لن يأكل إلا إذا أحس انه محبوب.. د.بوريس سيرولنيك:
هل تعلمين سيدتي، وانت سيدي، ان الطريقة التي تحبان بها صغيركما لها تأثير كبير علي شخصيته؟ وان حنانكما وحنان المحيطين بكما من الامور ضرورية لنموه؟ وهل تعلمين سيدتي، وانت سيدي ان المشاعر الحقيقية تساعد الطفل علي تحقيق الاستقلالية وان المبالغة في الحب او بالاحري الافراط فيه يؤدي الي خلق طفل سلبي ضعيف الشخصية واشياء اخري نستشفها في الاسطر التالية:
لكي يكبر الطفل ينبغي ان يأكل! هذه حقيقية بديهية، ومع ذلك، اذا اردنا ان ينمو الطفل بشكل طبيعي، فينبغي ان نعلم انه يحتاج الي ما هو اكثر من ذلك – فالطفل – كما يوضع الدكتور بوريس سيرولنيك، الطبيب النفساني المختص في دراسة سيكولوجية السلوك – لا يتغذي بالسكريات والدهنيات والهيولات بل بالحب، او بالاحري انه لا يستيطيع ان يأكل الا اذا كان يحب واذا احس انه محبوب.
فالطفل الصغير، يحتاج – من اجل ان يتنبه للحياة، ويحاول اقتحام مغامرة المشي والكلام، واكتشاف العالم.. الي الحنان والمحبة، فالضحكات الصاخبة، والنظرات الخاطفة المتواطئة، وآلاف الحماقات، اي باختصار كل ما يعكس سعادة الطفل الصغير، لا يمكن ان توجد الا في وسط دافئ ومحرض.
ان التجربة الطبيعية – يضيف الدكتور بوريس – تقدم لنا افضل برهنة علي ذلك، ضعوا رضيعا في وسط خال من الحب، وانظروا الي ما سوف يترتب عن ذلك: ستلاحظون انه يذبل شيئا فشيئا. ان السناريو السلوكي للاطفل اليتامي او المتخلي عنهم هو دائما نفس السناريو. ذلك انهم – في مرحلة اولي – يحتجون، ويصرخون، وينادون علي امهاتهم او علي شخص يمكن ان يعوضهم، وبعد ذلك، ينطون علي انفسهم، ويشرعون في البكاء، وفي التأرجح وفي امتصاص اباهيمهم، او حك انوفهم بقطعة قماش، وفي الاخير، اذا طالت فترة الحرمان من الحنان، فان الاطفال يصبحون لا مبالين، ولا يتفاعلون مع المثيرات الغذائية او العاطفية، وهنا نراهم، وبشكل غريب، ينبطحون علي صدورهم، ويرفعون اردافهم الي الأعلي، ويستسلمون للموت. وطبعا، اذا قدمنا لهولاء الاطفال بديلا عاطفيا، في وقت مبكر بما فيه الكفاية لايقاف هذا المسلسل، فانهم يستأنفون نموهم بشكل طبيعي.. .
كيف نحب صغيرنا؟ ما الذي يلتقطه من الخارج؟ وعلي الخصوص، كيف نكون متأكدين من اننا نعطيه كل شيء من أجل ان نجعل منه طفلا سعيدا؟
وكل شيء رهين بمرحلة نموه فالحب لا يمر من نفس القنوات الحواسية، مهما كان عمر الطفل: يوم واحد أو سنة واحدة او عشر سنوات.. في الرحم، في نهاية فترة الحمل، ما يثير الجنين اكثر هو صوت أمه.
وعملية الوضع تمثل صدمة عنيفة بالنسبة للرضيع الذي يتم الدفع به، بعنف، خارج سريره الناعم، الي الهواء البارد الذي يقتحم رئتيه ويؤلمه، والضوء يحرق عينيه، والاصوات فقدت الكثير من اتساقها وبدأت تعتدي علي طبلتي اذنيه.. فعملية الاستيقاظ تكون مرعبة والرضيع التائه في هذا العالم البارد والصاخب والمضيء، يلتقط اولا صوت امه الذي يشعره بالاطمئنان. انه الخيط الذي ينعش فيه ذاكرة السعادة الكاملة. وحتي وان كان يصل اليه في وسط هوائي، اي بشكل اكثر صخبا واكثر حدة، فانه يتعرف عليه من بين كل الاصوات.
