في شهر أيار (مايو) 2022، توفيت معمرة فلسطينية، من قرية بتير وهي إحدى قرى العرقوب والتي كانت تسمى (عرقوب القدس) وتراجعت التسمية مع الأيام لتصبح فقط قرى العرقوب وهي تضم عدة قرى قريبة من القدس وبيت لحم.
واستوطن هذه القرى قبائل عربية عديدة بعد تحرير صلاح الدين الأيوبي للقدس وتنفيذه لأكبر حملة استيطان عربية في فلسطين، وكان من نصيب بتير، أن استوطن فيها بنو حسن مثلما هو الحال في قرى مجاورة وقريبة تقع على تلال القدس مثل: الولجة والمالحة.
والمثير في هذه القرى وقرى الريف الفلسطيني وحتى المدن الفلسطينية (..وهي بمعظمها بلدات وليست مدنا) أنه رغم تجاورها والتعاون فيما بينها وعلاقات القربى والمصاهرة بين ناسها، إلا أن كل قرية أو بلدة تحتفظ بما يمكن تسميته مميزات محددة من حيث اللهجة والعادات والسلوك اليومي والصفات الفردية والجماعية، أقول ذلك لأشير بسرعة أن ذلك الاختلاف هو نسبي ولكن يمكن ملاحظته والإحساس به وتلمسه لمن يعيش بين هؤلاء السكان.
وبالنسبة لقرية بتير التي فقدت جزءاً كبيراً من أرضها عام 1948م نتيجة لاتفاقيات الهدنة الظالمة بين الحكومات العربية والكيان الصهيوني الناشئ التي أبرمت في جزيرة رودس بعد أن سكتت المدافع في تلك الحرب الكارثة أو النكبة كما يسميها الفلسطينيون، ووقعت بالكامل تحت الاحتلال في حزيران السابع والستين الذي جاء بالنكسة، فإنها عرفت بأبناء نابهين مثل حسن مصطفى الذي ينظر إليه بتقدير ملحوظ بين سكان القرية وهو كاتب وسياسي وشخصية عامة.
وهو من تصدى للجنة ترسيم حدود الهدنة وساعد أهل قريته على الصمود وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرضهم.
ويروي عنه سكان القرية أنه خاطب معن أبو نوار عضو اللجنة الأردنية لترسيم الحدود، والشخصية السياسية الأردنية المعروفة فيما بعد:
-ماذا تفعل؟ هل هي بلادكم حتى تقصوا منها ما تشاؤوون، وتعطونها لليهود؟
إلى هذه القرية تنتمي المعمرة، وهي من عائلة قطوش الكريمة، وتوفيت وكان عمرها 102 عاما، وهي تحتفظ بلياقة ذهنية نسبية كما قيل لي.
وعاشت كل هذه الأعوام لتكون شاهدة على حقب عديدة مرت بها فلسطين ولترى الغرباء يمرون منها أو يمكثون فيها وعاشت النكبات المتتالية والمجازر التي لا تحصى.
وكانت هي نفسها بطلة لإحدى مأثورات القرية التي حفظها الأبناء عن الآباء عن الأجداد.
ويعود ذلك عندما كانت طفلة ووصلت سن الزواج في ذلك الوقت: 12-14 عاما، وتم خطبتها لرجل من قرية الولجة المجاورة (..وهي القرية التي شرد معظم سكانها وما زالت تعيش المعاناة حتى الآن بشكل قاس جدا).
ومثلما كان يحدث في تلك الأعوام، فإنها لم تر العريس المنتظر ولم تجلس معه، حتى جاء اليوم لتنقل من قريتها: بتير، إلى قرية العريس: الولجة، لإقامة العرس وبدء حياة جديدة.
ونقلها أهلها ضمن طقوس العرس الفلسطيني إلى الولجة، وجلست على المنصة بجانب عريسها، واكتشفت البنت الصغيرة أمرا بسيطا ولكنه بالنسبة، لها مزلزلا وهو أن عريسها هذا أعمى..!
ولم تستوعب في عمرها ذاك الموقف: ربما خافت منه أو من المستقبل المنتظر، ومن الصعب معرفة ما دار في ذهن تلك البنت، غير أنها فكرت مليا ولكن سريعا واتخذت قرارا، ربما لم تراجعه حتى مع نفسها.
طلبت من إحدى السيدات أن تقترب منها وقالت لها أنها تريد أن تقضي حاجة، وقضاء الحاجات آنذاك كان يتم في الخلاء أو قرب الجدران الحجرية (السناسل) أو ما شابه.
وذهبت السيدة معها، وانتهزت البنت الفرصة وأطلقت لرجليها العنان ركضا في الوديان والجبال بين القريتين المتجاورتين ووصلت قريتها: بتير، لاهثة خائفة، تعلنها بوضوح وبراءة بأنها لا تريد أن تتزوج "من ذلك الأعمى".
