسبوا قريشًا فإن عالمها يملأ الأرض علماً» [3]، حيث قال أبو نعيم عبد الملك بن محمد الإسفراييني: لا ينطبق هذا إلا على محمد بن إدريس الشافعي[4].
اسمه ونسبه وعائلته
هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن عباس بن عثمان بن شافع بن سائب بن عبد الله بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان القرشي المطّلبي الشافعي الحجازي المكّي[5]. يلتقي في نسبه مع النبي محمد في عبد مناف بن قصي.
وأما نسبه من جهة أمه، ففيه قولان:
الأول فأن اسمها "فاطمة بنت عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب" كما جزم به سليمان الجمل[6]، * بينما اعتبر الرازي والبيهقي وغيرهما أن هذا القول ضعيف وأن الصواب والأشهر هو القول الثاني وهو أنها امرأة أزدية من الأزد من اليمن [6][7].
أما زوجته فهي "حميدة بنت نافع بن عبسة بن عمرو بن عثمان بن عفان" ومن أولاده منها أبو عثمان محمد بن محمد بن إدريس، وهو الأكبر من ولده وكان قاضيًا بمدينة حلب وله ابن آخر يقال له الحسن بن محمد بن إدريس مات وهو طفل وهو من سريته. وللشافعي من امرأته العثمانية بنتان فاطمة وزينب[6].
مولد ونشأته
ولد الشافعي سنة 150 هـ (وهي السنة التي توفّي فيها أبو حنيفة) في حيّ اليمن في غزة في فلسطين[5][8]، وقيل في عسقلان[9]. مات أبوه وهو صغير فحملته أمه إلى مكة وهو ابن سنتين لئلا يضيع نسبه، فنشأ بها وقرأ القرآن وهو ابن سبع سنين وأقبل على الرمي حتى فاق فيه الأقران وصار يصيب من عشرة أسهم تسعة، ثم أقبل على العربية والشرع فبرع في ذلك وتقدم، ثم حُبب إليه الفقه[5]، فحفظ الموطأ وهو ابن عشر، وأفتى وهو ابن خمس عشرة سنة[4]، يقول عن نفسه: «كنت أنا في الكتاب أسمع المعلّم يلقن الصبي الآية فأحفظها أنا، ولقد كان الصبيان يكتبون ما يُملى عليهم فإلى أن يفرغ المعلّم من الإملاء عليهم قد حفظت جميع ما أملى، فقال لي ذات يوم: ما يحل لي أن آخذ منك شيءًا»[10].
طلبه للعلم وأسفاره
في مكة المكرمة
كان الشافعي في ابتداء أمره يطلب الشعر وأيام العرب والأدب، ولزم قبيلة هذيل في البادية يتعلم كلامها ويأخذ طبعها، وكانت أفصح العرب، فبقي فيهم سبع عشرة سنة يرحل برحيلهم وينزل بنزولهم ويحفظ أشعارهم[10] حتى قال الأصمعي عنه: «صحّحتُ أشعار هُذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس»[8]، فلما رجع إلى مكة جعل الشافعي ينشد الأشعار ويذكر الآداب والأخبار وأيام العرب، فمرّ به رجل من بني عثمان من الزبيريين فقال: «يا أبا عبد الله، عزّ عليّ أن لا يكون مع هذه اللغة وهذه الفصاحة والذكاء فقه، فتكون قد سدت أهل زمانك»[10]، فتأثر الشافعي بكلامه وعزم على التوجه لتعلم الفقه فقرأ على ابن عيينة، ثم جالس مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة (والذي أخذ عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس وعبد الله بن الزبير وغيرهما، عن جماعة من الصحابة، منهم: عمرو بن علي، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وغيرهم[4])، فأخذ عنه الفقه، حتى أذن له بالإفتاء وهو في سن العشرين[8]. كما وقرأ القرآن على إسماعيل بن قسطنطين، عن شبل، عن ابن كثير، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن رسول الله [4]. يقول الشافعي عن نفسه: «أقمت في بطون العرب عشرين سنة أخذ أشعارها ولغاتها، وحفظت القرآن فما علمت أنه مرّ بي حرف إلا وقد علمت المعنى فيه والمراد»[5].
