بقلم: م. محمد إلهامي[1]
الهجرة ضرورة شرعية وتاريخيةترى هل كان التأريخ بالهجرة كما جرى في عهد عمر t وحيًا؟ أم كان ثمرة العقل العمري الألمعي الجبار؟ ذلك الذي بلغ من الشفافية والعبقرية أن نزل وحي السماء يوافق رأيه في غير مرة. الحقيقة أن الإجابة غير يقينية، وقد تكون غير مفيدة على المستوى العملي، رغم أن السؤال يمثل إغراء نظريًّا مثيرًا لعقول الفلاسفة والمنظرين؛ لأن ذلك القرار حمل المسلمين -على مدى القرون التالية- لأن يقفوا كل عام أمام حادث الهجرة يتأملونه ويستنطقونه، وفي كل مرة يعطيهم ذات الحدث الواحد دروسًا تبدو بلا نهاية.
(1)
كان قيام الدولة الإسلامية ضرورة شرعية، وضرورة تاريخية أيضًا؛ فعلى المستوى الشرعي كان لا بد لرسالة الله الأخيرة للبشر على هذه الأرض أن تستكمل فصولها لتخبرهم كيف يديرون حياتهم في دولة، وكيف ينظمون لأنفسهم طرق السياسة والإدارة والحرب والقانون، فكان لا بد من وجود صورة للدولة الإسلامية التي هي بمنزلة النموذج الذي يظل يُلهم الناس ويحثهم على الارتفاع لمثاله وتقليده. وهذه صورة لا يستفيد منها المسلمون وحدهم بل هي أيضًا من وسائل الدعوة لكل العالمين، فإن تحقيق الفكرة للنجاح على الأرض يدفع ويُغري من لم يقتنع بالفكرة ذاتها إلى أن يقتنع بها حين يرى آثارها وثمارها.
وذلك قانون تاريخي لا يُجادل فيه، فكل فكرة في التاريخ لم تستطع صناعة دولة مات في مهدها أو في صباها، أو ظلت –في أحسن الأحوال- حلمًا يراود الخيال، وينفر منه الواقعيون، ويطرحه السياسيون والقادة وصناع التاريخ.
فكان لا بد للرسالة الخاتمة أن تُنشئ الدولة لتحقق ثمرة الفكرة، ولتثبت الفكرة أنها عملية قادرة على الحياة وقابلة للتطبيق، بل هي النموذج الأمثل والأنجح من بين كل الأفكار. هذا على مستوى الضرورة الشرعية.
وأمَّا على مستوى الضرورة التاريخية، فيبدو الأمر واضحًا لو حاولنا تخيل مسار التاريخ الإنساني بدون الرسالة الإسلامية، إن الصورة تبدو كارثية بكل الوجوه؛ فإن القفزة الحضارية التي صنعها المسلمون وضعت بصمتها على كل التاريخ الإنساني وعلى مختلف أنشطة السلوك الإنساني، حتى ليبدو المفكر الإنجليزي الكبير مونتجمري وات مذهولاً إذ يقول: "إننا لنجد شيئًا لا يكاد العقل يصدقه، وبالتالي فهو أمر يخلب البَّ، حين نقرأ عن كيف تحوَّلت الحضارات القديمة في الشرق الأوسط إلى حضارة إسلامية"[2]. هذا مع اعتراف المستشرق الإنجليزي الشهير ألفريد جيوم بأن تأثير الحضارة الإسلامية لم تدرك أبعاده بشكل كامل إلى الآن، يقول: "وعندما ترى ضوءَ النهار جميعُ الموادِّ النفيسة المختزنة في مكتبات أوربا، فسيتضح لنا أن التأثير العربي الباقي في الحضارة الوسيطة لهو أعظم بكثير مما عُرِفَ عنه حتى الآن"[3].
(2)
وحيث كانت الدولة الإسلامية ضرورة شرعية وتاريخية، فإن مسار سيرة النبي الكريم كان مسار رجل يبحث عن القلوب ليهديها ويعطيها الإيمان، وكان -في ذات الوقت- مسار رجل يبحث عن الأرض لإقامة الدولة؛ فالمرحلة المكية كانت غرسًا للعقيدة الإسلامية في النفوس، ونشرًا لهذا النوع الجديد من الوعي ولهذه النظرة الجديدة إلى الإنسان والناس والكون وطبيعة الحياة وهدف الوجود.
