بقلم : الشيخ محمد الغزالي
تاريخ : 18 – 01 – 2022
النبي الإنسان محمد بن عبد الله له سيرة تنضح بالشرف وعظمة النفس والخلق٬ وكلماته في الآداب الخاصة والعامة تنتزع البشر انتزاعا من طبائع الأثرة والإسفاف وتصقلهم صقلا يجعل منهم بشرا في مستوى الملائكة٬ كيف يسكت عن هذا التراث؟ العبادات عندنا معراج روحي يوثق علاقة الإنسان بربه٬ فهو يعيش معه٬ ويعيش له٬ ويتعاون مع المؤمنين أمثاله لجعل آفاق الأرض محاريب لعبادة الله وحده٬ وذكر اسمه٬ والاستعداد للقائه! بأي حق نذهل عن هذه العبادات ونجعل قصارانا لغطا حول أمور فقهية مطاطة٬ تتسلل إليها طبائع أفراد وعادات شعوب٬ وهي سلبا أو إيجابا معذورة الخطأ.
وإذا كان الأوربيون لا يألفون إلا أن يكون وجه المرأة سافرا فليسقط النقاب ولتمضي كلمة التوحيد في طريقها. وإذا كانوا يرون أنها تتولى منصب القضاء أو الوزارة٬ فمن يصدهم عن الإسلام لأن من فقهائنا من يمنع ذلك! ألا فليسلموا٬ ولتسقط العقبات التي تصدهم عن دين الله!… من قال: إن الإسلام يشترط تبعية لمذهب فقهي معين في الفروع؟ إن في الدعاة فتانين يصدون عن سبيل الله٬ ويكرهون الناس على اتخاذ سبل أخرى. سيطر علي وأنا في كندا شعور من الكآبة والمرارة لأن نزاعا حدث في أحد المساجد٬ أتقرأ سورة قبل خطبة الجمعة أم لا؟ إن النازحين إلى العالم الجديد حملوا معهم جراثيم العفن في عالمهم القديم! وبديه أن يكونوا صورة للأقطار التي أتوا منها !هل فكر أقلهم أو أكثرهم في أسباب تخلف الأمة التي ينتمون إليها؟ إن الفراغ الذي يسود النفس المسلمة كبير٬ وفي اتساعه يمكن أن تنتفخ أنبوبة كأنابيب الأطفال٬ فتمتد طولا وعرضا دون عائق لأنه ليس ثمة إلا الفراغ لا شيء، يعوقها وتبدو ” البالونة ” المنفوخة شيئا ضخما ولا شيء فيها إلا الهواء.
لو كان للعقائد٬ والأخلاق٬ وجواهر العبادات لا صورها٬ مكان عتيد لضاق المحل دون تضخم توافه كثيرة لكان من المستطاع أن تكون الأقليات الإسلامية في أوربا وأمريكا واستراليا رؤوس جسور يعبر عليها الإسلام – وكل شيء هنالك يتطلبه٬ ويهفو إليه – لو أن المسلمين يفقهون دينهم ويصنعون من أنفسهم ومسالكهم صورا وسيمة له. أما الاشتباك في حرب حياة أو موت من أجل التصوير الشمسي أو من أجل نقاب المرأة٬ فضلا عن حقوقها الطبيعية٬ فلا نتيجة له إلا الفشل. للعرب خصائصهم النفسية والعقلية٬ ولهم تقاليدهم التي يتحركون في إطارها. ولا أزعم أن هذه الخصائص والتقاليد ينقلها التاريخ من جيل إلى جيل٬ أو أنها تلتزم مستوى ثابتا على اختلاف الليل والنهار٬ وإنما أستطيع القول أن العرب أيام البعثة المحمدية كانوا أجدر الناس بظهور النبوة فيهم٬ وكانوا أقدر الناس على حمل أعبائها وتذليل العوائق التي تعترضها!! أي أن قوله تعالى ” الله أعلم حيث يجعل رسالته ” يعم الرسل والأمم التي تسمع منهم وتتلقى عنهم! كانت الخصائص لتقاليد تميز بها العرب هي المرشح