اشتهر بين الناس ومنذ زمن بعيد، تخصيص شهر رجب لفعل بعض العبادات، وحيث إن مبنى العبادة على التوقيف والمنع من الابتداع في الأصل والوصف، فقد كتب الشيخ سليمان الماجد وفقه الله جواباً على عدة أسئلة متعلقة بهذا الموضوع وبين الصواب فيها ووجهه، وقد رأينا جمع ما كتبه في محل واحد ورفعه في هذه الزاوية لأهمية الموضوع نسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
وقد ناقش الشيخ المسائل الآتية:
أولا: صلاة الرغائب.
لم يثبت في صلاة الرغائب حديث, وما ورد فيها قد كُذب على الرسول صلى الله عليه وسلم, ووضع في القرن الخامس الهجري؛ فلم يكن حديثها, ولا صفتها معروفين في القرون الثلاثة المفضلة.
وحديثها الموضوع بلفظ: رجب شهر الله, وشعبان شهري, ورمضان شهر أمتي, وما من أحد يصوم يوم الخميس أول خميس في رجب, ثم يصلي فيما بين العشاء والعَتَمة يعني ليلة الجمعة ثنتي عشرة ركعة, يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة, و"إنا أنزلناه في ليلة القدر" ثلاث مرات, و"قل هو الله أحد" اثنتي عشرة مرة, يفصل بين كل ركعتين بتسليمة, فإذا فرغ من صلاته صلى عليّ سبعين مرة, ثم يدعو بما شاء.
وقد ذكر الإمام الطرطوشي أن بداية وضعها كان ببيت المقدس, وأول ما حدثت في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة, حيث قدم بيت المقدس رجل من نابلس, يعرف بابن أبي الحمراء, وكان حسن التلاوة, فقام فصلى بها في المسجد الأقصى ثم انتشرت بعده.
ولم يقل بصحة ما رُوي فيها أحد من المحدثين.
وفي "أسنى المطالب" (1/206): (.. ومن البدع المذمومة صلاة الرغائب ثنتا عشرة ركعة بين المغرب, والعشاء ليلة أول جمعة رجب, وصلاة ليلة نصف شعبان مائة ركعة, ولا يغتر بمن ذكرهما).
وسئل الإمام ابن تيمية كما في "الفتاوى" (2/261): عن صلاة الرغائب هل هي مستحبة أم لا ؟ فقال: (هذه الصلاة لم يصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة, ولا التابعين, ولا أئمة المسلمين, ولا رغَّب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا أحد من السلف, ولا الأئمة, ولا ذكروا لهذه الليلة فضيلة تخصها. والحديث المروي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بذلك..).
فعليه فإن فعلها من البدع المحدثة.
ثانيا: صلاة النصف من رجب:
ذُكر في هذه الصلاة حديث مرفوع عن أنس بن مالك بلفظ: من صلى ليلة النصف من رجب, أربع عشرة ركعة, يقرأ في كل ركعة الحمد مرة, وقل هو الله أحد إحدى عشرة مرة, وقل أعوذ برب الناس ثلاث مرات, فإذا فرغ من صلاته صلى عليَّ عشر مرات, ثم يسبح الله ويحمده ويكبره ويهلله ثلاثين مرة, بعث الله إليه ألف ملك, يكتبون له الحسنات, ويغرسون له الأشجار في الفردوس, ومحي عنه كل ذنب أصابه إلى تلك الليلة, ولم يكتب عليه إلا مثلها من القابل, ويكتب له بكل حرف قرأ في هذه الصلاة سبعمائة حسنة, وبني له بكل ركوع وسجود عشرة قصور في الجنة من زبرجد أخضر, وأعطي بكل ركعة عُشر مدائن الجنة وملك يضع يده بين كتفيه فيقول له: استأنف العمل, فقد غفر لك ما تقدم من ذنبك.
قال اللكنوي في "الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة" ص 60: (أخرجه الجوزقاني, وقال ابن الجوزي والسيوطي وابن عراق وغيرهم: موضوع, ورواته مجاهيل).
وقال في "تنزيه الشريعة المرفوعة" (2/76): (.. واتهم ابنُ الجوزي به الجوزقاني).
ولا يقال بأن هذه عبادة يؤجر عليها المسلم؛ وذلك لأن تخصيص العبادة بمكان أو زمان أو عدد دون دليل بدعة في نفسه:
قال الإمام ابن دقيق العيد في كلامه عن دلالة العام على الخاص كما في "إحكام الأحكام" (1/200و201): (.. إن هذه الخصوصيات بالوقت أو بالحال والهيئة, والفعل المخصوص: يحتاج إلى دليل خاص يقتضي استحبابه بخصوصه..).