وبالنسبة للرضيع الحديث الولادة، فان تعبير الابوين عن حبهما له يتم فقط بواسطة الحواس: سماع كلمات مداعبة، نغمة الكلمات.. الاحساس بالمس، بالقبلة بالهدهدة، استنشاق رائحة الجلد.. انها مجموعة من الاحاسيس، وبنية عاطفية تتشكل مع توالي الايام، وستعمل علي صياغته بشكل كامل.
يبدو الحب مفهوما كونيا، ومع ذلك فانه لا يتم التعبير عنه بالضرورة بنفس الطريقة، في مختلف البلدان.
في الغرب – يقول الدكتور بوريس – تحدث الامهات الحديثات العهد بالانجاب في أعين رضعائهن، بل ان الكثيرات من بينهن لا يشعرن بامومتهن الا في الحظة التي يتبادلن فيها هذه النظرة، وبعضهن يقلن عن رضيعهن (الذي ولد قبل ساعة فقط): لقد لاحظت علي الفور انه قد تعرف عليّ وهذا غير صحيح طبعا! وبشكل تلقائي ينتصبن امامه في حدود المسافة الفيزيولوجية (الطفل الوليد لا يري أبعد من 30 سنتمترا لكي يميز الرضيع بشكل جيد ملامح وجوههن، أما هو فانه يسعد باستكشاف هذا الوجه، وملاحظة العينين المتحركتين الامعتين. وبسرعة شديدة يرد علي مداعبات أمه بايماءة او ابتسامة.. وهكذا ينطلق التواصل بين الطرفين.. اما في الهند – والكلام دائما للدكتور بوريس – فان هناك علي العكس من ذلك، نوع من الرهاب من نظرة العين، اذ لا تستطيع الام ان تنظر الي رضيعها الذكر خشية من العين .. وكلما كانت الأم هناك تحب ابنها أكثر كلما عمدت الي وضع الكحل في عينيه من أجل حمايته بشكل جيد.
ويلاحظ الدكتور بوريس ان الغربين بدورهم لهم طابوهاتهم، كما هو الشأن بالنسبة للرائحة، في حين ان بعض اصحاب الثقافات الاخري، لا يترددون في تشمم الاطفال الرضع، كذلك بالنسبة للمس حتي وان كان الغربيون اليوم أقل ترددا في لمس الاطفال الرضع، من الاجيال السابقة.
ويؤكد الدكتور بوريس اننا لا نستطيع ان نقول بان عدم التحديق في عيني الطفل الرضيع، وعدم مداعبته، ستسبب له افدح الاضرار، الا ان الامر المؤكد هو ان ذلك سوف يؤثر عليه بالضرورة.. فالرجل الهندي، مثلا اذا حدق في عيني امرأة سوف يتولد لديه اعتقاد بانه ينتهك احد الطابوهات (المحرمات).. في حين ان الفرنسي، الذي تعود التحديق في عيني أمه، ثم في عيني صديقاته الصغار، سوف لن يري أي عيب في ذلك، وهكذا، فان الطريقة التي تنقل بها الأم او الاب حبهما، من خلال الحركات والنظرات، ستشكل الطفل، وستخلق له عالما حواسيا يختلف باختلاف الثقافات.. .
كل الامهات لديهن رغبة في ان يكن امهات جيدات الا ان هذا الامر شيء والرغبة في حضن الطفل، وحمايته باي ثمن، وخنقه بالمداعبات.. شيء آخر.
يقول الدكتور بوريس ان الافراط في الحب، هو حب سيء، اما الحب الجيد، فهو ان تعرف كيف تأخذ مسافة تمكن الطفل من ان يتفرد. وبطبيعة الحال ينبغي علينا هنا ان نميز.