رحلته إلى المدينة المنورة
اشتهر اسم مالك بن أنس في زمن الشافعي وتناقل الناس كتابه الموطأ[11]، فأراد الشافعي أن يرحل إلى المدينة المنورة للأخذ عن مالك العلم، فكان أول ما فعله قبل سفره هو حفظ الموطأ، فحفظه في تسع ليالٍ[10]، ثم قصد بعدها المدينة المنورة وهو يومئذ ابن اثنتي عشرة سنة[9] وقيل: عشرين سنة[8]، فقدم على مالك ومعه توصية من والي مكة إليه، فلما لقيه قال له مالك: «يا محمد، اتق الله واجتنب المعاصي فإنه سيكون لك شأن»[10]، ثم قرأ عليه الموطأ، فأعجب به وبقراءته فلازمه الشافعي حتى وفاة مالك سنة 179 هـ. قال عنه الشافعي: "إذا ذُكر العلماء فمالك النجم، وما أحد أمنّ عليّ من مالك بن أنس. مالك بن أنس معلمي وعنه أخذت العلم"[12]. وفي الوقت نفسه أخذ عن إبراهيم بن سعد الأنصاري، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، ومحمد بن سعيد بن أبي فديك وغيرهم[11].
رحلته إلى اليمن
بعد وفاة مالك بن أنس عاد الشافعي إلى مكة، وصادف قدوم والي اليمن إلى مكة، فطلب من الشافعي أن يذهب معه للعمل في نجران في اليمن، فذهب معه وأصبح والي نجران، فحكم فيهم بالعدل، فوجد معارضة من الناس حتى وشوا به ظلمًا إلى الخليفة هارون الرشيد أنه يريد الخلافة[4]، فأرسل في استدعائه سنة 184 هـ، لكنه لما حضر بين يدي الخليفة في بغدادأحسن الدفاع عن نفسه بلسان عربي مبين، وبحجة ناصعة قوية؛ فأعجب به الخليفة، وأطلق سراحه[11].
رحلته إلى بغداد
بقي الشافعي في بغداد، والتقى بمحمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة فاستفاد منه وأخذ عنه العلم حتى قال: «حملت عن محمد بن الحسن وَقر بعير، ليس فيه إلا سماعي منه»[8]. وقد بقي في ضيافة محمد بن الحسن مدة من الزمن نحو سنتين عاد بعدها إلى مكة[4]. انتقل بعدها الشافعي إلى بغداد وقدمها للمرة الثانية سنة 195 هـ حاملاً كتبًا حاويةً للمناهج والقروع التي استنبطها[8]، فاجتمع به جماعة من العلماء منهم: أحمد بن حنبل، وأبو ثور، والحسين بن علي الكرابيسي، والحارث بن شريح البقال، وأبو عبد الرحمن الشافعي، والزعفراني، وغيرهم[4]. وأخذ يملي هذه الكتب على تلاميذه، فدوّنوا "الرسالة" و"الأمّ"، وقد كتبها تلميذه الزعفراني. وبقي ينشر العلم مدة سنتين، حتى شاع ذكره فسمي بـ "ناصر الحديث"[5]. عاد بعدها إلى مكة، ثم رجع إلى بغداد للمرة الثالثة سنة 198 هـ مكث فيها عدة أشهر.
رحلته إلى مصر
خرج الشافعي من بغداد قاصدا مصر سنة 199 هـ وحين خروجه قيل له: "أتذهب إلى مصر وتتركنا؟" فقال لهم: "هناك الممات". وحينما دخل مصر أقام في الفسطاط واشتغل في طلب العلم وتدريسه، وفي تلك المدة غيّر الشافعي الكثير من اجتهاداته وأملى من جديدٍ كتبه على تلاميذه في الفسطاط مجدِّدًا لآرائه، وقد خالف بعضها وأقرّ أكثرها[8]. وكان رَاويته لهذه الكتب الجديدة هو الربيع بن سليمان المرادي. وصار للشافعي بهذا نوعان من الكتب؛ أحدهما: كتبه التي بالعراق، وهي القديمة، والأخرى بمصر وهي الجديدة. ولهذا قال بعضهم: إنّ له مذهبين: أحدهما قديم، والآخر جديد.