ورجح رحمه الله أن طلب الدليل الخاص على الشيء المخصوص أصح من إدراج الشيء المخصوص تحت العمومات, ثم استدل بطريقة السلف حين حكموا بالبدعة على أعمال؛ لأنه لم يثبت عندهم فيها دليل. ولم يروا إدراجها تحت العمومات.
وقال الإمام الشاطبي فِي تقرير هذا المعنى كما في "الموافقات" (3/211): ( ومن البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقة: أن يكون أصل العبادة مشروعاً إلا أنها تخرج عن أصل شرعيتها بغير دليل توهماً أنها باقية على أصلها تحت مقتضى الدليل, وذلك بأن يُقيّد إطلاقها بالرأي.. ).
ثالثا: صلاة ليلة المعراج:
ويصليها بعض العوام ليلة السابع والعشرين من رجب؛ لظنهم أن المعراج كان ليلة سبع وعشرين, ولم يُذكر فيها حديث ولا أثر.
والمعراج لم يكن في رجب, وعد أبو شامة المقدسي كونه في هذا الشهر من الكذب وانظر "الباعث" ص232.
ويقال في عدم مشروعية تخصيصها بعبادة ما تقدم من كلامي العز ابن عبد السلام والشاطبي.
رابعا: صيام رجب:
لا يُشرع أن يُخص شهر بشيء دون غيره من الأشهر؛ بل يصوم المرء فيه ما كان يصومه في غيره.
وأما ما يروى في المرفوع: إن في رجب نهراً يقال له رجب ماؤه أشد بياضاً من الثلج وأحلى من العسل من صام يوماً من رجب شرب منه.
فقد قال في "أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب" (1/86): (. . قال ابن الجوزي: لا يصح, وقال الذهبي: باطل ).
وروي في ذلك أحاديث أخرى واهية جداً أو موضوعة. والله أعلم.
خامساً: العمرة في رجب:
لا يشرع أن يخص رجب بأداء العمرة فيه دون غيره من الشهور, وما يٍُسمى بـ "العمرة الرجبية" بدعة منكرة.
وحتى لو ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب فلا يصلح أن يكون ذلك دليلاً على فضل خاص لها في ذلك الشهر؛ إذْ إن الأصل هو وقوعها فيه اتفاقاً لا قصداً وتعبداً, ومن ادعى قصد النبي صلى الله عليه وسلم رجباً بهذه العمرة فعليه الدليل.
وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكرت وقوع عمرته صلى الله عليه وسلم في رجب.
ولا يُعبد الله إلا بما شرع, وقصد الزمان والمكان ضرب من الأمور التوقيفية التي لا يقال بفضلها إلا بدليل خاص, وإلا كانت من البدع المذمومة.
سادساً: العتيرة في رجب.
كانت العرب في الجاهلية يتقربون إلى الله بالذبح في رجب تعظيماً للأشهر الحرم, ورجب أولها, ومضى الأمر على ذلك في الإسلام, ففي الحديث الذي أخرجه أبو داود في "سننه": "يا أيها الناس إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة أتدرون ما العتيرة ؟ هذه التي يقول الناس الرجبية".
وفي "المسند" للإمام أحمد بسند جيد مرفوعاً من حديث عبدالله بن عمرو: "العتيرة حق".
كما ثبت في عدم مشروعيتها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا فرع ولا عتيرة" رواه الشيخان من حديث أبي هريرة.
ولهذا اختلف الفقهاء في مشروعية الذبح في رجب على قولين:
الأول: أنه مشروع, وهذا قول الشافعي.
الثاني: أنه كان مشروعاً ثم نٍسخ بحديث: "لا فرع ولا عتيرة", وهذا قول الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة.
ويؤيد عدم المشروعية ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه ـ وهو صحيح ـ عن نبيشة قال: نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب, فما تأمرنا ؟ قال: "اذبحوا لله في أي شهر كان".
ولو كانت مشروعة في رجب لرد بالإيجاب, ومن المعلوم أن الذبح لله مطلقاً مشروع.
قال ابن حجر: (. . فلم يبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم العتيرة من أصلها, وإنما أبطل خصوص الذبح في شهر رجب ) أهـ.
يقال: هذا موضع النزاع؛ فإذا ثبت بطلان فعلها في خصوص شهر رجب, أو اعتقاد أفضليتها فيه؛ فإن الذبح لله مطلقاً مشروع بهذا الحديث وغيره, ومن قصد رجباً بهذه الذبيحة فقد خالف السنة.
فعليه فإن الصحيح أنها منسوخة؛ فيكون فعلها محرماً؛ لحديث: "لا فرع ولا عتيرة".
ومما يؤيد هذا عدم عمل أهل المدينة على ذلك؛ إذْ لو كان مشروعاً لفعله الصحابة, ونقل إلى من بعدهم؛ حتى تصير في المدينة سنة ظاهرة.