فالرضيع يتفتح باتصال مع أمه، ولو كان التنظيم الاجتماعي يستجيب للمتطلبا البيولوجية والبيوعاطفية للطفل، لكانت رخصة الولادة تمتد لستة اشهر.. ولكن بعد مرور هذه الفترة، ينبغي علي الأم ان تصبح مجرد شخص، وان يمكن رضيعها من اكتساب نوع من الاستقلالية واذا قامت بوضعه في سجن عاطفي، فانها تجازف بصنع طفل سلبي وغير حاذق بما فيه الكفاية، فالمفروض ان توفر الأم لصغيرها محيطا للنمو المتجانس، يكون لها فيه دور، وبشكل مبسط، فان الأم هي قاعدة الانطلاق، الطابق الاول للصاروخ الذي سيمكن الطفل من الدخول الي عالم الكبار والانفصال يتيح للطفل فرصة حمل المشعل من أمه.
والحب الجيد للصغير لا يعني ايضا حبه في كل الظروف والاحوال (مهما فعل). ينبغي علي الصغير، بمجرد ان يبدأ في الفهم، ان يكسب محبة المحيطين به لا ينبغي – كما يقول بوريس – ان يشعر بان الجميع مدين له، والا فانه سيتحول الي مستبد صغير، والممنوعات توفر الطمأنينينة والأمان. لاننا في تلك الحظة نقدم للطفل طريقة لاستعمال العالم. ان نقول له انت موجود هنا، اذن سوف نحبك معناه أنه، يمكنه ان يفعل اي شيء، وذلك يؤدي الي اغراقه في عالم مشوه، وفي فوضي عاطفية فمن اجل تحسيس الطفل بالمسئولية، وتمكينه من اكتساب نوع من الاستقلالية، ينبغي ان نقول له بان هناك مكان يجب عليه ان يأخذه.
والاحزان ضرورية لكي يتعلم الطفل كيف يطمئن الي جانب دمية دب او غيرها.. ثم لا ينبغي ان نحدثه عن كل شيء.. في بعض الاوساط يتم توضيح كل شيء ولا يتبقي للطفل اي شيء يتخيله.. وفي الاسر التي لا يقال فيها كل شيء، يصبح كل واحد مصغيا للآخر.
الامهات الواتي يسعين لان يكن كاملات، يخطئن الطريق، لانهن لا يقدمن المشاعر المتناقضة، التي تساعد الطفل علي تحقيق الاستقلالية..
هناك لحظات تكون فيها ماما ظالمة؟ طبعا! هناك فترات تكون فيها مرهقة؟ طبعا! فعلي انا الرضيع ، ان اتعلم انها ليست رهن اشارتي، وانها ليست جبارة (لا تتعب)، وان علي ان ابذل جهدا من اجل اجتذابها، وان آخذ في الاعتبار ما تريده.. وان آخذ مكاني كطفل في الاسرة، ثم في المجتمع! ينبغي ايضا ان يحتفظ الراشدون باسرارهم خاصة الحساسة لكي لا يحرجوا براءة الاطفال.
لكل واحد دوره، وعلي الآباء ان يبدوا كل ما في وسعهم من اجل ان يكونوا في الاستماع لاطفالهم، مثلا يضيف الدكتور بوريس – هناك كلمات لا ينبغي ان يسمعها الاطفال – كلمات مرعبة مثل اذا لم تأكل، فان ماما ستموت او اذا لم تكن ظريفا فان باب سيتركنا الي الابد وهناك ايضا كلمات عادية (بالنسبة للراشدين) قد تجرح الصغار، ومن الافضل ان يتجنب الآباء التلفظ بكلمات لها علاقة بالموت او بالاحساس بالذنب .
واخيرا – يقول الدكتور بوريس – ان رغبة في ان تكون مثالية قد تقودها نحو الكارثة فالافراط في الحب يولد القلق الذي يدفع الام الي القول: اذا كانت الامور لا تسير علي ما يرام، فان المسئولية بالتأكيد ترجع الي..