صفة مجالسه
حدث الربيع بن سليمان قال: «كان الشافعي يجلس في حلقته إذا صلى الصبح، فيجيئه أهل القرآن فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا إرتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر، فإذا إرتفع الضحى تفرقوا، وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار، ثم ينصرف، رضي الله عنه». وحدث محمد بن عبد الحكم قال: «ما رأيت مثل الشافعي، كان أصحاب الحديث يجيئون إليه ويعرضون عليه غوامض علم الحديث، وكان يوقفهم على أسرار لم يقفوا عليها فيقومون وهم متعجبون منه، وأصحاب الفقه الموافقون والمخالفون لايقومون إلا وهم مذعنون له، وأصحاب الأدب يعرضون عليه الشعر فيبين لهم معانيه». ويقول الربيع: «قال أصحاب مالك كانوا يفخرون فيقولون إنه يحضر مجلس مالك نحو من ستين معمّمًا، والله لقد عددت في مجلس الشافعي ثلاث مئة معمّم سوى من شذ عني»[5].
مصنفاته
كتاب الأم.
الرسالة في أصول الفقه، وهي أول كتاب صنف في علم أصول الفقه.
اختلاف الحديث.
مسند في الحديث، سمي بـ "مسند الشافعي".
أحكام القرآن.
الناسخ والمنسوخ.
كتاب القسامة]].
كتاب الجزية.
قتال أهل البغي.
سبيل النجاة.
ديوان شعر "ديوان الشافعي"، طبع العديد من الطبعات، منها طبعة بعناية عبد الرحمن المصطاوي، وطبعة بعناية إميل بديع يعقوب، وطبعة بعناية صالح الشاعر.
تلاميذه
تلاميذه كثر، ونذكر منهم الأبرز والأشهر:
من تلاميذه في الحجاز
محمد بن إدريس
[[إبراهيم بن محمد بن العباس بن عثمان بن شافع المطلبي.
موسى بن أبي الجارود المكي المشهور بأبي الوليد.
أبو بكر الحميدي.
من تلاميذه في العراق
أحمد بن حنبل
إبرهيم بن خالد الكلبي أبو ثور.
أبوعلي الحسين بن على بن يزيد الكرابيسي.
محمد بن الحسن بن الصباح الزعفراني أبو علي.
أبو عبد الرحمن احمد بن محمد بن يحيى الأشعري البصري.
من تلاميذه في مصر
أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي
إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني
الربيع بن سليمان المرادي.
الربيع بن سليمان الجيزي.
يونس بن عبد الأعلى الصدفي.
حرملة بن يحيى بن حرملة التجيبي.
محمد بن عبد الله بن عبد الحكم.
فصاحته وشعره
كان الشافعي فصيح اللسان بليغاً، حجّة في لغة العرب ونحوهم، إشتغل بالعربية عشرين سنة مع بلاغته وفصاحته، وبما أنه عربي اللسان والدار والعصر وعاش فترة من الزمن في بني هذيل فكان لذلك أثره على فصاحته وتضلعه في اللغة والأدب والنحو، إضافة إلى دراسته المتواصلة وإطلاعه الواسع حتى أضحى يُرجع إليه في اللغة والنحو. وممن شهد له بذلك:
قال أبو عبيد: كان الشافعي ممن تؤخذ عنه اللغة.
قال أيوب بن سويد: خذوا عن الشافعي اللغة.
قال الأصمعي: صححت أشعار الهذليين على شاب من قريش بمكة يقال له محمد بن أدريس.
قال أحمد بن حنبل: كان الشافعي من أفصح الناس، وكان مالك تعجبه قراءته لأنه كان فصيحاً.