ولكنها -بزاوية نظر أخرى- كانت أيضًا مرحلة البحث عن الأرض التي تقوم فيها الدولة الإسلامية، ويبدو هذا الهدف (البحث عن أرض لإقامة الدولة) واضحًا في كل خطوات النبي ؛ فمبكرًا جدًّا كان حريصًا على إيمان سادات قريش وكبرائها، وكان حرصه عظيمًا إلى الحد الذي عوتب فيه بقرآن يصفه بأنه "يقتل نفسه" من الغم لعدم إيمانهم، قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6]، {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].
ثم عوتب حين عبس لأعمى شغله عن جلسة مع كبار القوم، فنزل قول الله تعالى: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 5-10].
بل تروى بعض الآثار -وفيها ضعف- أنه همَّ بالاستجابة لطلب سادات قريش بأن يجعلوا لهم مجلسًا غير مجلس العبيد؛ لئلاَّ تسقط بينهم المقامات، فنزل قول الله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52].
ولكن اللافت للنظر، والجدير بالتأمل والاعتبار أنه -وقد واجه إصرارهم على ما هم فيه واستكبارهم عن الإيمان- لم يقعد جالسًا منتظرًا أن يحوِّل الله قلب أحدهم إلى الإيمان، أو منتظرًا تغيُّر الظروف والأحوال وموازين القوى في مكة، بل جدَّ في البحث بعدما بدا أن الأحوال في مكة لا تبشِّر بخير في المدى المنظور.
فكان أن خرج النبي إلى الطائف -وهي القوة المنافسة لقريش في الجزيرة- باحثًا عن هذه الأرض وعن هذه الحماية التي تمكِّنه من الانطلاق في دعوة الناس إلى الإسلام، وحين وُجِه هناك بأقسى مما توقع فأُوذي وأُهين وهو الكريم النسب والخلق وبعد أن تجاوز الخمسين -بأبي وأمي ونفسي!- لم يقعد ولم ينتظر، بل لقد وسَّع دائرة البحث حتى كان يعرض نفسه (وكم توحي هذه العبارة بالحال والإصرار على الهدف! كما توحي بالهوان على الناس) على القبائل في موسم الحج. وكان شعار هذه الفترة معبرًا عن طبيعة الهدف "أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ؛ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلاَمَ رَبِّي"[4].
وذكر أصحاب السِيَر أسماء خمس عشرة قبيلة[5] كلها رفض دعوته، حتى أعثره الله في آخر الأمر على النفر الستة من يثرب، فأيده الله بهم.
وأخيرًا تحقق الهدف، وجدت الأرض التي تستعد لإقامة دولة الفكرة، دولة الإسلام.
وعبر بيعتي العقبة الصغرى والكبرى، وسفارة مصعب بن عمير -الذي جمع بين علم يستوعب به الرسالة ودبلوماسية يستوعب بها الواقع وأهداف المرحلة- تم الإعداد لدولة الإسلام في المدينة، وفي هذه الحظة انتهت المرحلة المكية وبدأت المرحلة المدنية.
(3)
إن مما يلفت النظر هو أن النبي قَبِل بالحد الأدنى من شروط إقامة الدولة في المدينة، وقبل بأدنى درجات الحماية والنصرة، وهي الحماية داخل المدينة فقط[6]؛ في بيعة العقبة الثانية كان النص يقول: "وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم، وتمنعوني مما تمنعون عنه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم"[7]. فعبّر عن الحماية داخل المدينة بلفظ "تمنعوني".
ومن ثَمَّ حين خرج لاعتراض عير لقريش في بدر، فكان أن الله قد قدّر أن يفلت العير، وتصير الثلة القليلة أمام جيش قريش وعن غير استعداد، احتاج النبي إلى ما نستطيع أن نسمِّيه "بيعة جديدة" تشمل بند "القتال والنصرة خارج المدينة"، وهو ما وافق عليه الأنصار على لسان سيدهم سعد بن معاذ.
محمد صلى الله عليه وسلم وهذا دليل آخر يثبت ضعف رواية تفاوض النبي مع بني شيبان، والتي تقول بأنهم قبلوا حمايته فيما يخص جهة العرب، أما من جهة الفرس فإنهم لا يستطيعون، وحينها قال : "إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه"[8].
إن السيرة تثبت أن المرحلة المكية كانت مرحلة غرس العقيدة والإيمان، ولكنها كانت أيضًا -وفي الوقت ذاته- مرحلة البحث عن "استقلال" أو عن "أرض تقوم عليها الدولة".