ولم تكن تلك البنت تعلم، أنها تركت أصحاب العرس في مأزق، الذين حاولوا التحايل بطريقة مبتكرة كي يمضي العرس "على خير".
جلب أهل العرس قطة وألبسوها المصاغ الذهبية التي كان يفترض أن تلبسها البنت حتى لا يشعروا العريس الأعمى، أن عروسه هربت ويجرحون كرامته، حتى يجدون حلا لمعضلة الهروب.
وضع أهل العرس القطة مكان العروس الهاربة، ولكن القطة لم تلبث هي الأخرى أن قفزت من مكانها وهربت وفي رقبتها المصاغ الذهبية.
وساد الهرج والمرج العرس ولحقها الناس يبحثون عنها وعن الذهب وهم يرددون:
"يا قطوش الهوش الهوش
البسّة طاحت عالحوش
**
لاقوها يا ولجية
طاحت عالبوبرية".
وقطوش، كما ذكرت، هو اسم عائلة البنت الهاربة و(البسّة)، كما هو معروف الاسم الذي يطلق على القطة باللهجة الفلسطينية ولهجات عربية أخرى أما البوبرية، فهو اسم لمنزل معروف في قرية بتير.
وطغت قصة القطة على الأحداث، وأصبحت هي الحدث، ولأمر ما تحولت إلى قضية داخلية في قرية الولجة، وفي اليوم التالي وبعد صلاة العشاء وقف أحدهم وأعلن من المسجد:
"يا سامعين الصوت، صلوا على النبي، بكرة ستحدث في البلد طوشة كبيرة، والحاضر يعلم الغايب، وتصبح زوجته طالقا من يغيب عن الطوشة".
وفي اليوم التالي تجمع الناس في موقع يسمونه (التشاشرية) وهو الآن محتل ويقع داخل الخط الأخضر، والعجيب أن المستوطنين اليهود الآن يأتون للموقع والمواقع القريبة منه يدنسون القبور ويجرون طقوس تعميد خاصة قرب عيون الماء.
ومن حجارة هذا الموقع بدأت الطوشة، ووصل الضابط الإنجليزي ليفض الطوشة ويعتقل المتسببين بها، فتنطح له رجل يدعى أبو ناجي وقال له: "لا تعتقلوا أي من رجالات البلد، إذا أردتم وقف المشاكل احبسوا المختار".
وهو ما حدث..
ورجع أهل البلد أصحاب وأحباب، وبعد عام أطلق سراح المختار، فعادت المشاكل من جديد، وأصبحت المغناة كالتالي، يهزج بها سكان قريتي الولجة وبتير ونواحي عرقوب القدس:
"بيبسّ بيبسّ بيبسّ
بيبسّ بيبسّ بيبسّ
****
يا قطوش الهوش الهوش
والبسّة طاحت عالحوش
لاقوها يا ولجية
طاحت عالبوبرية
****
ارض البوبرية تراب
من عهد الكنعانية
وحلفت ما ترد الذهبات
إلا تسقوها مية
****
وقف يا مختار وشوف
هالعريس أعمى ومكسوف
صلح العشاير ما يفيد
حتى لو شيخ العبسية
****
جرو الذبايح جرو
وبسرعة حلو القضية
يا محلا ضرب الحجارة
وحجارة التشاشرية القوية
****
حارم وتطلق المرة
من اللي تغيب عشية
يا أبو ناجي قول الصحيح
مختار البلد بلية
****
حطهم يا بيك في الحبس
وان صارت طوشة عليه
وبعد سنة أجا المختار
والطوشة من المغرب للصبحية
****
الله يجازي هالبسة ويخليلنا هالبوبرية
بيبسّ بيبسّ بيبسّ
بيبسّ بيبسّ بيبسّ
**
ومضت الأيام ولم يسأل أحد ماذا حدث للأعمى أو البنت التي كبرت وتزوجت وعمرت وسجلت لها الذاكرة الشعبية، في هذه المغناة التي تتضمن رباعيات جميلة، ذلك الموقف في رفض عريس لم تختاره أو تراه، بينما لم تتوقف المنظومات الشعبية عند ذلك فوجهت نقدا حادا، غير مفتعل، للسلطة المحلية التقليدية المتمثلة هنا بالمختار، وحملته سبب الخلافات بين الناس وعندما تم حبسه لم تحدث مشاكل وفي أول يوم لخروجه حدثت المعركة بين الأهالي واستمرت منذ المساء حتى الصباح.
ومن المفارقات أنني علمت بأن ذلك الزوج المرفوض لم يكن سوى ذلك الشخص الظريف كبير السن الضرير جارنا في مخيم اللجوء: الدهيشة، حيث عاش ما تبقى له من العمر بعد تشرده من أرضه وقريته، وبقي محتفظا بأشياء كثيرة منها خفة ظله، والذي رحل إلى العالم الآخر منذ سنوات طويلة تبدو لي الآن وكأنها موغرة في القدم.