حدث أبو نعيم الإستراباذي، سمعت الربيع يقول: لو رأيت الشافعي وحسن بيانه وفصاحته لعجبت منه ولو أنه ألّف هذه الكتب على عربيته التي كان يتكلم بها معنا في المناظرة لم يقدر على قراءة كتبة لفصاحته وغرائب ألفاظه غير أنه كان في تأليفه يجتهد في أن يوضح للعوام.
من أشعاره
أأنـثـر درا بيـن سـارحـة الـبـهـم
وأنـظـم مـنـثـوراً لراعيـة الغـنـم
لعمري لئن ضيعـت في شر بلدةٍ
فلست مضيعاً فيـهـم غـرر الكـلـم
لـئـن سـهـل الله العزيـــز بلطـفه
وصادفـت أهــلاً للعلـوم وللحـكـم
بثثت مفيــداً واستــفدت ودادهــم
وإلا فـمـكـنــون لـدى ومـكـتـتــم
ومـن منح الجهـال علما أضـاعه
ومـن منـع المستوجبيـن فقد ظلـم
وله أيضا:
اذا المـرء لا يـرعـــاك الا تكـلـفـا
فـدعـه ولا تـكـثــر عـلـيــه الـتـأسـفـا
ففي الناس أبدال وفي الترك راحة
وفـي القلب صـبـر للحبيـب ولو جفـا
فـمــا كـل من تهـواه يهـواك قلبـه
ولا كـل مـن صـافـيـتـه لـك قـد صفـا
إذا لـم يـكن صفـو الـوداد طبيــعة
فـلا خــيــر فـــي ود يــجــئ تـكـلـفـا
ولا خيـر في خـل يخــون خليــلـه
ويــلـقــاه مـن بـعــد الـمـودة بـالجـفـا
ويـنـكـر عـيـشـا قـد تـقـادم عـهـده
ويظهر سراً قد كـان بالأمس قـد خفـا
سلام علـى الدنـيـا إذا لم يـكن بهـا
صديق صدوق صادق الوعد منصفـا
وله أيضاً :
نعيـب زمانـنــا والعيب فيـنـا
وما لزمــاننــا عيب سـوانـا
ونهجو ذا الزمان بغيـر ذنب
ولو نطق الزمـــان لهجـانـا
وليس الذئب يأكل لحـم ذئب
ويأكل بعضنا بعضآً عيـانـا
كما أن له في ذكر آل بيت رسول الله وآله وصحبه:
يا آل بيت رســول الله حبـكـم
فرض مـن الله فـي القران أنزلـه
يكفيكم من عظيم الشأن أنـكـم
من لم يصلي عليكم لا صلاة لـه
وأيضا في حب أهل بيت النبي وآله وصحبه:
لو فتشوا قلبـي لألفـوا بــه
سطــرين قد خُطّا بلا كـاتبِ
العدل والتوحيد في جـانبٍ
وحب أهل البيت في جـانبِ
تواضعه وورعه وعبادته
كان الشافعي مشهوراً بتواضعه، تشهد له بذلك مناظراته ودروسه ومعاشرته لأقرانه ولتلاميذه وللناس. وأما ورعه وعبادته فقد شهد له بهما كل من عاشره استاذا كان أو تلميذا، أو جارا، أو صديقا. ويدل على أنه كان عابداً وروي أنه كان يقسم الليل ثلاثة أجزاء: ثلث للعلم، وثلث للعبادة, وثلث للنوم. قال الربيع: كان الشافعي يختم القرآن في رمضان ستين مرة كل ذلك في الصلاة. وكان البويطي أحد أصحابه يختم القرآن في رمضان في كل يوم مرة. وقال الحسن الكرابيسي: بت مع الشافعي غير ليلة فكان يصلي نحواً من ثلث الليل فما رأيته يزيد على خمسين آية، فإذا أكثر فمائة آية، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه ولجميع المسلمين والمؤمنين، ولا يمر بآية عذاب إلا تعوذ فيها وسأل النجاة لنفسه وللمؤمنين، وكأنما جمع له الرجاء والخوف معاً.