(4)
فالهجرة تتويج لحركة النبي الفعالة طوال المرحلة المكية، وهو درس ينبغي أن يستوعبه المسلمون، لا سيما القائمين على الإصلاح والنهضة في الأوطان الإسلامية، ولم يعد من المفيد أن يركز كثير من العلماء والدعاة على سبب ضعف التربية وقلة الوعي لدى الشعوب العربية والإسلامية؛ ولذا يسيرون في طريق تكثيف الدروس المعنية بتعليم العقيدة (وفرق كبير بين التعليم النظري والتشرب الروحي)، أو دروس الرقائق والروحانيات.
كثيرًا ما يبدو الغضب والانزعاج على العلماء والدعاة والمربين والقائمين بالإصلاح تجاه وقوع تقصير من الأفراد في الأوراد التعبدية أو في السن والنوافل، أو باتجاه ارتكاب بعض الذنوب وجُلّها من الصغائر. وكثيرًا ما نسمع في وسائل الإعلام خطابًا يُحمِّل الذي يسمع الأغاني أو المتبرجة أو المتعلق بالكرة أو غير المقيم على تلاوة القرآن (وكل هذا مرفوض قطعًا)، مسئولية ما صارت إليه الأمة من الضعف والهوان.
ونرى أن هذا من تحميل الأمور فوق طاقتها، وفي سيرة النبي وطوال المرحلة المكية لم نر أسلوبًا كهذا، وقد أتى خباب بن الأرت t وبدا منه جزع لما لحقه من تعذيب شديد، وكان أن غضب النبي لما بدا من خباب، وقال قولته الشهيرة: "كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَالَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ الَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ"[9].
كما أن عمار بن ياسر وأمه سمية وصهيب والمقداد y لم يتحملوا التعذيب الشديد فنطقوا بكلمة الكفر، كما في حديث ابن مسعود قال: "كان أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد. فأما رسول الله فمنعه الله بعمه أبي طالب. وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه. وأما سائرهم فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلال"[10].
وأتى عمار للنبي حزينًا، فقال له النبي : "ما وراءك؟" قال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير. قال: "كيف تجد قلبك؟" قال: مطمئن بالإيمان. قال: "إن عادوا فعد"[11].
ثم نزل فيه قول الله يستثنيه من العذاب {مَنْ كَفَرَ بِالَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ الَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106].
ولم ير النبي في أزمة الرسالة وقتها أن هذا بسبب أن بعض من أصحابه -كخباب وعمار- لم ينجح في اختبار الثبات والصمود، وبالتالي فتلك الفئة ما زالت في حاجة لمزيد من التربية والاحتضان والرعاية.
لم يعتمد النبي هذا التفسير، ولم يعتبر أن هذا هو سبب تأخر النصر والتمكين، بل تعامل مع الأمر تعامل الطبيب الذي أعطى دواء مرًّا لخباب، ورفض أن يتخلى عن صفة الصبر، وأعطى دواء حلوًا لعمار الذي أكره وقلبه مطمئن بالإيمان. ثم استمر في مسيرته لمعالجة سبب الأزمة الحقيقية وهو عدم "الاستقلال" في أرض تعيش عليها الفكرة الإسلامية في أمان، وفيها تثمر.
(5)
والهجرة درس في البحث عن الحل العملي الواقع، الذي يهتم بتغيير الواقع أكثر مما يهتم ب "الاتهامات الإعلامية" -لو صح التعبير- التي تستطيع التشويش وإثارة المشكلات لمن يهتم لها كثيرًا. وأكاد أتخيل أن الهجرة النبوية لو تسلط عليها إعلام مثل إعلام العصر الحالي، فسيستطيع رميها بكل نقيصة، وحينها ستتحول إلى "الهروب الكبير"، و"التخلي عن مشكلات الوطن"، و"لقد ترك محمد المسلمين الضعاف في مكة يعذبون وذهب ليعيش ملكًا منعمًا في المدينة"، وإنه "يمارس من المدينة جهاد الميكروفونات والمستضعفون في مكة يعذبون". إن "الهروب إلى المدينة دليل على الفشل في مواجهة المشكلات الداخلية"، وهو كذلك "استعانة بالدول الأجنبية"… إلخ.
ستتحول الهجرة المجيدة إلى "خيانة عظمى" لو تسلط عليها مثل إعلام العصر الحالي، الذي يُدار معظمه -سرًّا أو علنًا- من القوى التي تعادي الأمة وتفترسها وتريدها عاجزة ضعيفة بلا جهاد ولا مقاومة ولا ذاتية ولا هوية.
ولا بد من حسن التصرف والتعامل مع الإعلام من قبل العلماء والمجاهدين والقائمين على الإصلاح، وهذا الجانب يحوي خللاً كبيرًا، فلا يكاد يمهر في هذا الجانب من بين الحركات الإسلامية الحالية إلا القليل.