الأول لحمل الرسالة الخاتمة ٬ والنفاذ بها من الأسوار الرهيبة التي أقامها الروم والفرس حول خرافاتهم وأهوائهم..! وحمل الرسالات تكليف قبل أن يكون تكريما٬ وهو مسئولية تعصي أصحابها٬ وتضعهم بإزار حمل باهظ٬ وتدبر قوله تعالى يصف أولى العزم من الرسل٬ “وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا٬ ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما”. ما أعظم هذه المسئولية وأدق حسابها! إن الوفاء بها قد يرفع إلى الأوج والعبث بها قد يهوي إلى الحضيض! ومعروف أن العرب هم الجنس السامي٬ وأن اليهود فرع من هذا الجنس الذي قاد العالم بالوحي أمدا طويلا.. أكان اليهود في شتى الأعصار مساوين أو مقاربين لآبائهم من حملة الوحي؟ كلا٬ لقد أسفوا كثيرا٬ وقيل لهم مرارا: “اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم واني فضلتكم على العالمين”. وهيهات أن يرشدوا! إن أهواءهم الجامحة قذفت بهم بعيدا عن أماكن القيادة الخلقية. والمكارم لا تورث٬ ولكن بقدر ما يبذل الإنسان من جهد يحلق أو يهوى! والعرب الأولون ساندوا نبيهم العظيم وهو يمحو الجاهلية٬ وخلفوه – بعد لحاقه بالرفيق الأعلى – في مقاومة الليل المخيم على الدنيا فقطعوا أوصال الاستعمار القديم٬ وأطاحوا بالإمبراطوريتين الكبيرتين اللتين أذلتا الجماهير قرونا عددا… العرب – بالإسلام وحده – دخلوا التاريخ وعرفتهم القارات المعمورة٬ ولولا الإسلام ما جاوزوا جزيرتهم٬ ولما كان لديهم شيء يقدمونه للناس! ففضل الإسلام على العرب لا ينكره إلا أفاك جريء.
أما الرومان مثلا فقد دخلوا النصرانية في القرن الرابع الميلادي٬ ماذا حدث لهم؟ لا جديد! كان حكمهم من قبل ومن بعد مكينا وسلطانهم واسعا.. واعتنق اليونان النصرانية٬ فما حدث لهم؟ كانوا أصحاب فلسفة مرموقة وفكر نابه! ما زادوا شيئا بمعتقدهم الجديد! والعرب قبل محمد أو من غير محمد لا يزيدون عن قبائل أو شعوب تبحث عن رزقها فتجده بسهولة أو بصعوبة٬ أما بعد بعثته فقد تبدلوا خلقا آخر! لقد خرجوا من الظلمات إلى النور٬ وأخرجوا الناس من الظلمات إلى النور! هذه الحقيقة الاجتماعية هدى إليها العلامة ابن خلدون بعد ما غاص في أعماق النفس العربية٬ وتابع السلطان السياسي للعرب مع اتساع الدائرة الإسلامية ودخول الناس في دين الله أفواجا.. لقد أكد أن العرب لا يقوم لهم ملك إلا على أساس نبوة ولا تنهض لهم دولة إلا على أساس دين٬ وأن الإيمان بالله وحده هو الذي ينظم ملكاتهم٬ ويصون مواهبهم٬ يجمع قواهم٬ ويوحد كلمتهم٬ ويجعلهم معمرين لا مدمرين٬ وحماة مثل لا أحلاس شهوات! ونزيد هذه القضية وضوحا بإمعان النظر في خلائق العرب وفضائلهم الجنسية! العربي شديد الإحساس بشخصه٬ وهذا خلق يعين على عمل العظائم وبلوغ الغايات العصية٬ غير أن هذا الشعور الإيجابي بالذات قد يتحول إلى كبرياء وجور على الآخرين وجحد لحقوقهم !ألا تلمح ذلك في شعر عمرو بن كلثوم وهو يقول:
ونشرب إن وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدرا وطينا! أو قوله: إذا بلغ الرضيع لنا فطاما …تخر له الجبابر ساجدينا! سبحان الله !لماذا هذا الغلو؟ إن هذا جنون٬ والغريب أن جنون الشعور بالذات يكمن وراء تقاليد كثيرة تصر عليها أفراد وأسر٬ وإن كان في صور أقل إثارة وأخفى دمامة… ويقول مهلهل: ولست بخالع درعي وسيفي إلى أن يخلع الليل النهار! لم هذا التسلح الدائم؟ لمطاردة الفرس والروم الذين يحتلون شرق الجزيرة وشمالها؟ لا٬ إنه لمنازعات عائلية ظلت أربعين سنة ٬ وبدأت بقتل ناقة !الشعور بالذات هنا تحول من جهد يبنى ويعلى البناء إلى جهد يهدم وينشر الفناء ! والعربي يكره العار !حسنا ومن يحب العار؟ لكن كره العربي للعار جعل وجهه يسود إذا رزق بنتا! إنه يخاف عليها الأسر٬ ويخشى أن يصيبه من ذلك الذل !فليقتلها طفلة قبل أن تكبر وتؤسر!!.. فضائل ضلت طريقها فأمست رذائل! وما يهديها الطريق إلا الإسلام وحده٬ ولذلك يقول الله لهؤلاء ” :فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم .” ..
وقد نبأنا رسولنا عليه الصلاة والسلام بأن العرب سوف يستصحبون من خلال الجاهلية ما يشين مسيرتهم الدينية،! من ذلك الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب! والواقع أن الانتماء العرقي له مكان واسع في تقاليدنا٬ بل إن من فقهاء المسلمين من اعتد به في عقد الزواج٬ وبنى عليه شرط الكفاءة الذي لابد منه في المصاهرة (!) ولا أدري أين ذهبت مكانة التقوى؟ والفخر بالنسب مشتق من الاعتداد النفسي٬ وإن كان هنا اعتدادا من الفرع بالأصل وفي بعض البلاد تكونت نقابة للمنتمين إلى البيت النبوي ! وعهدي بالنقابات أن تكون لأصحاب المهن الفنية أو اليدوية! والمروي عن نبينا أنه قال” :من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه.” ومع ذلك فإن التقاليد العربية أعني الجاهلية غلبت تعاليم الإسلام في كثير من الأحيان٬ فوجدنا من يحتقر الحرف٬ ويأبى تلويث يده الشريفة بالفلاحة٬ أو التجارة والحدادة٬ ثم يجلس بعد ذلك إلى مائدة ليس له شرف إنتاج شيء من أطعمتها ولا من أوانيها أو كارسيها!! إنه يجيد الأكل والكبر٬ وحسبك من غنى شبع وري!! من الخير أن نعرف على عجل أن الإسلام هو طوق النجاة في هذا البحر اللجي ٬ وأن الابتعاد عنه أخطر الطرق إلى الغرق.. كان الانتماء الإسلامي هو السياج الذي نجت به ثورة الجزائر من شتى المؤامرات٬ ونجحت به في الوصول إلى بر الأمان. ثم هو الآن وراء برامج التعريب التي تعمل حثيثة لترد الأمة إلى لغتها وثقافتها وشخصيتها المتميزة.. هذا الانتماء قهر دواعي الفرقة٬ واستبقى حرارة الإيمان٬ وحدد جبهة الأعداء٬ وأرهب المنافقين والمتخاذلين فلم يفلح لهم كيد.. وإني لمشفق على ثورات أخرى أبعدت شارات الإسلام وطوت أعلامه٬ فلم تجن بعد السنين الطوال إلا فداحة المغارم وقلة الثمرات….