قال أحمد بن يحيى بن الوزير: خرج الشافعي يوماً من سوق القناديل فتبعناه فإذا رجل يسفه على رجل من أهل العلم، فالتفت الشافعي إلينا وقال: "نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به، فإن المستمع شريك القائل، وإن السفيه لينظر إلى أخبث شيء في إنائه فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم ولو ردت كلمة السفيه لسعد رادها كما شقي بها قائلها".
قال الحميدي: خرج الشافعي إلى اليمن مع بعض الولاة فانصرف إلى مكة بعشرة آلاف درهم فضرب له خباء في موضع خارجاً عن مكة فكان الناس يأتونه، فما برح من موضعه ذلك حتى فرقها كلها. وخرج من الحمام مرة فأعطى الحمامي مالاً كثيراً. وسقط سوطه من يده مرة فرفعه إنسان إليه فأعطاه جزاء عليه خمسين ديناراً.
ويدل على قوة زهده وشدة خوفه من الله تعالى واشتغال همته بالآخرة ما روي أنه روى سفيان بن عيينة حديثاً في الرقائق فغشي على الشافعي فقيل له: قد مات، فقال: إن مات فقد مات أفضل زمانه. وروى عبد الله بن محمد البلوي قال: كنت أنا وعمر بن نباتة جلوساً نتذاكر العباد والزهاد فقال لي عمر: ما رأيت أورع ولا أفصح من محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه: خرجت أنا وهو والحارث بن لبيد إلى الصفا وكان الحارث تلميذ الصالح المري فافتتح يقرأ وكان حسن الصوت، فقرأ هذه الآية عليه " هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون " فرأيت الشافعي وقد تغير لونه واقشعر جلده واضطرب اضطراباً شديداً وخر مغشياً عليه فلما أفاق جعل يقول: أعوذ بك من مقام الكاذبين وإعراض الغافلين، اللهم لك خضعت قلوب العارفين وذلت لك رقاب المشتاقين، إلهي هب لي جودك وجللني بسترك واعف عن تقصيري بكرم وجهك. قال: ثم مشى وانصرفنا فلما دخلت بغداد وكان هو بالعراق فقعدت على الشط أتوضأ للصلاة إذ مر بي رجل فقال لي: يا غلام أحسن وضوءك أحسن الله إليك في الدنيا والآخرة، فالتفت فإذا أنا برجل يتبعه جماعة، فأسرعت في وضوئي وجعلت أقفو أثره، فالتفت إلي فقال: هل لك من حاجة؟ فقلت: نعم، تعلمني مما علمك الله شيئاً، فقال لي اعلم أن من صدق الله نجا، ومن أشفق على دينه سلم من الردى، ومن زهد في الدنيا قرت عيناه مما يراه من ثواب الله تعالى غداً، أفلا أزيدك؟ قلت: نعم. قال من كان فيه ثلاث خصال فقد استكمل الإيمان: من أمر بالمعروف وائتمر ونهى عن المنكر وانتهى،، وحافظ على حدود الله تعالى، ألا أزيدك؟ قلت بلى، فقال: كن في الدنيا زاهداً وفي الآخرة راغباً واصدق الله تعالى في جميع أمورك تنج مع الناجين، ثم مضى، فسألت: من هذا؟ فقالوا: هو الشافعي فانظر إلى سقوطه مغشياً عليه ثم إلى وعظه كيف يدل ذلك على زهده وغاية خوفه! ولا يحصل هذا الخوف والزهد إلا من معرفة الله عز وجل فإنه " إنما يخشى الله من عباده العلماء ".
وحدث محمد بن عبد الله المصري قال : كان الشافعي أسخى الناس بما يجد. قال عمرو بن سواد السرجي : كان الشافعي أسخى الناس عن الدنيا والدرهم والطعام، فقال لي الشافعي: أفلست في عمري ثلاث إفلاسات، فكنت أبيع قليلي وكثيري، حتى حلي ابنتي وزوجتي ولم أرهن قط. قال الربيع بن سليمان: كان الشافعي إذا سأله إنسان يحمرّ وجهه حياء من السائل، ويبادر بإعطائه.