غير أن الأهم من المهارة الإعلامية لدى حركات المقاومة والإصلاح ألاَّ تعيش تحت "القصف الإعلامي المتواصل" لخطواتها وحركاتها ومشاريعها، خصوصًا وأن رضا الناس غاية لا تدرك، فكيف لو كان هؤلاء الناس (الإعلام) -في معظمهم- لا يرضون عن المجاهدين ولا المصلحين إلا أن يتبعوا ملتهم، وهي غربية أو أمريكية أو إسرائيلية؟!
لقد كان الواجب العملي والحل الواقعي أن يهاجر النبي إلى المدينة ثم يعود بجيش يحرر المستضعفين من المسلمين في مكة، لا أن تتوقف الحياة في سبيل "الواجب الأخلاقي الذي يقتضي -على الأقل- مشاركة القائد للمستضعفين الذين يعذبون بسببه في المحنة، لا تركهم في الأسر والبحث عن نعيم الملك في المدينة".
(6)
والهجرة -أيضًا- درس في البحث عن الحل الجوهري، وترك الحلول الجزئية التوفيقية أو التلفيقية التي تعطل المسيرة الإصلاحية وتمتص حماستها وزخمها، وتعمل على حصارها أو تخديرها أو تنويمها.
ويبدو هذا الدرس عظيمًا في كل العصور وأمام كل المشكلات، إلا أنه في "عصر المفاوضات" يبدو أشد عظمة وأكثر إبهارًا، فكم من الثورات التي قامت بها الشعوب العربية والإسلامية دخلت في نفق الحلول التوفيقية! فوضعت على طاولة المفاوضات حتى انتهت وتلاشت.
إن المرء ليتذكر كثيرًا من هذه الثورات بحسرة، كما يتذكر وبحسرة أشد كثيرًا من الخِدَع التي انطلت على مجاهدين وثائرين وإصلاحين حتى اغتالت أحلامهم وأحلام شعوبهم وأتباعهم، والأمثلة كثيرة ولا أشك أن من يتأمل التاريخ والواقع سيخرج بالكثير من هذه الأمثلة.
إن سيرة النبي تخبر أنه لم يرض أبدًا بحل توفيقي طوال مرحلة الاستضعاف، لكنه ربما فاوض وبحث عن حلول وسطى في المرحلة المدنية، وذلك بالرغم من أن هذه الحلول التوفيقية كانت تتسع يومًا بعد يوم، ويزيد فيها الإغراء بعد كل نجاح إسلامي يتحقق.
لقد بدأت منذ أن عُرض عليه أن يعبد إلههم عامًا ويعبدون إلهه عامًا، ولئن كان هذا عرضًا مرفوضًا حتى في وجدان قارئ هذه السطور الآن بعد 1443 سنة، فإن العروض تطورت حتى وصلت إلى ذروتها مع عتبة بن أبي ربيعة "يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت من هذا القول مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تريد شرفًا شرفناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه ولا تستطيع أن ترده عن نفسك، طلبنا لك الطبيب وبذلنا فيه أموالنا حتى يبرئك منه… "[12].
والحقيقة أن هذا العرض بالملك والنفوذ والسيادة لا يزال يبدو مغريًا بعد 1443 سنة، فقط إذا وضع القارئ نفسه مكان النبي محمد المستضعَف في مكة، الحريص على إيمان السادة والكبراء، الباحث عن حماية ونصرة.
غير أنه رفض كل حل يخمد حماسة المؤمنين أو يعكر صفاء الفكرة، وظل يجاهد ويُؤذى ثم يجاهد ويؤذى، حتى أقام الدولة الحق بالحق. ولو أن هذا الدرس وعاه أبناء الأمة لما وجدنا واحدًا يكتب رحلة حياته -التي فشلت- في مذكرات بعنوان "الحياة مفاوضات".
(7)
والهجرة دليل على أن ثمة حلاًّ لكل مشكلة، وإني لأحاول أن أتصور نبي الله يجلس وهو في عمر الخمسين، بعد عشر سنوات من الجهاد والأذى يستعرض كيف قام بالدعوة منذ سنين، وكيف أوذي وكيف عُذِّب هو وأصحابه، وكيف حوصر في شعب أبي طالب حتى كادوا أن يهلكوا من الجوع، ثم كيف ذهب إلى الطائف وعاد منها مُهانًا، ثم كيف يعرض نفسه على القبائل فترده القبائل كلها كأنما دبروا هذا بليل.