من أقواله
حبب إليّ من دنياكم ثلاث: ترك التكلف، وعشرة الخلق بالتلطف، والاقتداء بطريق أهل التصوف[13].
ما ناظرت أحدا فأحببت أن يخطئ، وما في قلبي من علم، إلا وددت أنه عند كل أحد ولا ينسب لي.
كل ما قلت لكم فلم تشهد عليه عقولكم وتقبله وتره حقا فلا تقبلوه، فإن العقل مضطر إلى قبول الحق.
والله ما ناظرت أحدا إلا على النصيحة.
ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلهما إلا هبته وإعتقدت مودته، ولا كابرني على الحق أحد ودافع الحجة إلا سقط من عيني.
أشد الأعمال ثلاثة: الجود من قلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يرجى ويخاف.
والله ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة طرحتها لأن الشبع يثقل البدن، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة.
ما رأيت سميناً أفلح قط.
ما حلفت بالله تعالى لا صادقاً ولا كاذباً قط. (فانظر إلى حرمته وتوقيره لله تعالى، ودلالة ذلك على علمه بجلال الله سبحانه).
سئل الشافعي عن مسألة فسكت، فقيل له: ألا تجيب رحمك الله؟ فقال: حتى أدري الفضل في سكوتي أو في جوابي.
كتب حكيم إلى حكيم: قد أوتيت علماً فلا تدنس علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم بنور علمهم.
من ادعى أنه جمع بين حب الدنيا وحب خالقها في قلبه فقد كذب.
الرياء فتنة عقدها الهوى حيال أبصار قلوب العلماء فنظروا إليها بسوء اختيار النفوس فأحبطت أعمالهم.
شكوت الي وكيع سوء حفظي فأرشدني الي ترك المعاصي….و اخبرني بأن العلم نور. ونور الله لا يهدى لعاصي
قيل عنه
الذهبي، وصفه بأنه: «الإمام، عالم العصر، ناصر الحديث، فقيه المِلَّة»[5].
أحمد بن حنبل: «ما مس أحد محبرة ولا قلماً إلا وللشافعي في عنقه منّة».
أبو نعيم الأصبهاني، وصفه بأنه: «الإمام الكامل العالم العامل ذو الشرف المنيف والخلق الظريف، له السخاء والكرم، وهو الضياء في الظلم، أوضح المشكلات وأفصح عن المعضلات، المنتشر علمه شرقًا وغربًا المستفيض مذهبه برًا وبحرًا، المتبع للسنن والآثار والمقتدي بما اجتمع عليه المهاجرون والأنصار، اقتبس عن الأئمة الأخيار فحدث عنه الأئمة الأحبار».
أبو ثور: «ما رأينا مثل الشافعي ولا هو رأى مثل نفسه»[4].
أبو داود: «ما أعلم للشافعي قط حديثًا خطأ»[15].
الخليفة المأمون بن هارون الرشيد: «لقد خص الله تعالى محمد بن إدريس الشافعي بالورع والعلم والفصاحة والأدب والصلاح والديانة، ولقد سمعت أبي هارون يتوسل إلى الله به والشافعي حيّ يرزق»[10].
ابن عساكر، وصفه بأنه: «إمام عصره وفريد دهره»[10].
وفاته
قبل وفاة الشافعي ظهر فيه مرض البواسير وهو في مصر، وكان يظن أن هذا المرض إنما نشأ بسبب استعماله اللبان الذي كان يستعمله للحفظ، يقول الشافعي: "استعملت اللبان للحفظ فأعقبني صب الدم سنة". وبسبب هذا المرض ما انقطع عنه النزيف، وربما ركب فسال الدم من عقبيه، وكان لا يبرح الطست تحته وفيه لبدة محشوة، وما لقي أحد من السقم مالقي، فال نزيف أنهكه وأعنته. وقد ترك الشافعي في مدة مرضه هذه (أربع سنوات) ما يملا آلاف الورق من العلم، مع وصلة الدروس والابحاث والمناظرات والمطالعات في الليل والنهار. قال الربيع بن سليمان: أقال الشافعي ها هنا أربع سنين، فأملى ألفا وخمسمائة ورقة، وخرج "الأم" ألفي ورقه و"السنين" وأشياء كثيرة، كلها في أربع سنين.
توفّي الشافعي وقت صلاة العشاء ليلة الجمعة بعد أن صلى المغرب، ودفن بعد العصر يوم الجمعة 30 رجب سنة 204 هـ[9]، وقبره في مصر. ولما توفي، حمل على الأعناق من القاهرة في مصر حتى مقبرة بني زهرة، وتُعرف أيضاً بتربة ابن عبد الحكم. وفي معجم الأدباء، دفن غربي الخندق في مقابر قريش، وحوله جماعة من بني زهرة، ومن ولد عبد الرحمن بن عوف الزهري وغيرهم. وقبره مشهور هناك، مجمع عى صحته ينقل الخلف عن السلف في كل عصر إلى وقتنا هذا، وهو البحري من القبور الثلاثة التي تجمعها مصطبة واحدة، غربي الخندق، وبينه وبين المشهد والقبران الآخران اللذان إلى جنب قبر الشافعي، قبر عبد الله بن الحكم المتوفي سنة 214 هـ وقبر ولده عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم المتوفي سنة 257 هـ، ويقول النووي عن قبره:"وقبره بمصر عليه من الجلال، وله من الاحترام ما هو لائق بمنصب ذلك الإمام". وقد أمر صلاح الدين الأيوبي بعمل تابوت خشبي لقبر الشافعي مزخرف مؤرخ عليه سنة 574 هـ واسم الصانع "عبيد أبو المعالي"[16]. كما وقد بُني على قبره قبة جددّها صلاح الدين الأيوبي كُتب عليها[16]:
الشـافعـي إمــام النــاس كلـهـم
في العلم والحلم والعلياء والباس
لـه الإمـامـة في الدنـيـا مسلمة
كـمـا الخـلافــة في أولاد عبــاس
أصحابه خير أصحاب ومذهبه
خير المـذاهب عـنـد الله والنــاس
مصادر
1.^ مناقب الشافعي، تأليف: البيهقي، ص55، مكتبة دار التراث، ط1970، تحقيق: السيد أحمد صقر.
2.^ تبييض الصحيفة في مناقب أبي حنيفة، تأليف: السيوطي، ص11، دار الوعي، ط2007.
3.^ رواه السخاوي في كتابه المقاصد الحسنة عن عبد الله بن مسعود، رقم: 334، وقال فيه: فيه الجارود مجهول والراوي عنه مختلف فيه وله شواهد.
4.^ أ ب ت ث ج ح خ د البداية والنهاية، تأليف: ابن كثير، ج10.
5.^ أ ب ت ث ج ح خ سير أعلام النبلاء، تأليف: الذهبي
6.^ أ ب ت حاشية الجمل على المنهج لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، تأليف: سليمان الجمل، ج1، ص62، دار الفكر العلمية.
7.^ مناقب الشافعي، تأليف: البيهقي، ص86، مكتبة دار التراث، ط1970، تحقيق: السيد أحمد صقر.
8.^ أ ب ت ث ج ح خ أعلام وعلماء قدماء ومعاصرون، تأليف: محمد أبو زهرة، اعتنى به: مجد مكي، ص66-78، دار الفتح، ط2010.
9.^ أ ب ت حلية الأولياء، تأليف: أبو نعيم، ج9، ص63-160.
10.^ أ ب ت ث ج ح خ تاريخ دمشق، تأليف: ابن عساكر، ج51، ص267-323.
11.^ أ ب ت إسلام أون لاين: الشافعي.. ملامح وآثار
12.^ الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء مالك والشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهم، تأليف: أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي، ص23، دار الكتب العلمية
13.^ كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، تأليف: الإمام العجلوني، ج1 ص341.
14.^ موقع مصر الخالدة: ضريح (أو قبة) الإمام الشافعي
15.^ طبقات الشافعية الكبرى، تأليف: تاج الدين السبكي، ج6، ص68.
16.^ أ ب جمعية المشاريع الإسلامية الخيرية: نرجمة الإمام الشافع
************