ثم أتصوره وهو عازم لم يثنه كل هذا، وما يزال يحاول ويجاهد، ويبحث عن أرض تقله وعن بشر يحمونه، حتى يُظفره الله بنفر الأنصار الذين كانوا بداية النصر والتأيد {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62].
وهنا يكمن الدرس، إن لكل مشكلة حلاًّ، لكن لا يصل إلى هذا الحل إلا من أخذ في البحث والتقصي واجتهد، قد يتعثر مرة ومرات لكنه سيجده. في سيرة النبي كلها لم توجد مشكلة لم يكن ثمة حل لها. وحيث إن النبي قدوة للمسلين جميعًا، فذلك دليل على أن المسلمين قادرون على إيجاد الحل لكل مشكلاتهم لو اقتدوا بالنبي وتعلموا منه .
صحيحٌ، قد يكون الحل صعبًا، وهي صعوبة تبلغ أن يقف النبي ناظرًا خلفه إلى مكة التي يعانقها اليل ويقول دامعًا: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت"[13].
ولكن الذي أعثره على الحل يقول له: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]، وقد حصل ودخل النبي إلى مكة فاتحًا ومتواضعًا. فمن ذا الذي يردُّ أمر الله وهو غالب على أمره؟!
[1] باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية، القاهرة (http://melhamy.tadwen.com).
[2] مونتجمري وات: فضل الإسلام على الحضارة الغربية، ترجمة حسين أحمد أمين، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى – القاهرة، مصر، 1403ه = 1983م، ص19.
[3] ألفريد جيوم: الفلسفة وعلم الكلام، دراسة منشورة في كتاب (تراث الإسلام) بإشراف توماس أرنولد، تعريب جرجيس فتح الله، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية – بيروت، 1972م، ص401.
[4] رواه أبو داود (4734)، والترمذي (2925) وقال: حديث غريب صحيح، وابن ماجه (201)، وأحمد (15229)، والحاكم (4220) وقال: صحيح على شرط الشيخين وافقه الذهبي. وصحه الألباني في التعليق على أصحاب السن، وقال شعيب الأرناءوط في التعليق على مسند أحمد: صحيح على شرط البخاري.
[5] يرجع أصحاب السير في أسماء القبائل وعددها إلى الواقدي، وهو حجة في مثل هذه الأخبار وإن كان متروكًا في الحديث.
[6] د. أكرم ضياء العمري: السيرة النبوية الصحيحة، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة السادسة 1415ه = 1994م، ص358.
[7] رواه أحمد (14496)، وابن حبان (6274)، والحاكم (4251) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد جامع لبيعة العقبة ولم يخرجاه وصحه الذهبي. وقال شعيب الأرناءوط في التعليق على مسند أحمد وصحيح ابن حبان: إسناده صحيح على شرط مسلم. وصحه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (63).
[8] وهي جزء من حديث طويل يحكي قصة دعوة النبي مفصلة مع كل قبيلة. رواه الديلمي (897، 7920)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (5747)، وقال السيوطي في جامع الأحاديث (جمع الجوامع): ابن إسحاق في المبتدأ، والعقيلي في الضعفاء، وأبو نعيم، والبيهقى معًا في الدلائل، والخطيب في المتفق والمفترق، قال العقيلي: ليس لهذا الحديث بطوله وألفاظه أصل، ولا يروى من وجه يثبت إلا شيء يروى في مغازي الواقدي، وغيره مرسل. وضعفه الألباني، انظر: السلسة الضعيفة (6457).
[9] رواه البخاري (3416).
[10] رواه ابن ماجه (150)، وحسنه الألباني.
[11] رواه البيهقي (18215)، والحاكم (3362)، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين وافقه الذهبي. وخالفهما الشيخ الألباني في تخريجه لأحاديث كتاب (فقه السيرة) للشيخ محمد الغزالي في كون الحديث على شرط الشيخين، ولكنه صح نزول الآية في عمار لطريق أخرى ساقها ابن جرير الطبري في تفسيره. انظر: هامش ص81 من كتاب فقه السيرة. طبعة دار الشروق.
[12] رواه أبو يعلى (1818)، وابن إسحاق في السيرة، وحسّن سنده الألباني في تحقيقه لفقه السيرة للغزالي. انظر: هامش ص84.
[13] رواه الترمذي (3925) وقال: حديث حسن غريب صحيح، وابن ماجه (3108)، وأحمد (18737)، والحاكم (4270) وقال: على شرط الشيخين وافقه الذهبي. وصحه الألباني في التعليق على الترمذي وابن ماجه، وقال شعيب الأرناءوط في التعليق على مسند أحمد: إسناده صحيح.